للفنان الألماني كاسبر ديفيد فريدريش «1774-1840»، العديد من الأعمال الفنية التي هي نتاج تأمل صوفي وروحي عميق في الطبيعة، وهو صاحب مكانة مرموقة في فن الرسم في ألمانيا، إلى درجة أن لقبه بعض النقاد بالضلع الثالث للإبداع الألماني، إلى جانب بيتهوفن في الموسيقى وغوته في الأدب، وبالفعل كان لرسوماته أثر عميق في العديد من الأعمال الموسيقية لبيتهوفن، وبدأ كاسبر دراسته الرسمية للفن في عام 1790بصفته تلميذاً للفنان يوهان كويستورب بجامعة غرايفسفالد التي صار اسم قسم الفنون فيها الآن (معهد كاسبار ديفيد فريدريش) تكريماً لهذا الفنان الكبير.
وُلد فريدريش في ساحل البلطيق في ألمانيا، ويُشار إلى أنّ الحزن الذي يسكن العديد من لوحاته هو نتاج تجربته الباكرة مع صدمة الموت، حيث توفيت أمه صوفي وهو في سن السابعة، وبعد عام توفيت أخته إليزابيث، وكذلك توفيت أخته ماريا، وكانت المأساة الأكبر عندما مات شقيقه يوهان، إذ شاهد كاسبار ديفيد في عمر الثالثة عشرة أخاه الأصغر يسقط عبر الجليد في بحيرة متجمدة ويغرق، وتُشير بعض الروايات أنّ يوهان قد مات خلال محاولته إنقاذ كاسبار الذي كان في خطر على الجليد أيضاً، ولكن هذه المآسي صنعت فناناً مقتدراً.
لوحة «صخور طباشير في روجن»، هي واحدة من التحف الفنية النادرة التي قام برسمها كاسبر في عام 1818، بألوان الزيت على القماش، وتُعد من أهم الأعمال الرومانسية في ألمانيا، وهي واحدة من الرسومات التي تعبر عن أعماق الفنان وروحه المملوءة بحب الطبيعة والحزن معاً، فاللوحة تحمل كثيراً من المعاني والدلالات لفنان درس الفلسفة وعلم الجمال، فصارت أعماله محتشدة بالرؤى الفكرية والجمالية، والواضح أن كاسبر قد تأثر كثيراً في هذه اللوحة وغيرها من التحف الفنية التي أنتجها بمرحلة الدراسة في الأكاديمية على أيدي مدرسين مثل كريستيان أوغست لورنتزن ورسامة المشاهد الطبيعية جينس جول، وغيرهما ممن تأثروا بحركة «العاصفة والاندفاع»، ذلك التيار الفني الذي مثل نقطة وسطى بين الكثافة الدرامية والأسلوب التعبيري لفلسفة الجمال الرومانسية الناشئة والمثل الكلاسيكية المتراجعة في ذلك الوقت، حيث إنّ «الحالة المزاجية»، تكاد تكون عاملاً حاسماً في أعمال وأفكار هذا التيار الذي تأثر بالأساطير القديمة وقصائد الميثولوجيا الاسكندنافية، وقد تعمق كاسبر بصورة كبيرة في تأمل الطبيعة، فمنذ طفولته كان يحب مشاهد القباب والأبراج التي تغطيها الأشجار في الصباحات الباكرة، التي يعلو فيها الضباب الأفق، وقام برسم هذه المناظر والكثير من مشاهد الطبيعة التي جعلها شاهدة على حزنه المتسامي الخالي من اليأس.
خلفية
اللوحة هي عبارة عن مشهد لصخور الطباشير في منطقة روجن، وهي شبه جزيرة في شمال شرق ألمانيا على ساحل بحر البلطيق، يحب الناس الاستمتاع بقضاء أشهر الصيف فيها لجمالها ولما يوجد فيها من هضاب وتلال طباشيرية ناصعة البياض، وكان كاسبار يسافر كثيراً إلى تلك المنطقة ليروح عن نفسه ويخلع أثواب الحزن، ويحاول أن ينسى المآسي التي تعرض لها في حياته، فقد وجد في ذلك المكان الساحر بعض العزاء والإلهام، ويبدو أنّ تلك المناظر الجميلة والصامتة وفرت له موضوعات غنية للرسم، ويُشار إلى أن كاسبار خلال أسفاره كان يرسم لوحات ذات موتيفات محددة مثل أقواس قزح وأشجار السنديان الضخمة، وهذا التأمل العميق في الطبيعة أنتج لوحات ذات قوة تعبيرية وروحية هائلة مثل هذه اللوحة وغيرها من الأعمال التي لا تخلو من المسحة الفلسفية التي تتناول مواضيع الموت والحزن وقسوة الحياة.
وصف
في مشهد الصورة يرى الناظر، الساحل المنحدر على بحر البلطيق والذي يتميز بصخور طباشيرية ناصعة البياض جميلة المنظر بصورة مدهشة، وتزين اللوحة شجرتان من الجانبين العلويين، فيما تقبع على اليمين شجرة كبيرة غالبة على المشهد، يقابلها شجرة أخرى أصغر منها تكاد تحملها جذور بارزة سطحية، بينما توجد في مقدمة الصورة منطقة عشبية خضراء يظهر عليها ثلاثة أشخاص، ويبدو أنّهم مجموعة تقوم برحلة، من بينهم سيدة تلبس ثوباً أحمر تجلس على العشب الأخضر، وشعرها مضفر، تمسك بيدها اليسرى أحد الفروع الجافة وتشير بيدها اليمنى إلى زهرة، وإلى المنخفض المؤدي إلى البحر في وسط مشهد الصورة، يوجد رجل منحنٍ على الأرض كما لو كان مرتعباً من مشاهدته منحدر الهضبة، محاولاً التشبث بالأرض والإمساك ببعض فروع العشب حتى لا يقع، شعره أبيض ويرتدي ملابس زرقاء، وأما قبعته وعصا تجواله فهما ملقيان على الأرض.
يقف إلى يمين الصورة رجل آخر شجاع، يقف على أحد الفروع مطلاً على المنحدر، وسانداً ظهره على ساق شجرة، واضعاً ذراعيه على صدره، وهو يرتدي قميصاً أخضر مع اللون الرمادي، وعلى رأسه قبعة يطل على البحر، وهناك بعض الأمواج القليلة على سطح الماء الهادئ تعكس أشعة شمس الظهيرة، وفي البحر قاربان شراعيان أحدهما قريب والآخر بعيد، بينما الألوان الهادئة تعطي مشهداً يُشير إلى السرور والغبطة.
عُدّت اللوحة من الأيقونات النادرة، وتناولها الكثير من النقاد حول العالم، وهي اليوم في متحف كونست فينترتور في سويسرا.