تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » جاذبية الصور القديمة

جاذبية الصور القديمة

جاذبية الصور القديمة

مصطفى راجح

تبعث الصورة القديمة شجناً عميقاً في النفس؛ حنينا للحياة البسيطة، يمتزج بشغف الخيال عن أزمنة عتيقة فاتها التوثيق، وكانت الصورة فيها حدثاً نادراً.

من أين تأتي صور الأبيض والأسود بجاذبيتها في زمن تطور رقمي مذهل جعل الصورة حالة يومية مكثفة في حياة كل إنسان على كوكب الأرض؟

في الصور القديمة كانت العيون تشي بقوة ذات، أمل متقد، ثقة بالحياة تلحظها في بساطة المظهر، قوة تشع من الوجوه والملابس القديمة البالية، وما حولها من تفاصيل أليفة.

كلما تطورت تقنيات التصوير الرقمية، زاد شغفنا وانجذابنا إلى الصور القديمة وأفلام الأبيض والأسود. كلما نظرتُ في صورة قديمة تغمرني ألفة غامضة وطمأنينة عصية على التفسير. ليست عبادة الماضي بقدر ما هي حالة مرتبطة بفقدان المعنى في عالم يزداد خواءً، كلما تطورت تقنياته الرقمية وأدواته.

الأمل كان موجودا، الثقة بالمستقبل، البساطة التي لم تعصف بها بعد زحمة الزمن المعلوماتي، والمدن المكتظة بأعداد لا حصر لها من بشر يلهثون في مسارات دائرية متسارعة لا تتوقف.

الصور القديمة، لحظات وثقتها الكاميرا، يبدو كل وجه فيها ممتلئاً ومضيئاً بالصورة الحقيقية لروحه.

الصورة في زمن التواصل عبر الشاشات والرقميات لم تعد لقطة من الحياة بل بديل عنها، لكنها فقدت ألقها، جاذبيتها. الحياة الغارقة في تدفق صور لا نهاية لها يتم إفقارها مما هو خام وطبيعي وأصيل.

-أرشيف الفنان عبدالرحمن الغابري

كلما ذُكرت الصور القديمة يحضر في ذهني اسم الفنان عبدالرحمن الغابري. ليس مجرد فنان فوتوغرافي ومخرج سينمائي ومدير تنفيذي لمؤسسة الهوية اليمنية. قبل ذلك وبعده، هو إنسان أصيل ذو حضو واسع، ويمتلك إحساسا رفيعا، وينتمي لقيم الحداثة بقدر ما يعبِّر عن شخصية فريدة تنتمي لليمن وتعبِّر عن كل ما هو جميل في تاريخها وحاضرها.

صفحة الغابري التواصلية نافذة نطل من خلالها على لحظات مضيئة من تاريخنا. ومضات من أرشيف ثري يشتغل عليه بجهوده الشخصية، يسهر على توضيح ملامح وحيوات ومشاهد من تاريخنا المعاصر في أهم مرحلة عرفتها اليمن.

مع مضي الزمن تتحول الصور إلى لوحات دالة على زمنها ومحتفظة بنغمته الخاصة به على شكل وجوه وملامح، رموز وملابس وأزياء تقليدية ومدارس ومسارح، تشي بروح زمنها.

صفحة الأستاذ الفنان عبدالرحمن الغابري أرشيف فوتوغرافي يمني نادر. أرشيف فني لليمن يوثق ناسها ومدنها وفنونها وتاريخها وفنانيها، وأبرز مبدعيها، وأحداثها، وفعالياتها العامة خلال أكثر من نصف قرن.

وثقت كاميرا الغابري لحظات نادرة حية لفنانين وفرق فنية، ويمنيين ويمنيات كانت حياتهم صافية وبهية التقطت الكاميرا بعض لحظاتها، وحوَّلتها إلى لوحات فنية. لحظات تتأمل فيها فرقا فنية وموسيقية، وكورال غنائيا جماعيا في المدارس التي كانت ساحات اكتشاف مواهب فنية من خلال حصص الموسيقى والتربية الفنية، في سبعينات القرن الماضي، وبداية الثمانينات.

عبدالرحمن الغابري وثق الحياة العادية لليمنيين بقلبه، مثلما التقط صورا للفعاليات الرسمية من عدسة كاميرته. عدسة الفنان الغابري هنا هي عين قلبه، وهي سمته الأساسية.

في أرشيفه تجد وجوه الناس العاديين الذين لا تظهر صورهم في نشرات الأخبار والصفحات الأولى للصحف الرسمية. وثق كفاح المرأة اليمنية في الحقول، وانطلاقها في مجال الفن والمسرح والمدارس والمجال العام في زمن ميلاد اليمن، سنوات شبابها وفتوتها في الستينات والسبعينات، وإلى حدٍ ما الثمانينات.

من الصور التي علِقت في مخيلتي صورة لمجموعة من الفتيات اللاتي تطوعن في الفِرق الفنية في المدارس والمسرح العسكري، وصور للمسارح الفنية والغنائية في السبعينات؛ تحديدا النصف الأول من الثمانينات.

في تهامة تعلم الغابري الكثير، كما كتب في صفحته “من وجه زرنوقي بهي” صادفه في إحدى زياراته إلى تهامة.

أتذكر الصورة تماماً: معمر زرنوقي من تهامة، التقاه في حقل الغرب عام 1983، ورآه بهياً بقامة فارهة وممتلئة بالعافية، فسأله عن سر ذاك البهاء التهامي، فأجابه:

«أنا اشرب لبن الإبل، وآكل غرِب ودُخْنْ، ولم أعرف نفسي يوماً أنني زرت حكيما (طبيبا)، وأنتم معكم سندوتشات وعصائر، ما منها إلا مغص ووجع رأس».

في أرشيف الغابري نتأمل الملابس التقليدية للمرأة اليمنية والأنشطة التي كانت تقوم بها، سواءً تلك التقليدية المتوارثة في القرى أو اقتحامها للمجال العام في الفن والتعليم والعمل والمؤسسات الثقافية والإعلامية في زمن ما بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر.

كم هو آسر حس العودة للزمن الفائت موثقا في صورة.

أرشيف الغابري شريط طويل يوثق ولادة اليمن. وجوه تنبض بالأمل: صورة طالبات في كلية الآداب نهاية السبعينات من القرن الماضي، عاملات في مصنع الغزل والنسيج، فلاحين وفلاحات في قرى اليمن وسهولها، أدباء وكُتاب وثقت كاميرته لحظات متميّزة من حياتهم، في بيوتهم، وفي فعاليات عامة كانوا جزءاً منها.

الصور في زمن ما قبل ثورة سبتمبر وأكتوبر كانت نادرة. الفيديوهات المتداولة من ذلك الزمان لا تزيد عن عدد أصابع اليد، مقاطع صغيرة سجلتها بعثات أجنبية روسية وأوروبية. أرشيف الرحالة الأوروبيين يحتوي عددا لا بأس به من الصور القديمة، وكثير منها يتتبعها اليمني في متاحف وأرشيفات خارج اليمن، مثلما يبحث عما تحتويه مكتبات أوروبا من كتابات عن بلده، الذي أدرك أهميته زواره الأجانب من باحثين ورحالة، أكثر مما فعل أبنائه.

عشاق اليمن كثيرون؛ من هؤلاد الطبيب السويدي بيرون وينغربن، الذي عمل طبيباً في اليمن في السبعينات والثمانينات، وبجانب عمله أنجز أرشيفا نادرا من الصور الفوتوغرافية عن اليمنيين وحياتهم، مدنهم، بيوتهم، وديانهم، طرقهم، وأضاء زوايا عديدة في واقعهم، وثقها بالصور التي خرجت إلى النور في السنوات الأخيرة.

يحتاج هذا الرجل إلى وقفة خاصة للكتابة عنه، وعن ألبوماته القيمة من الصور القديمة عن اليمن، وتعز تحديدا، التي جمعها من الطيارين والميكانيكيين السويديين الذين عملوا في إنشاء مطار تعز في الخمسينات.

أكتفي هنا بالإشارة إلى ما كتبه فهد الظرافي عن الطبيب السويدي، وفهد عاشق لهواية جمع الصور القديمة، وتحديدا عن تعز. وأما قناة “بلقيس” فقد قدمت للجمهور الطبيب السويدي في مقابلة تلفزيونية، كانت نافذة مهمة للتعرف على شخصية عاشت في اليمن وخدمت اليمنيين، وعشقت بلدهم، وبقيت عالقة في صورهم وذكرياتها بينهم.

-صورة قديمة في حياة خوسيه ساراماجو

في كلمته التي ألقاها في حفل تسلمه جائزة نوبل للأدب، يتذكر الروائي البرتغالي خوسيه ساراماجو صورة قديمه لوالده ووالدته. صورة قديمة كانت جملة مفتاحية في كلمته؛ إذ كتب يقول:

«كنت أرسم وجهيهما وأعيد الرسم من جديد بقلم رصاص، وفي كل مرة كنت أغير فيها معالمها محاولاً أن أضيء جبال غامقة ومعتمة في الذاكرة، كمن يحاول تصحيح رسم خريطة غير واضحة المعالم لبلد يريد أن يسافر إليه.

وقد قادتني عادتي تلك بتتبع الخيال إلى اكتشاف صورة قديمة (عمرها اليوم ثمانين عاماً)، يظهر فيه والديَّ بثياب أنيقة ينظران مباشرة نحو الكاميرا ويبديان انطباعاً رسمياً مبالغاً فيه، أغلب الظن أنها هيبة اللحظة التي ستلتقط فيها تلك الصورة التاريخية التي لن تعاد مجدداً؛ لأن اليوم التالي سيكون يوماً آخر.

كانت أمي تضع يداً على خصرها، وتحمل وردة باليد الأخرى الممدودة إلى جانب جسدها، بينما يمرر والدي يده وراء ظهرها، ويضع اليد الأخرى على كتفها لتبدو كجناح.

يقفان بخجل على سجادة موردة، وفي خلفية الصورة قماش يظهر رسم غير متناسق لبناء كلاسيكي حديث، عندما انتهيت من مطالعة الصورة قلت في نفسي: سيأتي اليوم الذي سأتكلم فيه عن كل هذا»؛ ذلك اليوم هو يوم احتفال ساراماجوا بجائزة نوبل الذي توج سيرته الإبداعية، وكافأه عليها باعتراف عالمي بفرادته كروائي.

الصورة القديمة هنا كانت اكتشافاً لاحقاً للخيال، وكأنها تتجاوزه. اشتغال ذهني فذ يرفع الصورة القديمة إلى مرتبة تتجاوز اللوحة، لتحضر في كامل بهائها كاكتشاف في الواقع يحقق ما نحته الخيال في ذهن الروائي. كما أنها مفتاح لكتابة روائية، حوَّلها ساراماجوا إلى رسمة سردية متناثرة بين رواياته، تحضر مجزأة ومجمعة، في الظلال وعلى منصة السرد بين الشخصيات وأبعادها المتعددة.

– تكنولوجيا تلتهم الإنسان

التكنولوجيا تلتهم الإنسان كلما وضعت أدوات أكثر تطورا في يده. التطور ليس بالضرورة إلى الأفضل. تطور التقنية والأدوات المادية أحدث نقلات كبرى وهائلة، مع ذلك نتج عنه نمط حياة متسارع يكاد أن يكون مرتبطا بعلاقة عكسية مع المعنى، الحقيقة، الثقة.

هذا الضخ اليومي من الصور واستنزاف الأحاسيس يترك المتلقي مجوفاً وبلا إحساس، من اتساع قائمة الأحداث المتدفقة فوقه، وسلسلة الأحاسيس المتناوبة حالته. في الأخير يقال له إنه أصبح في “عالم ما بعد الحقيقة!”، لا لاختلاط الصورة الحقيقية بالصورة المزيفة بإتقان في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بل لكون الأحداث نفسها تفقد معناها حين تغدو سلسلة يومية متتابعة تتنتظر المستهلك / المتلقي.

المستهلك الذي أوهم أنه «صانع محتوى» في آلة تدور بوتائر عالية، ولا تسمح له برد أنفاسه، ناهيك عن أخذ مسافة لتمييز الأشياء، وتركها تتصفى في ذهنه.

هذا في عصر التدفق المعلوماتي، زمن الموبايل والإنترنت والشاشات والتلفاز والسوشيال ميديا التي تقطع الأنفاس، ما الحال قبل قرن ونصف، وتحديدا النصف الأخير من القرن التاسع عشر؟!

عينا الصقر لدى نيتشه جعلته يستشرف كل هذا الانخطاف للخارج، والمتابعة والسحق الذي يتعرض له وعي المشدود إلى الصورة والأحداث وتدفقها خارجه.

مع أن مفردات واقع القرن التاسع عشر لم تتعدَّ الصحيفة، اللوحة، الموسيقى، والكتاب المطبوع، ولم يكن نيتشه قد عرف زمن الراديو والتلفزيون، ناهيك عن الأجهزة الرقمية وشبكة الإنترنت والسوشيال ميديا، ومع ذلك كانت الصورة أمامه واضحة إلى حد يفوق قدرتنا على استيعاب هذا الوضوح.

يتحدث نيتشه في كتاب من بداياته “محاسن التاريخ ومساوئه” عن أن التضاد بين الداخل والخارج يجعل الخارج أكثر بربرية.

يتساءل قائلا: ما الوسائل التي تتوفر في الطبيعة الإنسانية حتى تسيطر على ما يفرض عليها بوفرة؟

يقول: الوسيلة الوحيدة تتمثل في القبول بها وبسهولة، وبعدها تضعها جانبا قبل أن تعمد إلى طردها في أسرع وقت ممكن. هذا بدوره يصنع تلك العادة التي تجعلنا لا نأخذ بجدية الأشياء الحقيقية، ومن هنا تولد “الشخصية الضعيفة” التي بسببها لا يخلّف ما هو واقعي وما هو قائم سوى انطباع ضعيف، لنصبح في النهاية أكثر تسامحا وكسلاً في التعامل مع الأشياء الخارجية، ونوسع الفجوة المقلقة بين المضمون والشكل إلى حد فقدان الإحساس بالبربرية، طالما أنه يتم توتير الذاكرة دائما من جديد، وطالما أن الأشياء الجديدة لا تتوقف عن التدفق، تلك التي تستحق أن نعرفها، والتي يمكننا أن نرتبها باهتمام داخل الذاكرة.

إذا كانت «الشخصية الضعيفة» نتاجا لحياة النصف الثاني من القرن التاسع عشر ببساطتها وهدوئها ومحدودية وسائلها التكنولوجية، فبماذا يمكن أن نصف اليوم تشوهات الشخصية المقيمة في الشاشات؟

لنتخيل أثر سلسلة تدفق الأحداث اليومية خلال عشر سنوات مضت، مثلاً، وحجم الشد الذي تعرضنا له في اليمن، وكيف تركتنا كل هذه الأحداث بعد كل ذلك اللهث المحموم الذي لم ينقطع ولا زال يتدفق، وكل موجة من الصور والأحداث تطوي التي قبلها، لتبدأ الذاكرة المنهكة والإحساس المنهك في التوتر اللا نهائي، وهما مع صاحبهما أسيرا دوامة تدور بلا انقطاع!

خاتمة:

الصورة القديمة محاولة للإمساك بالزمن الجميل؛ إشراقات الطفولة، الحياة البسيطة، الخطوات الأولى في دروب كانت تبدو ملبدة بالوعود.

الصورة القديمة مثل المعدن الثمين والنادر واللوحات الفنية، تزداد أهميتها مع مضي الزمن. يُختزل زمنها الغابر فيها، وكأن قدرتها على الإلهام والإفصاح عن مكنونات ما انطوى من الزمن القديم وشخوصه وأحداثه تتجاوز اللحظة التي وُلِدت فيها وحددتها.

والحياة أساساً عندما تُعاش بتلقائية وبساطة، تبدو مليئة بالجمال الذي يوثق الفنان لحظات صغيرة منه. فنان الكاميرا والصورة هو فنان حياة أساساً. من هنا لا تستطيع التفريق، وأنت تنظر نحوه، بين فنه وحياته.

على عكس الزمن القديم، لم يعد لدى إنسان عصر المعلومات الوقت الكافي ليتأمل ويراكم الخبرة الذاتية. الصورة والمقالة والمنشور، وكل تعبيرات تصدر عنه، تلتهما أجهزة فاغرة؛ شاشاتها كانّها ثقب رقمي أسود يبتلع كل شيء يصدر عن البشر، ويلتهم البشر أنفسهم تدريجياً، واضعاً «العقل الرقمي الاصطناعي» بديلا عن وجودهم الحقيقي في نهاية المطاف.

هنا تتحول «الصورة» إلى حياة افتراضية بديلة، بدلا من كونها التقاطة تحاول الإمساك بومضة فلاش من الحياة الحقيقية.

نقلا عن موقع قناة “بلقيس”