مصطفى راجح
عرفت الفنان هاشم علي في وقت مبكر، وكنت حينها لا أزال في الإعدادية. شقته الشهيرة في عقبة تعز كانت مجاورة لمحل خالي عبدالملك الصراري.
بعد ذلك بسنوات، في يوم ما من أيام الزمن الجميل، أخذني أخي أحمد إلى مقيله. كنت في أول ثانوي تقريبا، أقيم وأدرس في صنعاء، وأقضي الإجازة الصيفية في تعز.
أعرف عادات هاشم علي جيداً. في الثانية عشرة ظهراً يشتري القات من صبريات السوق الداخلي للباب الكبير. في الثانية عشرة والنصف يكون قد بدأ مقيله. في الساعة الرابعة عصراً ينتهي مقيله ويدخل مرسمهُ. هذه عادته التي لم يغيّرها ولم يبدلها حتى رحيله.
ترددت على مقيله كثيرا في الثانوية وأيام الجامعة وبعدها. كنت أفضل قضاء العطلة الصيفية في تعز لسبب واحد: أن أحظى بالتردد على مقيله، ورؤيته، والاستماع ل”صمته” الأوسع من كل كلام.
في مقيله، أستمعت لقراءات تتجاوز السياسة والآني والعابر. مغامرة العقل الأولى، كما أتذكر، كتاب سمعته مقروءاً في مقيله. كتب أخرى في السياق نفسه، عن أساطير اليونان، وفلسفة الفن عبر التاريخ، سمعتها في جلسات أنيقة في مقيله.
كل ذلك في ثلاث ساعات من الواحدة إلى الرابعة. بعدها يقوم المعلم، ويدلف إلى مرسمه، تاركاً ضيوفه في المقيل، ولم يكن أحد من الحاضرين يشعر بإحساس آخر سوى أنه في بيته.
هاشم علي، الفنان والمفتون بقراءة الفلسفة والأساطير القديمة، كان يبدو لي كأنه واحد من متصوفي التبت الصينية، أو شخصيات العلوم القديمة قبل الميلاد.
في وقت لاحق قرأت عن “الطاوية” فلسفة الصين القديمة، وديانتها الروحية. حينها تذكرت هاشم علي.
حكيم الصين الأعظم “لاو تسي”، الذي أسس الديانة / الطريقة (الطاوية)، لم يكن لي أن أتخيل صورته إذا لم أعرف هاشم علي.
هاشم علي صاحب فلسفة حياة. فلسفة تصوفية وجودية تقترب من الرؤى الكونية للطاوية الصينية، البوذية، وفلسفة هنري يرجسون وتصوره الوجودي للحياة.
لم يقل يوما كلاما شبيهاً بهذا؛ لكن ملامحه، هيئته، فلسفته في عيش الحياة، كلها تقول ذلك.
كلما أوغلت في قراءة البوذية و”الطاوية” والعلوم القديمة والتصوف الفلسفي وفلسفة الحياة والوجود عند يرجسون، تتثبت أمامي صورة هاشم علي، بين السطور، وخلفها، وبين كل كلمة، والتي تليها.
أول مرة ألتقي فيها الشاعر عبدالله قاضي، كان ذلك في مقيل هاشم علي، وأنا لا أزال أتلمس خطواتي الأولى في الحياة، وفي الوسط الثقافي والفني والأدبي.
أتذكر لقاء في منزل هاشم ألقى فيه عبدالله قاضي قصيدته الشهيرة عن هاشم علي، بعنوان “قبوة كاذي للفنان هاشم علي”، وفي مطلعها يقول:
أيها الطيب الذي لا يشبهه أحد
ويشبه كل الكائنات
أيها العاشق الذي لا يمل الأسفار
آهٍ منك أيها الصياد
لماذا حين تغني لوحاتك
وتروي لنا الشعر
يلمع في أفق عينيك برق الفرح
ويرحل عن عش روحك طير التعب
وتنفض عنك جبال المشقة.
وفي مقيل هاشم علي كان بإمكانك أن تتعرف على فنانين شباب في بداية مسيرتهم الفنية؛ يحضرون للمعلم ليتعلموا منه فلسفة الحياة قبل أن يتعلموا منه الفن والطرق المُثلى لاكتشاف مواهبهم وذواتهم.
آخر لقاء لي معه كان أثناء تكريمه في فعاليات “صنعاء عاصمة الثقافة العربية”. في بيت الثقافة، حيث عرضت لوحاته الفنية، همس في أذني: أفضل لك يا مصطفى أنك انتقلت إلى صنعاء. تعز انتهت ولم تعد مدينة!
كان كلامه يشير إلى سياسة أفرغت تعز من كل شيء جميل فيها. تعز تحولت من 94 وما بعدها إلى حالة مختلفة تماما عن تعز الستينات والسبعينات والثمانينات، والنصف الأول من التسعينات.
-سيرة تؤلف تاريخاً جديداً
يُعْرف الزمن بمبدعيه الكبار، يتحولون إلى بطاقة تعريف بلحظتهم التاريخية، وبهم تقاس. هنا لا يعود الفرد محصوراً في سيرته ومعاشه، بل الفرد المتوحد بما اختاره لنفسه. وهاشم علي “المعلم” الفنان المبدع الخلاق، وقبل ذلك الإنسان الممتلئ بغبطة الروح المتجددة وصفاء العقل؛ واحد من هؤلاء الكبار. نوع نادر من البشر تختاره عناية ما ليرتقي إلى مستوى الفرد الذي يتجسد فيه الكل. هنا نكون إزاء فرد يخرق المألوف والسائد.
عناية ما تدفع بهكذا فرد إلى الاختيار الحر لارتياد خط آخر يحفظ للمشهد الإنساني ملامحه، ويحمي المنطقة الشفافة الضئيلة التي في العمق من التشويش الكامل للخراب. يتجاوز شروط واقع مثقل وممتلئ بكل ما يشد الإنسان إلى التقزم والعجز ليحفظ الحس البريء والصادق.
وبقول أبسط: حس الإنسان وجوهره، يجسده في شخصه وما تخطه أنامله في فضاء الألوان.
وفي ذاته – وهي اللوحة الأولى لهاشم وشرط كل إبداع حقيقي، وفي عالمه الفني؛ يجد الإنسان ضالته في خضم الفقدان الشامل: فقدان الوضوح، وفقدان المعنى، وفقدان التوازن، وسيادة المخاتلة والهذيان – وتلوث المشاعر الإنسانية بالوحل.
في أفق «المعلم» الرحب يلغى الزمان والمكان المؤطران للحياة الفردية، ليأخذ الكون بأكمله مكاناً له. حينها لا يكون الزمن بيومه وساعاته، وليله ونهاره وتواريخه، هو مايميز لحظة ما عن غيرها. ما يميز لحظة ما عن غيرها شيء ما يسمى التألق الإنساني الممتليء بالقدرة على العطاء الفاعل، والمالك لجرأة الاقتحام كي يرسم للإنسان صورته التي تليق به دون سواه.
وفي مثل هكذا فرد، يذوب التاريخ الاجتماعي بأرقامه، حروفه، ومعالمه:
الحروب، الكدح اليومي، الثورات، المجاعات، الطغيان، الضوضاء، الصراخ السياسي.. ليبقى هو وما أبدع مقياساً لجدارة الفعل وديمومته، ومقياساً لتاريخ ما عن غيره، وهو وما أبدعه ما يعطيه لوناً، ونكهة، وملامح.
وهنا فقط يكون من حق الناس، الذين أحبهم هاشم وخلدهم، أن يأخذهم الزهو بلحظة صغيرة وغامضة في خط التاريخ اللا نهائي تسمى “زمن هاشم علي”.
زمن قضينا فيه حياتنا، وأجزاؤه تتشكل منا جميعا. إنه الفنان حين يقوم بدوره كاملاً غير منقوص… دوره أن يقهر بؤس الإنسان ونواقصه، أن يعطي القيمة العليا في إبداعه الفني للصدق والعمل والكفاح من أجل الحياة.
دوره في أن يكون بسيرة حياته، وما تخط أنامله بيان تبجيل للإنسان الحق، وبيان إدانة لعالم يكثر فيه الظلم والعجز والبؤس، ويتوارى فيه الإنسان الحقيقي والحُب والعلاقات المتخففة من الخداع والزيف والخيانات.
لا مكان في لحظة هاشم علي إلا للإنسان على حقيقته.. الإنسان وقد نفض عن كاهله كل ما يعيقه في سعيه إلى جدارة التسمية؛ إنسان. إنها سيرة حياة تستلزم المغامرة والخروج من المجال المغناطيسي لحياة مألوفة ومكرورة واعتيادية ومتعارف عليها.
أن تختار المضي في خط لم يحدد لك من قِبل الذين يحددون خطوط الطول والعرض: كيف تعيش، كيف تنجح، كيف تندرج في صحراء التشابه المجدبة. خطوط كثيرة حيث الشطارة، ولقمة العيش، والوظيفة الأكثر ربحاً والأكثر جدوى.
هذا الاختيار المفضي إلى أفق رحب لا يكون لإدانة الناس، ولكنه هو وحده، تاريخهم ومرآتهم ومشهدهم.
– الفيلسوف والمُلهِم
كان هاشم علي يمتلك فلسفة ورؤية للحياة، وهذا ما جعل منه فنانا مُلهِماً ومعلماً لجيل من الفنانين التشكيليين الشباب، ومثالاً للوسط الأدبي والثقافي اليمني، وقيمة عليا للشعب اليمني وأحد عظمائه الكبار في القرن العشرين.
هاشم علي “معلم حياة” إلى جانب كونه فنانا تشكيليا، و” معلم فن” تخرج على يديه نخبة من الفنانين التشكيليين المتميزين.
يكتب هنري ميللر عن هذا النوع من الفنانين الكبار قائلاً:
“المعلمون هم أبعد من سلطان الإبداع؛ فهم يعملون في النور الأبيض الطاهر للكينونة. لقد انتهوا من الصيرورة، وامتزجوا بقلب الخلق، كاملي التحقق كرجال، ومتألقين بتوهج الجوهر السماوي. لقد بلغوا من تجلي النفوس مرتبة؛ ليس عليهم فيها إلا أن يشعوا ألوهيتهم”.
كل فنان أصيل لا يكون هناك انفصام بين ارتقاء شخصيته، وارتقاء فنه.
لن يكون بإمكان أي مراقب أن يتحدث عن لوحات الفنان المعلم هاشم علي دون ربطها بشخصيته الفريدة وفلسفته التصوفية عبر الفن والتأمل الوجودي في مرسمه، الذي كان خلوته التي يجد فيها ذاته متأملا في حقيقة الكون، ومحاولاً ترجمة إشراقاته بلغة الألوان والخطوط والظِلال والضوء والوجوه البسيطة لبشر يعرفهم ويغوص عميقاً فيما لا تفصح عنه ملامحهم، وما حفرته خبرتهم وزمنهم على تضاريس الوجوه ولغة العيون؛ كصورة تعكس اليمن ومكنونها على وجوه ناسها وبسطائها.
لا أقرب إلى التصوف من لغة اللوحة التشكيلية التي تتجاوز الإطار اللغوي المألوف إلى لغة الرمز والإيحاء بالمعنى. إيحاء عن معنى احتمالي متعدد يحتاج إلى عين القلب وأفق الخيال والوجدان لا مشاهدة النظرة الاعتيادية وتحديق المتلقي السلبي الذي يتصور مكنون اللوحة الفنية وأسرارها في مكان خارج ذاته ووجدانه، وقائماً على سطح اللوحة، ويتوهمه معنى وحيد يدركه الجميع بنفس الطريقة، بينما هو معنى متعدد ومتنوع واكتشاف أسراره مشروط بمتلقٍ ذي بصيرة كاشفة لا بصرٍ جامد.
كان هاشم علي يعلمنا بصَمْتِه مثلما يعلمنا بمنجزه الإبداعي الذي تعِّبر عنه ثروته الفنية المتضمنة عشرات اللوحات التي لم تكشف أسرارها ومكنوناتها بعد.
ويعلمنا، هنا، تحمل معنى التربية الروحية التي تنقي الذات وتدربها على إدراك كنه الوجود وسر الإبداع وعظمة الله، والكون بمجمله ككل متحد ومتعاضد ومترابط بكل ما فيه من بشر وحجر وكواكب وأكوان وسماوات.
التصوف الفني عند هاشم علي بُعد واحد من أبعاد شخصيته الفنية. البُعد الآخر هو تمجيد الكفاح الإنساني والحياة اليومية للناس العاديين. هنا يدمج الرؤية الكلية للوجود مع بساطة الحياة التي تتبلور في مصفاة ألوانه، وتتصفى من رتمها المعتاد لتتشكل لوحة فنية تنقل البسيط والعادي إلى مدار الجميل والأبدي. يرى وحدة الوجود في الكفاح الإنساني للمرأة والرجل، في التحليق الذهني للمزاج المتأمل في التقاطات متنوعة رسمتها أنامله وجسدتها لوحاته.
السمة الأساسية للكون هي التغير الدائم والحركة والتدفق دونما ثبات أو انقطاع. كل شيء يرتبط مع كل شيء، ولا يمكن فهم أي جزء فيه دون النظر لترابطه مع الكون بمجمله. هذه هي فلسفة هاشم علي التي تقرأها في صمته ولوحاته وتعبيراته في عدد محدود من المقابلات الصحفية التي أجريت معه.
كنت أقرأ تعليق فنان تشكيلي اسمه “أليكس جراي” على رؤيته الفنية ولوحاته، وخلف الكلمات أرى هاشم علي: تحسهُ مثل ألكس جراي متحد بالروح الإبداعية للكون، بالمصدر النهائي للكائن، جذر كل وجودنا، الواحد اللا نهائي.
قال هاشم علي إن المرء عندما يرتقي بشخصيّته ومنظوره الجمالي وإبداعه يتجسد فيه الكُل؛ يغدو الواحد المعبِّر عن الكل، لا على طريقة زعماء السياسة الجوف بل بجمالية إبداعه واستلهامه للقيم الجمالية والإنسانية.
ينسج ألكس جراي على المعنى نفسه إذ يقول:
“إن الحب الذي لا حدود له، الذي ذهب في صياغة جميع التجليات في جميع الأبعاد، يفوق إدراكنا. اتحاد الوعي البشري والإلهي يشكل نسيج الفضاء والزمان الذي تترسخ فيه الذات ومحيطها.
لقد خُلِق العقل والروح البشرية مع القدرة على التفكير الذاتي، نحن مدفوعون بالسعي إلى المعنى والعلاقة مع مصدرنا الإبداعي الكوني، وسنواصل السعي حتى نكتفي بالعثور على موطننا الروحي. أحيانا نشعر بوجود الإلهي في وضوح التأمل”.
هذه رسالة الفن كما يقدمها هاشم علي، وكل فنان خلاق:
“مهما كانت ظروف حياتك، تمسك برؤية الجمال والرحمة والحكمة والإبداع، وانتصر في كل المحن. تأكيد وحدة الإنسانية وشبكة الحياة العظيمة. تذكر، يمكن لكل منا أن يجلب السعادة لنفسه وللآخرين من خلال مشاركة الجمال والبهجة في نفوسنا من خلال التعبير الإبداعي”.
-اللوحة الأولى لكل مبدع هي شخصيته
كان هاشم علي يقول دائماً إن اللوحة الأولى، أو القصيدة الأولى، أو المنجز الأول لأي مبدع هو شخصيته وتكوينه الإبداعي المتميز كذات وحساسية، ووجدان وبصيرة، ووجود إنساني، قبل أن يكون تكوينا ثقافيا وخبرة نفسية، وقبل أن يكون خبرة موضوعية.
وكان هاشم علي مستوعبا للبُعد الفلسفي لشخصيته وطريقة حياته التي عاش خلالها عصاميا زاهداً متخلياً عن الدنيا وثقالاتها عن قناعة ورضا.
عاش في شقة بالإيجار في تعز حتى مات، وهو الذي أنجز كوناً فنياً فريدا لليمن، لوحات فنية وفنانين تتلمذوا على يديه وفي مدرسته / شقته.
لم يمتعض يوماً من فاقة أو عوز، فمثله يملك الكون بمجمله بروحه الفائضة الجمال، وبهاء وجدانه وسمو نظرته.
وطوال حياته كان الحبور والرضا والجمال والمعنى الرفيع عنواناً لوجهه ونطقه الهادئ المترفق بالكلمات، وريشته التي تمر بخفة وأناقة ولمسة حكيم كبير على قماشة الرسم.
الكبير لا ينتظر الاعتراف
ولا يهتز إذا جحده الآخرون،
ولا ينتظر جزاءً ولا شكوراً..
هاشم علي كبير
أسس الفن التشكيلي،
وعاش حياة بسيطة مستأجِراً شقة صغيرة بعقبة تعز، وعانى من قلة ذات اليد.
لكن، لا أحد سمعه يوما يشكو النكران، ويندب حظه، ويشكو الحاجة، وأنه لم يُكافأ.
وغيره كثيرون في حقل الأدب والثقافة والكتابة والفن، لم يقدموا شيئا يستحق الذكر، وحياتهم كلها شكوى من النكران والجحود، لا نلقاهم إلا متذمرين يشكون ويبكون.
أن يسعى الآخرون لإنصاف المبدع وتكريمه وتقدير مكانته والعناية به في حياته أو مرضه فهذه مواقف في مكانها الصحيح، ومفهومة ومقدرة ومطلوبة، أما أن يتحول هو إلى شخص مهزوز يتبرّم من الحياة والإنكار، وسوء الحظ والجحود، فهذا هو البؤس في أسوأ صوره.
والمبدع لا يكون بائسا أبدا؛
لا يعرف البؤس من أدرك ذاته، وما تنطوي عليه من معنى، وما تكتنزه من قوة.
أصالة هاشم علي، ذاتاً وإنجازاً، ستبقى خالدة ما بقيت الحياة.
كان جميلا، وناشراً للجمال.
قلة نادرة هم من كرسوا حياتهم للفن، وتركوا أثراً جميلً في ذاكرة هذه البلاد، وهاشم علي واحدا منهم، بل في صدارتهم.
سلام عليك أيها المعلم الإنسان، حياً، ومنتقلاً إلى المستوى الأعلى، ويوم تبعث في رحاب الخالق العظيم.
نقلا عن موقع “بلقيس”