مصطفى راجح
لا نمسك بالطابع الخاص لأي فنان من خلال الكتابة السيرية، والتتبع الخطي الزمني لأغانيه، والشعراء الذين ارتبط بهم، وكتبوا أهم أغانيه، التي ميزته وأشتهر بها.
لديَّ أسلوب مختلف عن هذه الكتابة السيرية الخطية؛ لا أتجاهلها تماما، ويمكن أن أستفيد منها وأتناولها، غير أن المفتاح، بالنسبة لي، يقع في مكان مختلف عن مسار التتبع الزمني الخطي؛ مفتاح أي فنان هو السِّمة الأساسية التي تميّزه عن غيره من الفنانين.
لكي تدرك فنانا ما عليك أن تبحث عن المعنى الأساسي الذي اهتم به: نغمة صوته وما يشي به، الهاجس الذي سيطر عليه، وتناوب في طرقه وترجمته بين الحين والآخر في أغانيه، المدى الذي تمكّن من الوصول إليه، وتجلَّت فيه هويته الفنية وإبداعه.
لماذا يُقال إن الفنان ينتمي لفنّه، بدلاً من القول إن الفن، الذي أنجزه، ينتمي لشخصه؟
لسبب بسيط هو أن هويته تتكثف في أغانيه، وما تمكن من إبداعه، وبدونها تبقى روحه الأساسية، التي تمثل شخصيته، مجهولة. يكتشف الفنان ذاته الحقيقية بواسطة ما التمع منه في نغمة صوته وأغانيه.
من أين يمكن أن ندخل في تردد الفنان علي الآنسي؟ وكيف لنا أن نمسك بالموجة الأساسية لصوته وشخصيته وأغانيه؟
لنقرر أولاً أنه من نوع نادر من الفنانين، نوع لا يرى فنّه منفصلاً عن ذاته.
الفن مثل الحُب؛ لا يُدركه كاملاً الوسطيون، أولئك الذين لا يمنحون أنفسهم كلها لما يهتمون به، أولئك الذين يعانون من انفصال بين ذواتهم الحقيقية والموضوع الذي يعلقون به.
لكي تكون فنانا متميزا تحتاج إلى أن تمنح نفسك كامِلَة مكمَّلة لفنّك.. علي الآنسي من هذا المدار؛ لم يقارب الفن من خارج روحه، ولكنه انغمس فيه بكل جوانحه وأحاسيسه.
إلى الإحساس المكثف، كان البحث عن اللحن المتفرد، واحدة من أهم سمات الفنان علي الآنسي. حياته الفنية هيام متواصل للبحث عن نغمة روحه، واكتشاف اللحن القادر على حمل ما يمور في ذاته من إحساس مكثف بالحياة، الحُب، الحنين لتجربة ملحمية يلتحم بها: واقعا في حياته الشخصية، وموجة لحنِيّة في ألحانه وأغانيه.
يستقي لحنَه من موجات الحياة اليومية للناس، ونغمة أرواحهم؛ من تراثهم الشعبي في قُرى العُدين، وحقول ذي السُّفال؛ من صوت طفل يبكي، نغمة قارئ للقرآن، كأنَّه يصغي لنغمة اليمن، لحنها الكبير، في تجواله بحثاً عن التراث الغنائي الشعبي، إصغائه لصوت المؤذن، إمرأة عابرة تنادي طفلها، همهمات مجنون هائم تحت نافذة منزله.
-الخطوات الأولى في تعز
لا يخطط المرء ليكون فناناً، غالباً ما يكون ذلك استعدادا فطريا، وعدد من الصدف التلقائية تمضي كيفما اتفق ليجد المرء نفسه في طريق الفن؛ هذا وحده لا يصنع الفارق إذا لم يتلقفه المرء، ويضيف إليه الدأب والمثابرة؛ وقد اجتمعت لدى علي الآنسي الأسباب الثلاثة: الموهبة، الأحداث التي تضعه في بيئة مُحفِزة، والدأب ـ وإن لم يكتمل تماماً ليصل بالموهبة إلى أقاصي قدرتها.
انتقل علي الآنسي مع أسرته من صنعاء إلى مدينة تعز في بداية حياته. حدث ذلك بعد ثورة 48، وما نتج عنها من إباحة صنعاء القديمة للقبائل التي نهبتها وحوَّلتها إلى مدينة طاردة للفئة المدنية الصغيرة القاطنة داخلها.
في تعز وجد علي الآنسي نفسه يتعرَّف على بيئة مختلفة. كان في بداية تفتُّح وعيه على الحياة، الناس في منزل أخيه في الجحملية.
في هذه الجهة من تعز، الواقعة في حضن جبل صبر، كانت تنشط مجالس فنية عديدة؛ بينها مجلس شقيقه الكبير العميد أحمد الآنسي.
كانت قبضة الإمامة على الفن أقلّ شِدة في تعز منها في صنعاء. ومقابل مجالس الجحملية الفنية، عدة مجالس تم تأسيسها في المدينة القديمة داخل الباب الكبير.
كي نستكمل صورة البيئة المحيطة بالآنسي حينها، من المهم أن نشير إلى مجلس مهم كان يقع حينها في نادي تعز الثقافي والرياضي: النادي الذي أسسه مجموعة من موظفي النقطة الرابعة في خمسينات القرن الماضي، كان مهتماً بأنشطة تتعلق بالموسيقى والرسم، ومقره بداية شارع عصيفرة خلف عمارة الغنامي.
كان الشاب الصغير علي الآنسي واحداً من رواد هذا النادي، وبدأ في البروز في مجلسه ضمن مجموعة مطربين ظهروا في تلك الفترة، واشتهروا عبر تلك المجالس.
إلى هذا النادي، الذي مارس فيه الشاب علي الآنسي أنشطة الرسم والغناء، كان يدرس في المدرسة الأحمدية، وطلابها كانوا من أوائل رجالات الدولة قبل الثورة السبتمبرية وبعدها.
حينها امتلك علي الآنسي أول عود أهداه له أحد المعجبين بفنه هو الأستاذ محمد السراجي، كما أعلمنا بذلك الأستاذ أمين درهم.
عندما علم والد علي الآنسي بذلك، قام فورا بإحراق العود في التنور بسطح منزله، غير أن شغف الفن في وجدان ابنه الشاب كان أكثر اتقاداً من لهب التنور الذي قُذِف فيه أول عود امتلكه.
كان علي الآنسي مهجوساً بالرسم، وله لوحات عديدة. لاحقاً بعد سنوات طويلة، كان صديقاً للفنان هاشم علي، ولا يفوته زيارته كلما وجد نفسه في تعز.
في عام 61، اصطحب الأستاذ أمين درهم الشاب الموهوب علي الآنسي في أول زيارة له إلى مدينة عدن. هناك قدَّمه لعدد من الفنانين المشهورين حينها: محمد مرشد ناجي، حسن فقيه، محمد صالح همشري، فضل محمد اللحجي، أبوبكر سالم، أحمد يوسف الزبيدي. وهناك اشترك علي الآنسي مع الفنانين المذكورين في جلسات طرب شيقة، وتم تبادل الآراء حول الألوان الغنائية اليمنية.
يخبرنا الأستاذ أمين درهم أن هذه اللقاءات كانت تتم في منزل سعيد عزيم في حارة القاضي بكريتر، وكان يمثل ملتقى للفنانين اليمنيين من كل مناطق اليمن. وهو والد الفنانة نبيهة عزيم، أول فنانة يمنية تغنِّي على مسرح مدرسة البادري مع الفنان أبوبكر سالم عام 57، الذي كان يديره الأستاذ أمين درهم. وكان هذا المسرح منصة انطلاق كبار الفنانين اليمنيين: أبو بكر سالم، نبيهة عزيم، فتحية الصغيرة، فؤاد الشريف، محمد عبده سعد صاحب أغنية “من نظرتك يا زين”.
وحينها قدَّم أمين درهم الفنان علي الآنسي لأبي الفنانين محمد عبدالعزيز الأغبري (صاحب ورشة خراطة، كانت بمثابة معهد فني لفنانين شباب من كافة مناطق اليمن).
في هذه البدايات الأولى للفنان علي الآنسي، سجَّل في عدن أغنيات من ألحانه، ومن التراث الصنعاني. وكذلك أغنية عدنية من ألحان محمد صالح همشري (اشهدوا لي على الأخضر شل عقلي مني وأنكر)؛ وقد تم تسجيلها لاحقا في إذاعة صنعاء بصوت الفنان علي السِّمة بعد تغيير طفيف في الكلمات: اشهدوا لي على الأسمر..
من المعلومات المهمّة أن الفنان أبو بكر سالم غنَّى من ألحان الفنان الشاب علي الآنسي حينها أغنية: يا ليل هل أشكو؛ قام بتسجيلها بالموسيقى في بيروت أوائل الستينات، وتم طبعها وتوزيعها في أسطوانات، وحققت نجاحا كبيرا في اليمن والسعودية، وهي أول عمل فني للفنان أبوبكر سالم باللون الصنعاني.
-رافعة سبتمبر والجمهورية
التحق الفنان علي الآنسي بالعمل العسكري في بداية حياته، واستمر فيه متنقلاً بين الجبهات ليستقر في نهاية المطاف في الإذاعة التي ضمت عددا من الفنانين في الستينات والسبعينات.
لا تقرر الوظيفة، التي تلتحق بها، طبيعة هوايتك. من داخل الجيش اليمني خرج فنانون وشعراء سِمتهم الأساسية رقة الإحساس، وعمق الانتماء للفن، وصلابة الموقف الوطني؛ علي الآنسي كان واحداً من هؤلاء.
يكفي أن أذكر اسمه وبجانبه الشاعر عثمان أبو ماهر؛ لنعرف أي نوعية من الفنانين والشعراء تربّت داخل الجيش اليمني بعد ثورة سبتمبر، وقيام الجمهورية.
بدأ الوعي الوطني في ذهن الفنان الشاب علي الآنسي أواخر الخمسينات قبل قيام الثورة. يقول الأستاذ أمين درهم إن أناشيد «جيشنا يا جيشنا ـ من كلمات الشاعر والفنان علي الخضر»، و«السهول والجبال»، و«باسم هذا التراب» تم تجهيزها عشية ثورة سبتمبر في تعز.
أنشودة: “باسم هذا التراب” أول أنشودة صدح بها الفنان علي الآنسي بعد انطلاق ثورة سبتمبر، وهي من كلمات الشاعر صالح نصيب، ومن ألحان الفنان حسن عطا؛ سجلها في إذاعة صنعاء، ولقيت صدى كبيرا في شمال اليمن وجنوبه، واستمرت نشيد الصباح في المدارس حتى تم اعتماد “في ظل راية ثورتي” نشيدا وطنيا عام 79 ـ وهي من كلمات أحمد العماري.
ومن أعماله الغنائية الوطنية أغنية «نحن الشباب”، وهي من كلمات الشاعر عباس المطاع.
شارك علي الآنسي في حفلة بميدان الشهداء بعد قيام الثورة، وانتقل إلى صنعاء، وكان يغنِّي في المواقع أثناء حرب الدفاع عن الثورة، وأيام حصار السبعين.
ومن أناشيده الوطنية غنَّى من كلمات الشاعر عبد الله البردّوني، وبمشاركة الفنانة نجاح أحمد، أنشودة: اليوم يا تاريخ قف.
في عام 63، أصيب مع أخيه عبدالرحمن بحادث مروري، وانتقل إلى القاهرة للعلاج،
وهناك التقى بالموسيقار محمد عبدالوهاب، والفنانة فايدة كامل، اللذين كانا يزوران الجرحى المصريين واليمنيين. وغنى أمامه، وكتبت عن هذه الزيارة الصحف المصرية. وهناك اتفق مع الشاعر عباس المطاع على أوبريت «وحدة شعب»، الذي أعده بالاشتراك مع الفنان علي السٍِمة، والطالبة بلقيس الحضراني – الممرضة الفدائية حينها.
في تعز، عام 1963، أسس مجموعة من المهتمين بالفن أطلق عليهم «عيال عبده» فرقة موسيقية. هؤلاء هم: أحمد عبده سعيد، أمين درهم عبده، محمد قائد عبده الزعيتري، عبده عثمان محمد الزبيري؛ هؤلاء كانوا من أبرز الشخصيات اليمنية حينها ولاحقاً، وقد جمعت الفرقة الموسيقية الفنانين: علي الآنسي، علي السمة، يحيى قلالة، العوامي.
كان مؤسسو الفرقة يصرفون على الفنانين من مرتباتهم، وذهب مندوب منهم إلى إرتيريا لشراء آلات موسيقية كاملة تناسب فرقة موسيقية، واستدعوا فضل محمد الجبلي من عدن لتدريبها على الموسيقى، لكن حالة الحراك الوطني حينها اضطرت الفنانين إلى الانتقال إلى صنعاء؛ وفيها قام محمد فضل الجبلي بتدريب الفرق الموسيقية والفنية، وبتعبير أدق قام بدور تأسيسها.
هذه فلاشات موجزة لجانب مهم من حياة علي الآنسي، اندفع فيها متحداً بجموع اليمنيين، ريفيين هبوا من القرى، طلاب، جنود، فلاحين، عمال؛ جمعتهم راية الجمهورية، وثورتها التي فتحت أمامهم آفاق الحياة والحرية والعمل والفن والمستقبل.
-أهازيج وأغاريد
في العام 1966، تأسست في الحديدة شركة فنية اسمها «أهازيج وأغاريد صنعاء»؛
كانت هذه أول شركة لإنتاج الأغاني اليمنية، وتوثيق الأهازيج والمهاجل بعد إعادة تلحينها؛ أسسها الأستاذ أمين درهم مع عدد من الشركاء، وكان الفنان علي الآنسي مديرها الفني وفنانها الأبرز، وقد كلفت عشرين ألف ريال يمني، وكان مبلغاً كبيراً في تلك الأيام، وساهم في تأسيسها ثلاثة مساهمين بالإضافة إلى الفنان الآنسي ورجل الأعمال أمين درهم.
تم تسجيل عشر أغانٍ في بيروت من ألحان الفنان علي الآنسي وأدائه، وهي ألحان استقاها من جولاته في العُدين وذي السُّفال، والمناطق الوسطى، وتنقيبه عن مخزونها التراثي من الأهازيج والمهاجل والأغاني الشعبية. كانت نقلة كبيرة في الفن اليمني، حتى أن نظرة أولى فيها تقول لنا إنها سبقت زمانها في التأسيس لتوثيق الأغاني، وتسجيلها على الأسطوانات، وفي الأستوديوهات الحديثة خارج اليمن.
هذه الأغاني ماكيتات أبدعها الناس في حياتهم اليومية في الحقول والوديان والقرى والجبال، وحوَّلها الحس الفني العالي عند الفنان الآنسي إلى ألحان خالدة.
يقال إن كل الألحان هي محاولة للاقتراب من لحن الأرض الكلي. اللحن هنا يحيل إلى ذلك التناغم بين الروح، التي نظمته باتساق مع نبضها، وما تولد في أحاسيسها، وهو أساس يتم تطويره باستمرار.
الألحان تنمو وتتطور مثلها مثل الكائنات الحية، وكل لحن متميز نستمع إليه في أيامنا يكون قد مر بمراحل متتالية من التنقيح والتعديل والتطوير حتى وصل إلينا بصورته النهائية.
وفيما كانت هذه النقلة المتميزة تخرُج للجمهور بأغاني الفنان علي الآنسي المتميزة، كان الفنان أيوب طارش قد أنجز أول دويتو فني بالاشتراك مع الفنانة منى علي في الأغنية الشهيرة المأخوذة من لحن تراثي “رُحلك بعيد”.
كانت منى علي قد سبقت أيوب إلى عدن، وعندما سمعت بالشاب الموهوب أيوب طارش أرسلت تستدعيه، وعرضت عليه مشاركتها أغنية من كلمات عبدالله عبدالوهاب نعمان عنوانها «رحلك بعيد»،
في التوقيت نفسه نزلت أغاني الفنان علي الآنسي، ودويتو أيوب ومنى علي.
يحدثنا رجل الأعمال أمين درهم (المدير العام لشركة إنتاج الأغاني اليمنية حينها) أن الجمهور كان مأخوذًا بأول دويتو بين فنان وفنانة.
كان المعجبون في الحديدة يأتون إلى الأستريو طالبين أسطوانة “أيوب ومَرَتِه – باللهجة التهامية”.
ومقابل عشرين زبون يطلبون عشرين أسطوانة لدويتو أيوب ومنى علي، يأتي اثنان لاقتناء أسطوانات الفنان علي الآنسي.
في معلومة لافتة حول أول دويتو في اليمن بين فنان وفنانة، يقول أمين درهم إن هناك نسخة أولى في عدن سبقت دويتو أيوب ومنى علي، جمعت الفنانة نبيهة عزيم مع الفنانين صالح همشري وفؤاد الشريف، في أغنية “يا زين يا زين”، وتم غناؤها في مسرح البادري في العام 1957، وهي من كلمات ولحن الفنان أبو بكر سالم بلفقيه.
أبرز الشعراء الذين تعاون معهم الفنان علي الآنسي، وغنّى من كلماتهم، ثلاثة: مطهر الإرياني، عباس المطاع، وعلي بن علي صبرة.
في تجواله في المناطق الوسطى، وتراثها الفتي القديم، التقط الفنان علي الآنسي أغنية تراثية أصبحت لاحقا من أهم أغانيه «خطر غصن القنا»، وهي معروفة، وقصتها مشهورة بسم “الدودحية”، وقد كتب كلماتها الحديثة مطهر الرباني، وتم أداؤها باللحن القديم نفسه بعد تطويره، والإضافة له من الفنان علي الآنسي.
أول من غنى «أهلاً بمن داس العذول واقبل» فنانة رائدة اسمها معاين شريان غنتها سنة 59، ولاحقاً غناها الفنان علي الآنسي.
وإذا تتبعنا أول من أدى أغاني التراث اليمني، لن نقف في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي إلا باعتبارها مرحلة بدأ فيها تسجيل الأغاني على الأسطوانات.
-نظرة أخيرة
لا تقارن علي الآنسي بفناني صنعاء لكي تستقصي أفقه وإلى أين وصل، وأين أخفق. هو ارتاد طريقاً يتجاوز الفن الصنعاني. تجاوزه بفرادة صوته وإحساسه. وتجاوزه بتجواله في أهازيج وتراث المناطق الوسطى في العُدين وذي السُّفال وغيرها؛ حيث التقط ترددات فنية عتيقة، صقلها وأضاف لها، وأطلق مكنوناتها الآسِرة في أغانيه.
من زاوية كهذه، ربما يمكنني أن أقول إن علي الآنسي، على فرادة ما أنجزه من ألحان وأغانٍ، رحل وهو ما يزال مشروعا لم يكتمل بعد: لم يكتمل هنا، تأخذ سقفا أعلى، كان سيصل به إلى أفق الصف الأول في الغناء العربي، مثل أبوبكر سالم بالفقيه، لو أنه تمكن من تحويل كل ما لديه من أحاسيس وقدرات إلى أغانٍ تمثل نغمته في أفقها الأقصى.
الأغاني الجيِّدة مثل الشعر المتميز، نتاج لاحتراق حياة الشاعر والفنان في لهيب أحاسيسه، وتناقضاته، ووجدانه.
توقد الآنسي وكثافة إحساسه تجاوز ممكنات حياته الشخصية والواقع من حوله. كان مرضه نتاجا لهذا الاغتراب بين ذات تتوق إلى التحليق في الأعالي، وأثقال تعيقه عن الحركة والوصول إلى أفق بعيد وسقف عالٍ ميَّزا نظرته إلى الفن وإحساسه بممكناته.
يكفي أن نعرف أن الفنان، الذي بدأ التسجيل في أستوديوهات بيروت بداية الجمهورية، قد توفي وتسجيلات أغانيه هي الأكثر رداءة من بين معاصريه ومن لحقوا به، وتتلمذوا على يديه.
رحل علي الآنسي في عمر 52 عاماً، قضى سنواتها العشر الأخيرة يعاني من المرض. رحل باكراً، لكنه ترك بصمته في الفن اليمني. ترك إرثاً يرتفع به إلى مصافِ الخالدين في وجدان اليمنيين وقلوبهم.
نقلا عن موقع قناة “بلقيس”