مصطفى راجح
بعد نصف قرن من كتابات جيل الروّاد عن فن الغناء اليمني القديم، لا يجد القارئ اليوم إضافات حقيقية في الكتابة حول الموسيقى اليمنية، عدا كتابات يومية لم ترقَ لما كتبه ذاك الجيل، وأبرزهم الفنان محمد مرشد ناجي، والدكتور محمد عبده غانم.
في مؤلفه القيم (الغناء اليمني القديم ومشاهيره) -الصادر عام 1983م- تجاوز المرشدي أسماء كبيرة حصلت على تأهيل دراسي وأكاديمي متقدم، وأظهر قُدرة على البحث والتأليف والكتابة النقدية تفوق قدرات الباحث الأكاديمي المتفرِّغ للتأليف.
كتابة تستقصي وتغوص في أضابير الغناء ونغماته وإيقاعاته وألحانه وتاريخ مشاهيره، وتقارن -عندما يستدعي الأمر- المقارنة، وتفنّد في الموضع المناسب، وتستخلص الرأي، وتشير إليه بعد أن تكون قد أطلّت على الموضوع من كل جوانبه، وما يستدعيه تجويد الكتابة من تساؤلات وإلمام ودِراية.
كان لدى المرشدي ذلك كله، وهو الذي لم يتأهل أكاديميا، وهو ما يُقره بتواضع العالم وامتلاء الفنان، وإدراك المؤلف الضمني؛ لكونه قد فاقهم كلهم، وهو إدراك تظهره البساطة لا الاستعلاء، ويكشف عنه ثراء الكتابة لا ادعاء كاتبها.
“حِسُّ الفنان” هو ما صنع تميُّز المرشدي كمؤلف في كتابه، موضع الاهتمام هنا.
السؤال المحدد لمقالتي هذه هو السؤال نفسه الذي طرحه المرشدي في كتابه: “هل تأثر فن الغناء اليمني بالأتراك الذين حكموا اليمن لفترة من الزمن تصل إلى 270 عاما، متقطِّعة وعلى فترتين متفاوتتين؟”.
وفن الغناء اليمني القديم يقصد به فن الموشحة الغنائية القديمة، التي تأسست مع ميلاد الشعر الحُميني في عهد الدولة الرسولية، وتطورت في فترات زمنية لاحقة حتى عرفناها لأول مرة مسجَّلة على أسطوانات، في بدايات القرن العشرين، بأصوات جيل الروّاد في الغناء اليمني التراثي في مدينة عدن، وهو ما عُرف بالغناء “الصنعاني”.
-استهلال تمهيدي
الموسيقى لغة عالمية، وفي تاريخ هذا الفن نقرأ الكثير عن التأثير والتأثر بين الثقافات المختلفة، ومنها الموسيقى والغناء، لكن الأمم العريقة لها نغماتها الخاصة المميِّزة لها، وهي نغمات تعبِّر عن الروح الجمعية للشعب وثقافته وطابعه الخاص.
كل فن غنائي أصيل يطوِّر نغماته وإيقاعاته وألحانه الأساسية، ويتأثر بتطورات محددة ذات طابع تقني، ويؤثر ويتأثر، لكنه يحتفظ بالروح الأساسية لموسيقاه وفنه الغنائي، ولا يفقدها.
تشكَّلت موسيقى الشعوب وفنونها الغنائية على مراحل زمنية طويلة قبل نقلة التطوَّر التكنولوجي في القرن العشرين، وانفتاح أفق التواصل بين الأمم وثقافاتها إلى مستوى لم يعرفه البشر من قبل.
اختلط اليمنيون بالأتراك والبريطانيين والفرس والأحباش، واختلطوا عبر التجارة بالإغريق والهنود في الشرق الأقصى، لكن فن الغناء اليمني بقي محافظاً على أصالته ونغماته الخاصة.
ونظرة فاحصة، حول تأثره بالغناء خارج اليمن، تقول لنا إن اليمني حمل فنه وتراثه الغنائي في حِلِّه وارتحاله، ولم يأخذ سوى ما يمكنه من صقل إبداعاته، ورفع قدرته على تطوير هذا التراث الضخم، وإظهاره للآخرين.
نتحدَّث عن فن الغناء اليمني القديم في أزمنة سابقة للقرن العشرين، وتصل إلى النصف الأول منه.
استوقفني، وأنا أكتب مقالتي هذه، مثال مهم، خارج العنوان المتعلق بتأثير الأتراك؛ إذ تذكرت الفنان شيخ عبدالله البار، وهو فنان يمني وُلد في إندونيسيا عام 1908، وعاش فيها حتى توفي عام 1949، غير أن كل أغانيه كانت غناءً يمنيا متنوعا في ألوانه ونغماته، ومحتفضا بروح اليمن وشخصيتها المميّزة لفنها الثري، وهو فن لم تستكشف كل أبعاده ومكنوناته حتى اليوم.
غنى البار، خلال حياته القصيرة، ما يزيد عن سبعين أغنية مسجَّلة على الأسطوانات السوداء، وكلها أغانٍ تراثية يمنية، وأغانٍ أخرى جديدة لشعراء غنائيين يمنيين من حضرموت وغيرها، ولم يزوروا أندونيسيا، وكان جمهوره هم الحضارم في هذا البلد الذي ارتبطوا به، وعاشوا فيه من أزمنة قديمة.
– المرشدي ومحمد عبده غانم: مقاربتان مختلفتان وخلاصة واحدة
نستطيع القول إن المؤلفين، الدكتور محمد عبده ومحمد مرشد ناجي، هما أهم من كتب حول هذا العنوان، وكل من جاء بعدهما كان يؤيد هذا أو ذاك في آرائه.
ما سرده الدكتور محمد عبده غانم في كتابه عن الغناء الصنعاني لم يقدم رأياً جازماً في تأثير الأتراك؛ لا مقارنة درست أوجه التشابه -إن وجدت- ولا أمثلة كافية على هذا التأثر، باستثناء أغنية أو أغنيتين؛ يقول إنها تأثرت بالنغم التركي، وهذه -على فرض صحتها- تنفي التأثر أكثر ممّا تأكِده.
حكم العثمانيون اليمن قرابة ١٧٠ عاما، وعلى فترتين، وهي حقبة لا يستهان بها، ويرى الدكتور محمد عبده غانم، في كتابه «شعر الغناء الصنعاني»، أن الأتراك حاولوا امتصاص الثقافة اليمنية والإسهام فيها، وأن حيدر آغا وشعبان سليم التركِيَيْن قد استطاعا أن يلعبا دورا ذا بال في تطوير الموسيقى اليمنية، والأدب اليمني.
ويشير في بحثه إلى أن حيدر آغا تفوق في الشعر، حكميا وحُمينِيا، وأن موشحاته كانت مما يتغنَّى بها، وأنه كان ماهرا في الموسيقى والعَزْف على العُود.
كل هذا في الواقع طبيعي للغاية، في رأي الفنان محمد مرشد ناجي، إذ يقول إن ذلك لا جديد فيه ولا جدال؛ لأنه من طبيعة أي احتلال كان، وخاصة إذا افترش الأرض، واستراح عليها: “وقد نسلِّم حقيقة أن حيدر آغا كان شاعرا وموسيقيا، ويكون شعبان سليم كزميله وأكثر، أو يكونان قد نظما الموشح اليمني، وأجادا فيه، ولكنه لا علاقة له بالموسيقى، وتطويرها”.
لن نذهب بعيدا للبحث عن مراحع تنظر إلى هذا التأثير من موضعه الصحيح، ذلك أن محمد عبده غانم نفسه، في موضع آخر من كتابه، قد عرض ذلك، إذ كتب في “ص 196/197″، يقول إن حيدر آغا، وهو شاعر تركي من أصل رومي، تأثر بالشعر الحُميني اليمني، واعتبره أول شاعر حُميني من أصل غير عربي يُسهم في شعر “الغناء الصنعاني”.
نَظَم حيدر آغا ثلاث قصائد حُمينية، وغنَّاها بألحان ونغمات “الغناء الصنعاني”؛ الأولى “من يبلغ غزال رامة”، التي أثبتها الشَّرواني في كتابه «حديقة الأفراح»، وتُغَنّى بلحن من أمتع الألحان الصنعانية، وهو ما أكده محمد عبده غانم.
القصيدة الثانية لحيدر آغا تبدأ بقوله “حوى الغنج والتفتير والسحر أحومه”، طغت على قصيدة لابن شرف الدين، تبدأ بقوله «عُذَيْبَ اللمى عذَّب فؤادي وسَمْسَمَهُ»، وإن كانت قصيدة حيدر آغا قد اتخذت منها مثالاً كما يبدو.
-هل أثرت حفلات الحاكم التركي على فن “الغناء الصنعاني”؟
شجَّع الأتراك الغناء في صنعاء، ولكن تأثيرهم على “الغناء الصنعاني” لم يتجاوز جُمل لحنية على أغنية أو أغنيتين، هذا إذا سلمنا بمقولات لم تُثْبَتْ بدراسة موسيقية متخصصة.
استند الدكتور محمد عبده غانم على ما ذكره عيسى بن لطف الله في مقدمته لديوان محمد عبدالله شرف الدين عن الحفلات، التي كانت تقام في قصر الحاكم التركي، وأنها تشمل التجديد والتنويع الناشئين عن ادخال العنصر التركي في التأليف الموسيقي اليمني!
يعارض الفنان المرشدي هذا الرأي، موضحاً أن كلمة “التأليف” -كما وردت في مقدمة لطف الله- ذات مدلول مختلف عن التأليف الموسيقي.
فإذا كانت اليمن اليوم؛ عام 1983، بما عندها من فِرَق موسيقى مختلفة لا تعرف للتأليف الموسيقى مكانا بينها فكيف حال اليمن قبل عهد الأتراك وأثنائه.
وبرشاقة الباحث الناقد، المستند لخبرته في الغناء اليمني ومعرفته بتاريخه، يستنبط المرشدي أن معنى كلمة “التأليف”، في هذا السياق، هو تلقين الأناشيد وما يقرب لها، وكذلك محاولة “تلقين” الأنغام التركية للفنانين اليمنيين من أجل حفظها، ونشرها.
لم يحدث أن راجت هذه الألحان التلقِينية بين فناني “الغناء الصنعاني”، وأبعد من ذلك، لم يخلِّف الأتراك أي أدلة عن تأثيرهم في الغناء اليمني، أو تثبته حتى في دائرته المغلقة داخل قصور الحُكام؛ لأن أسطوانات التسجيل لم تكن متاحة في فترة حُكمهم.
الدكتور محمد عبده غانم اكتفى بالإشارة إلى لحن صنعاني قال إنه “يبدو” أن فيه إيقاعا ونغَمًا يقتربان من الموسيقى التركية العسكرية، وهذا اللحن في أغنية “حل لك يا ذا الرشا قتلي”، وقد لاحظ المرشدي أن الدكتور غانم قد أخلى نفسه من مسؤولية هذه الإشارة عندما ترك تأكيد ذلك إلى من له خبرة في الموسيقى التركية، أو خلافه؟!
ينتقل الفنان المرشدي من اختبار الرأي، ومدى تماسكه، إلى قول رأيه هو بنبرة المطَّلع الذي لم يجد للرأي الآخر ما يسنده من أدلة، إذ قال:
“إن ما يبدو من مجمل كلام الدكتور محمد عبده غانم غير المحدد، وما سمعته من بعض العاجزين من فناني اليمن، في أداء هذا اللون الصعب من الغناء العربي الأصيل في اليمن، أنهم حكموا يقينا بتُركِية النَّغم اليمني القديم برمَّته بُغية إلغاء انتمائه إلى اليمن، كيلا يُؤخذوا بعجزهم، وعدم أصالة فنهم”.
-التأثير التركي في المارشات والموسيقى العسكرية
التفريق بين موسيقى الغناء والموسيقى العسكرية كان مدخل المرشدي للقول إن ذلك يوضح أن من استند إلى رأي غانم قد أساء فهمه؛ لأن كلمة “الموسيقى” الواردة في فقرته هذه تحيل إلى “الموسيقى العسكرية”، وليس إلى “فن الغناء”.
تقول الفقرة الواردة في كتاب محمد عبده غانم:
«من خلال الإنجازات الشخصية في الموسيقى الصنعانية، التي حققها رجال ينحدرون من أصل تركي مثل حيدر آغا، يصح أن نستنتج أن الاحتلال التركي لليمن قد ساهم في تطوير الموسيقى اليمنية، ولم تكن هذه المساهمة مقتصرة على الرعاية التي حظيت بها هذه الموسيقى على يد الأتراك، كما يُستدل من الحفلات الموسيقية التي يروي عيسى بن لطف الله أنها كانت تُقام في قصر الحاكم التركي بصنعاء، بل كانت -كما يبدو- تشمل التجديد والتنويع الناشِئين عن إدخال العنصر التركي في التأليف الموسيقي اليمني. وأما عجز الأتراك عن تطوير الآلات الموسيقية، فإنه يعود -على ما يحتمل- إلى الموقف المحافظ الذي كان اليمنيون يقفونه ضد التجديد، وضد التدخل الأجنبي من أي نوع كان».
هذه الفقرة يقرأها المرشدي بطريقة مختلفة عن القارئ العابر الذي ربما يذهب به الظن، عندما يقرأ هذا الكلام، إلى أن الأتراك قد ساهموا بالفعل في تطوير الموسيقى اليمنية، وذلك لارتباط معنى الموسيقى -حاضرا- بالموسيقى المصاحبة للأغاني الصنعانية.
يرى المرشدي أن ما يقصده الدكتور غانم ب”الموسيقى” هو الموسيقى العسكرية اليمنية، كما أشار إلى ذلك في مكان لاحق من كتابه. وهذه الموسيقى عبارة عن آلات نفخ نحاسية ملحقة بالجيش النظامي، وهي ما نشاهدها ونسمعها اليوم، وظيفتها الموسيقية محدودة في البروتوكولات الرسمية والأفراح، ومصاحبة للأناشيد، كالنشيد الوطني -على سبيل المثال- لجنود الإمام يحيى، الذي أورد الدكتور محمد سعيد العطار شطرة منه في كتابه «التخلف الاقتصادي في اليمن»، تقول:
نحن جنود الملك أقوى من الفلاحين
يتساءل محمد مرشد ناجي، بعد استرساله الذكي في مناقشة رأي غانم، قائلاً: “أي تطوير يا ترى ساهم به الأتراك في الموسيقى العسكرية؟
وما نوع هذا التطوير؟! التطوير كلمة تعطى مدلولا علميا للشيء”.
هذا التأثير يراه المرشدي بوضوح في نقطة معيَّنة، إذ يقول إن المقصود من كلمة “التطوير”، الواردة في كتاب غانم، هو محاولة الأتراك تعليم العازفين اليمنيين على هذه الآلات الموسيقية (آلات النفخ النحاسية)، وقد سبق التعرف على وظائفها في الموسيقى اليمنية أو العربية (التدوين الموسيقي «النوتة»)، من أجل تنظيم الأداء الموسيقي، بدلا من العَزْف المبني على الفطرة والارتجال.
فإذا ثبت وجود ما أوضحناه، يصح القبول بصحة استنتاج الدكتور غانم في مساهمة الأتراك في تطوير الموسيقى العسكرية اليمنية، وليس الموسيقى اليمنية؛ لأن ما أوضحناه أن الأخيرة تدل على شمولية في المعنى.
في كل زيارة له إلى صنعاء في الستينات والسبعينات، ولاحقاً إقامته فيها ابتداءً من منتصف الثمانينات، لم يفوِّتْ الفنان المرشدي أي فرصة للالتقاء مع قدماء الفنانين والمهتمين بالفن الصنعاني؛ وينقل في ذلك قوله إنه سأل الحاج العزي سعيد يسر، وقد عاصر الأتراك هو وأبيه وجده من قبله، حول تأثير الأتراك في أنغام الموشح اليمني، فأجابه بقوله: إن هذا لا يوجد، وأنغام الموشح اليمني أنغام يمنية صافية -على حد تعبيره.
ثم أردف قائلا: “ولكني كنت أسمع والدي يغنِّي بأصوات تركية قال إنها من الموسيقى التركية”.
طلب المرشدي من يسر أن يسمعه بصوته لحنا من هذه الألحان التركية، وبعد أن سمع اللحن، يقول المرشدي:
“أحسست بالنواح النَّغمي، وبُعده الشاسع عن أصالة النَّغم اليمني”.
-هل أثَّر الأتراك في الغناء اللحجي؟
تواجد الأتراك في لحج، لكن حضورهم هناك كان محدوداً وقصيراً، وأقل أثراً من حضورهم الأوسع في صنعاء كمركز لحُكمهم.
الميَّالون إلى المبالغة في تأثيرهم في الغناء اليمني يقولون إنهم أثروا على الغناء اللحجي، ويستدلون هنا بثلاث قصائد غنائية وردت في ديوان الأمير الشاعر أحمد فضل القمندان (المصدر المفيد في غناء لحج الجديد)، الذي قام بجمعه وطبعه الأستاذ إبراهيم راسم التركي، وقد كان معلماً تركياً للموسيقى في لحج.
كان الفنان المرشدي آنذاك مراسلاً صحفياً خفياً لصحيفة “النهضة” الأسبوعية في أبين؛ صدرت من 1940 – 1956، وكان سكرتير الصحيفة الأستاذ عبدالله عبدالرزاق باذيب، وفي هذه الفترة تعرف على الأستاذ راسم التركي، الذي كان مديرا لمطبعتها، وصدر ديوان القمندان حينها تحت اسم “الأغاني اللحجية”.. حاولت التأكد من تأريخ صدور الطبعة الأولى فلم أجد ذلك في الكتاب الذي احتفظ بنسخة من طبعته الثانية، التي صدرت في عدن عام 1983، عن دار الهمداني.
وصف الفنان المرشدي الأستاذ إبراهيم راسم التركي بأنه من بقايا الحُكم التركي، وعاش في عدن بقية حياته بعد خروج الأتراك من اليمن، وتزوج من أحد نسائها، وتوفي فيها.
في مقدِّمة ديوان “أغاني القمندان”، كتب الأستاذ محمد علي لقمان -المحامي والسياسي المعروف- أن إبراهيم راسم التركي قد قام بجمع الديوان وضبطه، وأنه من الأدباء الأذكياء الذين يفهمون كيف يهذِّبون النفوس بمثل هذه الأشعار الرقيقة التي تتغلغل في الأرواح، فتذكي فيها أسمى العواطف وأنبلها.
يحتوي الديوان على ثلاث قصائد، مؤشَّرْ في بداية اثنتين منها بعبارة: “نغم موسيقي تركي”؛ أما القصيدة الثالثة فهي تحت عنوان: “تحية الوطن العبدلي”.. عندما قرأت هذه القصائد وجدت وصف المرشدي، الذي أطلقه عليها مناسباً ولائقاً بها، إذ يقول إنه -بعد إمعان النظر فيها- وجدها ركيكة مقارنةً بأشعار القمندان الحقيقية الأخرى، واستنتج من هذه الرَّكاكة أن مشاركة إبراهيم راسم التركي واضحة في فكرتها، وأنه شارك القمندان في نظمها باعتباره صاحب الفكرة وحافظا للنَّغم الموسيقي التركي.
من هذه الرَّكاكات الثلاث، قصيدة أُعدت لتكون “تحيَّة الوطن العبدلي” في السلطنة العبدلية، وقد ورد فيها:
يا لحج أنتي أماماه، وأنتي أباباه، وخواواه
فداك نحن يا أماه، تحيا تُبن، يحيا السلطان،
تحيا عدن أم المسكين، تحيا التجارة والأهلين..
أمين يا ربي آمين، تحيا تُبن يحيا السلطان
هل أثَّرت أنغام الأستاذ إبراهيم راسم التركية على الغناء اللحجى، أو حتى تركت بعض البصمات عليه؟
يسخر المرشدي من ذلك، قائلا: إن المرء لو حمل هذا السؤال إلى أي مواطن لحجي عاش تلك الفترة، فإنه سيرد، بظرافة اللحجي التي اشتهر بها، مقتبساً من الأبيات الركيكة فيها: “اسأل باباه وخواواه”.
هذه القصائد الثلاث، يقول المرشدي إن وجودها لم يتجاوز تضمينها ديوان القمندان، وأنه من واقع تجربته لم يسمع في حياته مغنيا من لحج يغني هذه الأنغام التركية، التي ربما تم أداؤها مؤقتا بوجود الأستاذ إبراهيم راسم كمعلم للموسيقى، وإكراما لخاطره، وتوجيها خاصا من القمندان لفرقته الفنية ومطربيه؛ لكن كل ما يُغَنَّى في لحج هو “كل ما يمت بصلة إلى أنغام لحج الأصيلة المتمرِّغة بتربتها وفلاحها وزراعتها، وبقيت أنغام الأستاذ راسم التركية على ورق ديوان الأمير وحسب”.
هذه المحاولة، في إشاعة النَّغم التركي في لحج، من خلال الشاعر الملحن الأمير أحمد فضل القمندان، يرى المرشدي أنها آلت إلى الفشل على صعيدي الموسيقى العسكرية والموسيقى الشعبية.
-تأثير الغناء اليمني على الأتراك
الفنان الموسيقى محمد طرموش، الذي درس الموسيقى العسكرية على يد الأتراك، له رأي مختلف؛ وملخص هذا الرأي أن الموسيقى التركية هي التي تأثرت ببعض الألحان الشعبية اليمنية، بينما ينفي أي تأثير حقيقي للأنغام والموسيقى التركية على الغناء اليمني.
وقد أورد على ذلك مثلا واحدا؛ وهو أن رِفْعَت باشا -أقدم معلمي الموسيقى التركية- كان يتتبع الألحان المحلية، ويفيد منها في تأليف بعض المارشات العسكرية.
وقد سمع يوما امرأة تضرب على الدف (الطار)، وتردد أنشودة في مدح الرسول، فأوقفها وظل يستمع لها، ويكتب الأنشودة ب”النوتة”.
وبعد أيام، كان اللحن واحداً من المارشات الجميلة، التي تعزفها الفرقة الموسيقية، وما يزال ذلك اللحن يتردد إلى اليوم، وقد حمله الباشا معه ضمن ألحان شعبية يمنية أخرى بعد عودته إلى تركيا.
يوضح الأستاذ علي اليتيم أن المارشات التركية أساساً ليست ألحانا وموسيقى تركية خالصة، وجاء في رأيه الذي أورده الدكتور عبدالعزيز المقالح في كتابه “يوميات يمانية في الأدب والفن”: “أنه يحفظ أكثر من مائتي مارش، أو بالأصح أكثر من مائتي قطعة موسيقية عسكرية؛ منها العاطفية، ومنها الحماسية، والحزينة، وبالرغم من أنها كلها قد جاءت إليه عن طريق التعليم التركي، إلا أنه اكتشف أخيرا أنها ألحان عالمية، منها الغربي والشرقي، والألماني والفرنسي، إلخ”.
-استنتاجات وخلاصات
في نهاية المطاف، وبعد استعراض الآراء المختلفة، بإمكاننا القول إن الأتراك حاولوا أن يؤثروا في الغناء اليمني في صنعاء ولحج، لكنهم لم يختلطوا كثيرا باليمنيين، وبقي الأثر الغنائي محصورا في قصور الحكام، وامتد إلى التأثير في الموسيقى العسكرية والمارشات؛ وذلك لتواجُد معلمين موسيقيين أتراك، وعن طريق بعض الفنانين الذين كانوا مقرَّبين منهم؛ أمثال الشيح سعد عبد الله، الذي كان مقربا من الأتراك في صنعاء، وقُتل بعد خروجهم أثناء هروبه خارج صنعاء عام 1919، وكذلك ما ورد في ديوان الأمير الشاعر أحمد فضل القمندان، الذي ربطته علاقة صداقة مع إبراهيم راسم التركي، الذي بقي في عدن بعد مغادرة الأتراك.
وحاول الأتراك إدخال بعض المفردات من لغتهم في بعض القصائد المغناة، التي كانوا يؤلفونها، أو يشاركون في تأليفها؛ لكن المؤكد أن هذا التأثير كان يأخذ مداره في بيوت الحُكام والأتراك المقربين منهم؛ أمثال عيسى لطف الله، ولم يصل إلى مستوى التأثير الكبير في الغناء اليمني.
الغناء اليمني القديم يعود إلى بدايات الموشح الحُميني في فترة الدولة الرسولية، وتطوَّر على فترات مختلفة، والإرث الكبير من هذا التراث الغنائي المعروف بالموشح اليمني غني بالألحان، يقول الفنان المرشدي إنها ألحان منظَّمة راقية المستوى، ودونما مبالغة يمكن القول إنها ألحان تختلف نغميا عن سائر الأنغام التراثية في البلاد العربية جميعا من حيث التراكيب الموسيقية والصياغة اللحنيَّة، وإن التأثر الأجنبي، من هنا أو هناك، لم يصب هذا النَّغم.
ومع ذلك كله، لا ينفي المرشدي تأثَّر الغناء اليمني، في وقت ما، بالأنغام العربية القديمة، ولذلك أكد على أن النَّغم اليمني في الموشحة اليمنية عربي المنبت -قصده هنا نفي أجنبيّته وتأثّره بالأتراك والأحباش والفرس- يمني في طابعه وأسلوبه، وظل محتفظا بهذا الطابع وهذا الأسلوب، عدا بعض الإضافات التحسينية من المطربين اليمنيين عبر التاريخ، لانغلاقه على نفسه؛ بسبب الحروب والفتن التي لا أول لها ولا آخر؛ وساعده هذا الانغلاق، الذي يمتد على كل مناحي الحياة في اليمن (اجتماعيا وثقافيا) على الاحتفاظ بأصالته النَّغمية العربية اليمنية.
يتفق الدكتور عبدالعزيز المقالح مع رأي المرشدي، إذا كتب يقول في كتابه “يوميات يمانية في الأدب والفن”:
“أما الألحان التراثية فقد ظلت في منأى عن أي تأثير، وهي ما تزال صورة للبيئة اليمنية، وانعكاسا للعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة في اليمن قبل دخول الأتراك بمئات السنين، وموضوعاتها الفنية مرتبطة بالمكان ارتباط الإنسان نفسه، وقد كانت نغماتها صدى للجبال، وصورة صوتية للتنوّع في الطبيعة من سَهْل وجبَل وبحْر”.
نقلا عن موقع “قناة بلقيس”