تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » في لوحة “الانفجار” للألماني بيكمان هناك من يجرؤ على معارضة الحرب

في لوحة “الانفجار” للألماني بيكمان هناك من يجرؤ على معارضة الحرب

 

راح يعمل ألوانه وأقلامه رسماً للحرب ولأهوالها، مذكراً بأن الحرب ليست أولاً وأخيراً سوى مكان للقتل والتدمير كتب أيضاً يقول بصورة مبكرة جداً “إن هذه الحرب التي يعلنها بلدنا، إنما هي أكبر تعاسة قومية يمكن أن تصيبنا”.

غالباً ما يقال عن الحروب إن الناس يعرفون حين تندلع، كيف تكون بداياتها، ولكن لا أحد يعرف كيف ستكون نهاياتها. فهي من المستحيل بصورة عامة أن تكون مرسومة سلفاً، بل إن عدداً هائلاً من التفاصيل والمفاجآت تكون خفية ماثلة عند مفترق كل لحظة بحيث يستحيل توقعها والبناء على أساس ذلك التوقع.

ومع ذلك دائماً ما تثير الحروب في أيامها الأولى حماسة كثر من الناس، ولا سيما في البلدان التي تعطي حكوماتها لنفسها الحق في إطلاق شرارتها. وتكون الحماسة عادة في مواقف قوم ينسون أول الأمر فظائع الحروب وأن لا أحد يربحها، وفي الأقل حتى اللحظة التي تظهر فيها الحقائق جلية. وهكذا، في الثالث من أغسطس (آب) 1914 أعلنت ألمانيا الحرب على أوروبا ثم على العالم كله مفتتحة الحرب العالمية الأولى التي لم يخيل لأحد يومها أنها ستكون أكبر مجزرة استبدت بالبشرية حتى ذلك الحين في الأقل.

في تلك الأيام استبدت الحماسة بعدد كبير من الفنانين والكتاب الألمان من الذين كان بعضهم يعد نفسه قبل ذلك مسالماً ومعادياً للحروب ولكل ضروب القتل. وكان من بين أكبر الرسامين الذين لم يخفوا تأييدهم لتلك الحرب التي اعتبروها حرباً قصيرة تأديبية لا أكثر أوغوست ماكي وفرانز مارك، وحتى فنانون يساريون من أمثال أوتو ديكس وجورج غروش ستكون لهم لاحقاً صولات وجولات ضد النازية خصوصاً، وضد الحرب عموماً. أمثال هؤلاء كانوا إذاً عند الأشهر الأولى للحرب مؤيدين لوطنهم متحمسين. ولاحقاً سيموت بعضهم خلال تلك الحرب نفسها مجنداً على الجبهة (ماكي، مثلاً). يومها كان هناك من بين الفنانين، واحد فقط جهر برأي معاكس، حتى وإن كان آخرون رأوا رأيه من دون أن يصرحوا به.

نظرة مبكرة إلى أهوال الحرب

كان هذا الفنان ماكس بيكمان (1884 – 1950) الذي راح يعمل ألوانه وأقلامه رسماً للحرب ولأهوالها، مذكراً بأن الحرب ليست أولاً وأخيراً سوى مكان للقتل والتدمير، كتب أيضاً يقول بصورة مبكرة جداً، “إن هذه الحرب التي يعلنها بلدنا، إنما هي أكبر تعاسة قومية يمكن أن تصيبنا”، هذا على رغم أنه تفادى أن يحكم على الحرب حكماً أخلاقياً، معتبراً إياها “إحدى سمات الحياة مثل المرض والحب وما شابه من تلك الأمور التي تكشف أعمق ما لدى الإنسان من أحاسيس ومشاعر”.

ومن هنا، لئن كان بيكمان عبر عن الحرب، فإنه لم يشأ من تعبيراته الفنية تلك أن تكون مجرد مواعظ أو تسجيل للمواقف – السلمية أو غير السلمية – بل شاء، كما كان فعل في لوحات أخرى له لا تمت إلى الحرب بصلة، أن يعبر عن الجانب المأسوي في الحرب، أراد أن يصور “مواقف الحدود القصوى حتى يتمكن من أن يدخل عميقاً وعميقاً جداً بحسب تعبير الناقد الألماني رينهاردت شبيلر أعماق الإنسان”.

تجلى ذلك في رسمين لبيكمان صغيري المقاييس رسمهما خلال الشهر الأول لاندلاع الحرب، أولهما عنوانه “إعلان الحرب”، أما الثاني الذي نحن في صدده هنا فعنوانه “انفجار”. والحال أن أهمية هذه اللوحة الصغيرة مزدوجة، من ناحية كونها أوجدت التعبير المبكر عن الحرب كما رآها فنان رهيف الحس، التفت دائماً إلى فجائعية الشر الإنساني، وثانياً، إلى كونها فتحت الطريق أمام أسلبة مشاهد الحرب وفوضى المدن، كما سنجد تعبيرها لاحقاً في لوحات مشابهة حققها فنانون ألمان آخرون وعرفت دائماً كيف تجد مكانها في تاريخ فنون القرن الـ20. ومن هؤلاء الفنانين ديكس وغروش نفساهما.

فن يحفل بالمرارة

في لوحة “الانفجار” كان من الواضح أن بيكمان يبتغي أن يجعلها صورة تحفل بالمرارة والرعب، ذلك الإبهار الذي تمارسه الحرب على الإنسان – عليه شخصياً – موصلة إياه، ودائماً بحسب الناقد شبيلر، إلى حدود الرغبة في التعبير عن الدمار الذاتي، وهو أمر قاله بيكمان بنفسه في كثير من نصوصه ورسائله، إذ نجده يقول في رسالة بعث بها إلى زوجته من الجبهة – إذ كان جندياً هو الآخر، مثل غيره من الألمان – “تماماً كما أنني ذهبت، طواعية أو من دون إرادة، إلى أقصى درجات مشاعري في الخوف وفي المرض، في الحب وفي الكراهية، ها أنا ذا أحاول أن أفعل الشيء نفسه الآن مع الحرب”. كما أنه في رسالة تالية إلى زوجته، ومن الجبهة أيضاً يكتب قائلاً في مجال وصفه لمشاعره أمام الحرب والموت “إن المرء ليشعر بما قد يكون، تقريباً، إحساس لذة ضارية وشيطانية وهو يجد نفسه واقفاً ما بين الموت والحياة”. والحال أن هذا المزيج من الرعب والافتتان، هذا التأرجح بين الموت والحياة، هذا الشعور باللذة الشيطانية، وجد تعبيره الكافي في هذه اللوحة، إذ يبدو كل شيء مختلطاً بكل شيء: البشر وأشلاء البشر والقنابل والنيران والموتى والأحياء والنظرات المرعوبة والنظرات المدهوشة والهرب والإقدام. إنه الجنون الشيطاني لحال بشرية تبدو في لحظتها عصية على الفهم. والفوضى العارمة التي كان لا بد لها أن تظهر على ذلك الصورة الفوضوية لكي تعبر عن ذلك الجنون الإنساني الذي يصل إلى لحظة لا يجد معها غير الموت ملاذاً من الرعب.

واليوم إذ نقارن أعمال بيكمان المبكرة بعض الشيء بأعماله اللاحقة، ولا سيما منها سلسلة “يوم الحشر” التي حققها بالألوان، هذه المرة، انطلاقاً من تجربة موت مشابهة خلال الحرب العالمية الثانية، سنجد أن الفجائعية التي طبعت أعماله كلها، على أية حال، إنما تجد جذورها في تلك التجربة الحياتية (ثم الفنية) المتمثلة في الحرب، خصوصاً أن عمله خلال سنوات الحرب العالمية الأولى المبكرة كممرض حدد تعامله بصورة أكثر وضوحاً مع شرط الجنون والرعب الإنسانيين اللذين شاء التعبير عنهما.

أقنعة الموت والجنون

ماكس بيكمان الذي ولد في لايبتسغ عام 1884، ودرس الفن في فايمار بين 1900 و1903، وهو كان على أية حال استقر في برلين بعد أن أمضى عاماً دراسياً في باريس، وهو في العاصمة الألمانية انضم إلى تلك “الحركة الانشقاقية” التي طبعت أعمالها منذ البداية سمات مأسوية مستقاة من تاريخ طويل من الفن الفجائعي يبدأ بأعمال هيرونيموس بوش ليصل إلى أقنعة جيمس أنسور وأقنعة ميتيه. والحال أن بيكمان لم ينتظر اندلاع الحرب الأولى حتى يجد في الموت والجنون موضوعاً له وأسلوباً لعمله، حتى وإن كانت سنوات الحرب الأولى ستظل محفورة في ذهنه.

وبعد الحرب توجه بيكمان إلى فرانكفورت، إذ درس الرسم لمدة ثلاث سنوات جديدة، لكن ضروب الاضطهاد النازي سرعان ما ستجبره على الهرب أول الأمر إلى برلين، ومنها إلى باريس تحت وقع الظروف نفسها، ومن ثم إلى أمستردام، ومنها إلى الولايات المتحدة، إذ سيبقى مشاركاً في حياتها الفنية حتى سنواته الأخيرة.

عدوانية لونية

ولئن كان فن بيكمان انطبع أول الأمر بنوع مأسوي من الانطباعية، فإنه بعد الحرب الأولى سرعان ما أصبح أكثر شخصية وذاتية، إذ غالباً ما صار يحصر شخصياته في مساحات ضيقة داخل اللوحة ويركز على تحديد الزوايا والخطوط مقترباً حيناً من التعبيرية وأحياناً من التكعيبية، لكن ضمن أبعاد اتسمت دائماً بعدوانية وحدة لونيتين، عبرتا دائماً لديه من بعد نقدي اجتماعي، ولا سيما في كثير من اللوحات الثلاثية التي برع في رسمها ومنها “الرحيل” و”الآرغونوت”. وبيكمان الذي رحل عام 1950 اعتبر متفرداً على أية حال بالنسبة إلى القسم الأكبر من لوحاته، ولا سيما تلك التي اختلطت فيها السخرية المطلقة بالتعبير عن هشاشة النوع البشري، وخصوصاً منها لوحاته الذاتية التي رسم العشرات منها.