تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » “ستاند أب” كوميدي… انتعاش لفنون الشارع في سوريا

“ستاند أب” كوميدي… انتعاش لفنون الشارع في سوريا

"ستاند أب" كوميدي... سقوط الأسد ينعش فنون الشارع

 

“ستاند أب” كوميدي هو فن فكاهي يلقي الفنان النكات من خلال تعليقه على الشؤون العامة، وتجاربه الخاصة أمام الجمهور، الذي يتفاعل بدوره معه، وتستضيفه المسارح والنوادي الليلية.

وضع شبان سوريون يتمتعون بحس كوميدي صوب أعينهم مقولة الكوميدي الأميركي بيل كوسبي أحد عرابي “ستاند أب” كوميدي في العالم، “إذا استطعنا أن نضحك مع بعض يمكننا أن نعيش سوياً”، فسارعوا إلى خلق منبر لهم وسط العاصمة دمشق سموه “ستيريا”.

هنا لا تنقطع أصوات قهقهة المتجمهرين حول منصة خشبية تتسع لوقوف شخص واحد داخل مقهى شعبي وسط المدينة سوى ضجيج تصفيق متصاعد بعد سماع فكاهة ألقيت تواً، ولا لغة تسود المشهد سوى الضحك، ومن دون توقف حتى تذرف العيون دموعها من شدة الضحك العالي، وهذا ما أراده شبان يعكفون منذ قرابة عامين على رفع شعار “الابتسامة” كأسلوب حياة وسط متاهات الحرب، ونفق الحياة المعيشي المظلم.

من أسلوب “ستاند أب” كوميدي ولد منبر “ستيريا” وهو اسم اختاره فريق كوميدي كطريقة للوصول إلى الناس في بلد يغص بالأزمات والحروب، ويقاسي الناس ضنك العيش، وأشرعت نافذة للضحك على الأوجاع بنكهة فكاهية ممزوجة بتجارب الناس وخبراتهم المتنوعة بين الهجرة والحرب والواقع المعيشي وحياة السوريين. و”ستيريا” هو الاسم الذي جمع كلمتين (هستيريا) والتي تعني الجنون و(سوريا).

اتقان الفكاهة

“الضحك علاج للاكتئاب” هكذا يصف مؤسس “ستيريا”، شريف حمصي في معرض سرده لقصة إنشاء ورشة لصناعة مشروع بطريقة أكاديمية بدأت من غرفة معيشته حيث باشر من دون دعم أو رعاية معتمداً فقط على شغفه وحماسة من أمسك بيده من أصحابه “الكوميديان” حين تقاسموا التعب وساعات السهر الطويلة لتوليد “نكاتهم الخاصة”.

رويداً تحولت الغرفة إلى ملتقى للتأليف، ومع انطلاق أول “أوبن مايك” كمساحة آمنة ومفتوحة لكل من يرغب بتقديم قصته بطريقة كوميدية وفكاهية جذبت مزيداً ممن يرغبون خوض غمار تجربة ضمت خليطاً من شبان من كل الطوائف والمناطق، ولا تزال تستقطب الراغبين بالصعود لإمساك “مايك ستيريا”، وتركت الباب مفتوحاً لأي موهبة تمتلك النص، و(كاريزما) الإلقاء الكوميدي، أو في أقل تقدير من يتقن بث الدعابة مترافقة مع تدريب احترافي.

و”ستاند أب” كوميدي هو فن فكاهي يلقي الفنان النكات من خلال تعليقه على الشؤون العامة، وتجاربه الخاصة أمام الجمهور، الذي يتفاعل بدوره معه، وتستضيفه المسارح والنوادي الليلية. كما يبث عبر عروض تلفزيونية، ومن أشهر فناني هذا النوع “ريكي جيرفيه، وإيدي ميرفي، روبن ويليامز، ديف شابيل، كيفن هارت” وغيرهم.

قبل ظهور “ستيريا” الاحترافي، ظهرت تجارب فردية لكن لم يكتب لها الاكتمال، وكانت الكوميديا ولا سيما السوداء منها تقتصر على عدة تجارب مسرحية من أبرزها مسرح “الشوك” أسسه الفنان الراحل عمر حجو خلال سبعينيات القرن الـ 20، وشارك فيه الفنان السوري دريد لحام مع كوكبة من كبار الفنانين ونجوم الكوميديا.

يروي مؤسس الفريق شريف حمصي، في حديثه لـ”اندبندنت عربية” عن محاولته المحافظة على نجاح البدايات واجتهاده المتواصل للاطلاع على التجارب الأجنبية، وسعيه إلى تحويل الفريق إلى الاحتراف لضمان عدم التوقف، وتوزعت أدوار فريق العمل بين اللوجستي والعلاقات العامة، في طموح نحو تكوين نادٍ للضحك يضم الموسيقيين والشعراء والكوميديين.

دعابات من الوجع

من الواضح اتقان الفريق مداعبة المحرمات حينما تتناول الدعابة الدين والجنس من دون التطرق إلى القضايا السياسية سريعاً إما بإشارة صغيرة أو بـ”غمزة” أو طرفة عين أو إيحاء لكن يبدع أصحاب “ستيريا” بالإضحاك وبإيصال ما يريدون قوله، ولا يتركون للرقيب أن يتدخل، فلا يصيبون بسخريتهم العمق في أي من “التابوهات” المعهودة، وكأنهم يرسمون الضحكة من الوجع، لكن بعد سقوط نظام بشار الأسد وهربه خارج البلاد بات الأمر مختلفاً إذ كسر الفريق كل الخطوط الحمراء.

“سيخ الشاورما” الذي تشتهر به دمشق ويعد بمثابة تنويم مغناطيسي للسوريين، يتخذ منه حمصي دعابة يقذفها كصياد يلقي بشباكه ويصطاد جمهوره بحرفية ويخلص إلى كون البلد بخير إذا ما استمر “سيخ الشاورما” بالدوران.

وبالحديث عن نشأة هذا النوع – أي ستاند أب كوميدي – فإنه انطلق خلال القرن الـ 19 في الولايات المتحدة بشكل بدائي عبر عروض المسرح الغنائي، وكان مقتصراً على إلقاء النكات لكنه حظي بسرعة الانتشار في الحرب العالمية الثانية، وأصبح جزءاً من المسرحيات الهزلية بشكل أكثر احترافية.

ثم بدأ يأخذ مكانته في خمسينيات القرن الماضي كفن مستقل بذاته عبر برنامج إد سوليفان، وبرنامج أطلق عليه “الليلة”، لكن الانطلاقة الحقيقة كانت عبر نادي الكوميديا وانتشر بعدها بالنوادي وعبر الفضائيات ودور العرض.

يعتقد شريف حمصي بأن الضحك في الأزمات صعب، ولكنه فوجئ بأن الابتسامة لا تحتاج إلى الانتزاع كما كان التحدي بل هي سهلة وسريعة، فالجميع يريد أن يضحك من قلب عشش فيه القهر والتعب. ويذهب إلى أبعد من ذلك فيقول، “الضحك يترك تأثيراً على جسم الإنسان عبر إفراز هرمون السعادة، وله تأثير في الصحة النفسية والجسدية. إنه علاج للاكتئاب فعندما يضحك هذا الجيل على مشكلته ويأخذها بروح رياضية أتوقع أنه بدأ حقاً يتعالج”.

“اليوم يمكننا أن نتحدث بما نشاء من دون خوف”، كلمات لخص بها عضو فريق “ستيريا” ملكي مارديني رحلتهم الكوميدية، قائلاً “بعد سقوط الأسد لم نعد نشعر بالخوف. لم نعد نخاف من استدعاء أجهزة الاستخبارات لنا إثر كلمة ألقيت في أحد العروض أو أن يرسل الأمن مخبرين ووشاة كحضور للعرض. لقد زال الخوف نهائياً”.

كوميديا تفاعلية

وبالحديث عن هذا النوع من الكوميديا لا بد من معرفة أداء الفنان بآليات الحوار المباشر مع جمهوره عبر إلقاء النكات والحديث عن مواضيع الناس بصورة ساخرة ومضحكة، ويغلب على ذلك النوع التفاعلي بين المؤدي والحاضرين كما أنه يشركهم في ذلك الأداء، ويفرد جزءاً من تلك المساحة لهم وعنهم.

ويعتمد الكوميدي ملكي على هذا العنصر التفاعلي كثيراً، فيحاور الجمهور ويدخل بأحاديث ومواقف مضحكة يتشاركون بها لكنه لم يكن يتوقع في منتصف العرض كم كان موقف دخول رجل ستيني المقهى الممتلئ بالجمهور دفعه الفضول لمعرفة طبيعة هذا الحشد، وقطع العرض ليدور حوار عفوي وفكاهي بينه وبين القادم ليتبين أنه سوري قادم من الولايات المتحدة وفوجئ بهذا الشكل الكوميدي الوافد على بلدنا. يقول هذا الرجل المسن، وهو أخصائي في الطب النفسي، “من الملاحظ أن الشريحة العمرية كلها شابة، وهذا مفرح أننا نشاهد هذه التجربة في بلدنا”.

مرارة الضحك

“لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً فالطير يرقص مذبوحاً من الألم”، بيت شعري لـ”المتنبي” يلخص أي تجربة كوميدية ما زالت مستمرة في ظل الأصوات العالية من أزيز الرصاص والنار والبارود على مدار عقد من الزمن لتصل سوريا إلى ما تشهده من قصف إسرائيلي طاول دمشق وأحياء سكنية بها.

ومع ذلك تحدت “ستيريا” بفريقها الكوميدي كل الظروف، وأقامت عرضاً في حي المزة الدمشقي، والشهير كأحد أكثر الأحياء الراقية التي تتوسط العاصمة، والأكثر عرضةً للهجمات المتكررة من قبل إسرائيل على مدار عام كامل.

“ميمي” إحدى المشاركات بـ”ستيريا” تعتبر التجربة ممتعة، وتقول “حين تروي أول فكاهة أو قصة مضحكة، وبعد أول ضحكة تشعر أنك مع أصدقاء لك، وتفتخر بما تصنعه من تأثير لطيف يصل للناس الذين يميلون إلى أجواء المزح والمرح”. وتابعت، “هناك جمهور صعب لا يتقبل هذه الحالة، وآخر طبيعته يندفع ويرغب بالدعابة، كما نحاول أن تكون الكوميديا ذكية، وخارجة عن الصندوق”.

وفي وقت توقفت الكثير من المحاولات الكوميدية الفردية أو التجارب وتقهقرت في زمن الصراع السوري منذ عام 2011 بعدما أسفرت عن هجرة قسرية مع نزوح الملايين وغابت بشكل شبه تام عن المشهد فرق كوميدية ظلت “ستيريا” وصناعها يحفرون بأظافرهم للاستمرار.

تحاول ميمي استخلاص تجاربها الحياتية وتحويلها إلى فكاهة عبر المواقف التي تعيشها مع محيطها، إحدى تلك القصص حكاية دخولها المعهد العالي للفنون المسرحية على رغم دراستها لطب الأسنان وتعرفها على فنانة درامية كانت على الدوام تذكرها بأننا نعيش الحرب حتى وإن دعتها ميمي لتناول العشاء سوياً. ومع ذلك استطاعت ميمي أن تضحك الناس “من القلب” حينما كانت تعيد ما تقوله تلك الفنانة بطريقة فكاهية.

تضيف ميمي، “الفريق أسرة واحدة ونكمل بعضنا بعضاً، ونتمنى أن نكمل المشوار، لقد بدأنا من الصفر ووصلنا إلى أكثر من 30 شخصاً اليوم. أتقبل الذي ينتقد بشكل بناء، ولا أتقبل الذي يهاجم لأنه لا بد أن يحترم تجربة صُنعت من الصفر بعد 12 عاماً حرباً”.

في المقابل يرى الفنان الكوميدي ملكي وهو اسمه الحقيقي، التجربة جديدة وجيدة وليست فقط طور النمو وتصنع الفرح للناس، بل تعتمد على الثقافة لإمضاء وقت ممتع، قائلاً “زرنا محافظات حلب وطرطوس وحمص وبعدها حماة واللاذقية، وما زلنا نكمل ببقية المحافظات، والجمهور أحب عالم ستاند أب كوميدي على رغم الثقافات والبيئات المختلفة”.

لا يريد فريق “ستيريا” أن يكون مجرد ترند، ولهذا يكتفي بوضع مقاطع صغيرة ومختصرة على وسائل التواصل الاجتماعي الخاص بهم، إنما يرغب أعضاء المجموعة في الاستمرار بعد ما وضعوا الخطوة الأولى على درب هذا الفن المستجد في سوريا، ويجزم مؤسس الفرقة حمصي أن الهدف بطور التحقق وفي الطريق لتحقيق طموحهم بإنشاء أول نادٍ للكوميديا وفتح مجال للتنوع ومشاركة الشعر والموسيقى ومد جسور إلى خارج البلد للسوريين في الدول العربية والأوروبية ليحكوا تجاربهم. وهنا يختم شريف بقوله، “ستاند أب كوميدي فن الشارع بامتياز تقرب الناس من بعضها حين تضحك الناس بلطف”.