ورقة عمل للدكتورة آمنة النصيري
في تجربته التشكيلية يقدم الفنان بانوراما تحتفي باللون سواءً في اعماله الحروفية او في المشاهد ذات النزوع التعبيري والتجريدي في آن معاً .
يشتغل الفنان على المقاربة بين المعنى اللغوي والدلالات الظاهرية في الوحدات الخطية لذا فالإزاحات الفنية _ الجمالية ، ذات ارتباط عميق بالإشارات اللغوية ، وتأويل الصورة التشكيلية من الخارج يرافق تأويل المعنى الذي يتوسله الفنان ويعبر عنه عبر تطويع كل المفردات كالصياغة اللونية ونوع الخط ومستوى دينامكيتها التي يتلاعب بها بحسب ما يقتضيه التكوين .
ولأن الفنان ذاته يكتب الشعر، ويخط في أعماله أبياتاً ومقطوعات مجتزأة من قصائد أو عبارات ذات طابع شعري ،بالإضافة إلى العبارات ذات البعد العقائدي ، فإن بناءاته الحروفية بما تتضمنه من تراكيب لونية، تتسم بالفضاءات الرومنسية من جهة ومن جهة أخرى فإن تصعيد الشكل وتكثيفه يخلق دراما تلم كل عناصر التكوين .
ويوسف إبراهيم في حروفياته يهوم حول تدوم المعنى معتمداً على الممكن الاستعاري الذي تشي به الحروف والكلمات ليعقد مقاربات بين حمولات الكلمة وأدائية الصورة البصرية فتجريدية الشعر الذي لا يخضع لأدوات حسية تتسق مع تجريدات الحرف واللون ، ليحدث تخاطبات جمالية مابين رمزية المكتوب ورمزية المرئي ، وهي التي يطلق علبها هيجل الرمزية الواعية . فالفنان يستطيع أن يقيم علاقة مابين صورتين تعييناتهما متماثلة ، بحيث يربط الشكل بمدلوله ، والعمل الفني في الرمزية الواعية هو الذي يبرر الانفصال والتقارب معاً بين المدلولات وأشكالها العينية .
فالفنان يبحث عن إمكانية الترادف مع المحسوس والتماس معه دونما الاندماج فيه . ليظهر قابلية العمل للوصول إلى ماهو أبعد منه ويحقق في انساقه أيضاً نوعا من التناصات الدرامية بين إيحاءات الشكل بإشاراته ودلالات المعنى ، من خلال التماثلات بين المجالين الشعري والتشكيلي، إذ ان اللوحات محملة بالعمق الشاعري المتأثر ليس فقط بحضور الكلمة ولكن أيضا بالجو الوجداني الذي يكرسه الفنان عبر اللون ، فدراما اللون والرومانتيكية المشبع بها فضاء الأعمال تتخلق عنده جموح الألوان ووهجها وتفجرها في دينامكية عنيفة تؤكد حضور الانفعال والوجدان على عكس كثير من التجارب الحروفية العربيةالغالب عليها الطابع العقلاني والتأملي…..فهنا عند الفنان تتحرك الحروف كأنما هي في حالة اندفاع عاطفي، لتتداخل وتتماوج وتتقلص وتندفع منصهرة باللون فيما يشبه اندفاعات موج البحر، يتم ذلك في تلقائية وبحركة مرتجلة لكنها تنم عن إلمام واضح لدى الفنان بالشروط المعرفية لقواعد الخط ، وهذا الإرتجال يذكر على نحو مابتلك العفوية التي سادت في أعمال الرواد مثل حامد ندا وصلاح طاهر ، وانشغلت بجعل المكتوب جزءاً من جسد النص،لتتحقق الوحدة العضوية في العمل وتتلاشى المسافة بين الحرف وبقية المفردات في العمل الفني الواحد،ولعل تلك هي القيمة الأهم التي تتمثلها سلسلة من حروفيات يوسف إبراهيم حيث ينجح في بلورة بنية داخلية تربط الخط باللون .
كما يحرص الفنان على تأكيد الإيقاع من خلال الصيغة النظمية للتفاصيل والحركة،وتبرز هذه السمة في سلسلة أخرى من حروفياته،التي تعتمد على التكرار،والإبدالات والتآلف والتجاور المساحي والإنتشار على السطح وفق ريتمات تصاعدية تخلق موسيقى عالية متنوعة وهارموني يتسق فيه الإيقاعي اللوني مع تراقص الخطوط .
هكذا فإن تنغيم اللوحة يخدم الشعري على مستوى بني الصورة الداخلية ذات الشاعرية البصرية أو على صعيد المعنى المرهونة به الكلمات المكتوبة.
ويدرك الفنان كما هو واضح من الأعمال خاصية الحروف وجمالية وخصوصية كل واحد منها منفرداً هذا يبرر ذلك الوجود الأثيري للحرف داخل الأعمال فهو حتى في هيئته المنفردة محوراً للتكوين وموضوعته الرئيسية وذلك (لأن لكل حرف من حروف الخط العربي عبر توال العصور القابلية الكافية والشخصية المتحركة القادرة على التحول إلى لوحة تجريدية وإن تلك الفردية لتساعد على صياغة كاملة تعطي معنى خاصاً وفكرة )
وفي تجاربه الحروفية على إختلاف مراحلها تتواضع القيم الظاهرة في الشكل لتحيل دوماًإلى المعنى الداخلي،فالمهم أن يتمثل النص ذلك الجوهر الإدراكي الذي يبتغى إيصاله للمتلقي ،
ولهذا تأخذ النصوص ذات الطابع الشعري، ذلك البعد الرومانتيكي والدرامي ، وتنتج الألوان تلك العلاقات الدرامية المغرية بالشجن والإستغراق العاطفي، وذلك من خلال عمق اللون وإحتدام حركته وانطفائه وتوهجه حسبما تتطلب حالة النص فتصبح المتعة الجمالية مركبة..لأن الصورة ذات الفعل الأستاطيقي من حيث علاقاتها البصرية، متضمنة في الوقت ذاته جمالية اللغة الشعرية.
بينما تتغير إلى حدٍ ما الصياغة اللونية في الحروفيات ذات البعد العقائدي فهي وإن احتفظت بحضور وجداني ناتج عن المحبة وقريباً من الوجد الصوفي . إلا أن اللون يميل إلى النقاء والبهاء وتغلب فيه درجات الوان الأحجار الكريمة فمن الأخضر الزمردي إلى الأحمر الياقوتي إلى الأزرق الفيروزي.
وهو ملمح يحيلنا إلى بعض المفاهيم الصوفية التي رمزت اللون وربطته بمعان ذات صلة بالوجود وبالمطلق وبمستويات المعرفة وبالروح والنفس.
فالزمردة هي النفس الكلية واللؤلؤ والجوهر والياقوت والفيروز . كلها لوامع تم توظيفها للدل على قضايا الوجود بالمعنى الصوفي، واللوامع بمعناها العام مجتمعة عندهم هي ( انوار ساطعة تلمع لأهل البدايات، فتنعكس في الخيال الحسي المشترك، فتشاهد بالحواس فترى لها أنوار كأنوار الشهب والقمر والشمس فتضيئ ماحولهم. فهي إما عن غلبة أنوار القهر والوعيد على النفس فتضرب إلى الحمرة وإما عن غلبة أنوار اللطف والوعد فتضرب إلى الخضرة والنصوع.
على هذا المنوال يستمر التعالق الجمالي بالدلالي فتستحيل حروفياته في هذه المجموعة إلى التعبير عن حمولات المعاني القدسية، متأثرة( بالنظرة الفوقية _ الربانية )
حتى أن الكلمات والأحرف تتناثر وتتفجر وتطير في نشوة بصورة تراتبية في بعض الأحيان محيلة إلى فكرة تراتبية الوجود، وتراتبية الطبقات السماوية…
حتى انها في تردداتها وتصاعدها تشرع في الخلاص من ثقلها وتشف إلى أن تتلاشى كأنما توارت بعيداً
في الحيز الماورائي.
وفي حين تضمنت المجموعة السابقة حضور قوي للإنفعالات الداخلية…. تأتي هذه الأخيرة ذات نزعة تأملية تسعى لتكريس التلازم بين الجمال والجلال.
بل إن عنف الحركة الناتج عن إحتدام المساحات اللونية والوحدات الخطية الذائبة في اللون لاتعيد المشاهد هنا إلى المستويات الوجدانية المنفعلة بقدر ماتستحضر أسئلة الوجود الأولى، وتخلق الحياة وتناسلها وإنفجاراتها الخلاقة وغالباً في هذه الإلتحامات والصدامات العنيفة، ينبثق نور يشق الكتل عن بعضها وينتشر مثل البرق من مركز اللوحة
مما يعمق المعنى ويضاعف الإحتمالات فالكلمات المحدودة ذات المعنى القدسي تمثيل رمزي لمعان كثيرة وكذا هذه الحركة المبهمة والتجريدات بحمولاتها يجعلان من الأعمال تمثيل موسع يتسامى نحو الكليات.
في بعض الإنشاءات الحروفية يتخذ الفنان يوسف إبراهيم منحىً هندسياً لكنه يتفلت من الإستنساخات حيث لا يعيد صياغة لوحاته بذات القواعد الهندسية المتداولة في بعض أنواع من الخط، وإنما يستعين بروح التجريب وإستفزاز الإنشاءات الحروفية التقليدية للخروج بصيغ بصرية مبتكرة للمكتوب وإن كان مع الحفاظ على المقومات والمعطيات الرئيسية…
وفي هكذا تجارب تنفرد الخطوط بالسطح وتنفصل عن الخلفية التي يصمم عليها بعض الوحدات الزخرفة او تتحول الخلفية إلى أرضية للعمل .
هذه الأرضية تمتلك حضور مادي عندما يعتمد الفنان أن يمد اللون عليها في درجات لون الرمال الصحراوية ومن ثم يسحب عليها الكتابات أو الحروف المتناسلة المتداعية باتجاه قاع اللوحة فينتج نوعاً من الدل المكاني إذ يتولد فضاء وإمتداد مساحي بلون الصحراء، بينما تنتصب الحروف أو تتناثر أو تتلاحق مشكلة حياة مبهمة.
ونفترض أن هذه التحولات باتجاه شكل الكتابة بغض النظر عن وظائفها القبلية قد تجر الفنان باتجاه الفهم البنيوي للغة وبالتالي ممارسة لعبة الإستبعاد للوصول إلى ما يسميه الناقد حاتم الصكر( التشكيلات البنيوية للحرف )
بحيث يمنح حروفياته على نحو أوسع الفاعلية الموضوعية التي لا تتحقق إلا ضمن شروط إبداعية مبتكرة ومتمردة كلية على كل المفاهيم القبلية.
وأخيراً تدل أعمال التشكيلي السعودي يوسف إبراهيم عل تجربة تتحرك بمحاذاة الخط الكلاسيكي.
فصاحبها غير مشغول بمجاوزة الأنساق السائدة، قدر إنشغاله بتوظيف فنون الخط داخل عالمه الإبداعي المشفوع بالعاطفة الجياشة والحركة الصاخبة عندها ننسى نمطية الكتابة ونستغرق في بلاغة اللون .
الهوامش
(1) ميثم الجنابي ( حكمة الروح الصوفي ) دار المدى _ دمشق، 2001,ص 164
(2) د. عبدالمنعم الحنفي ( معجم مصطلحات الصوفية ) دار المسيرة _ بيروت ، 1987
(3) ميثم الجنابي ( حكمة الروح الصوفي ) دار المدى _ دمشق ، 2001, ص 310.
(4) رمضان بسطاويسي( جماليات الفنون وفلسفة التاريخ عند هيجل ) المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع _ بيروت ، 1992 ، ص 37.
(5) محمد الجزائري( الجمال المأمول ) دائرة الإعلام والثقافة _ الشارقة، 2003,ص 172.
(6) د، عبدالمنعم الحنفي( معجم مصطلحات الصوفية ) دار المسيرة _ بيروت ، 1987,ص230