مصطفى راجح
الغناء الصنعاني فن مكتمل، وعميق الأغوار، ويحرِّك الإحساس بتدرّج منتظم، ويقدّم نفسه كحالة طربية قصوى، عندما يؤدى بطريقة تُخرج مكنوناته وجواهره.
عندما نقول الفن الصنعاني، يحضر في البال نسخة معيَّنة في تاريخ تطوّر الغناء التراثي اليمني في أيامنا، جاءت امتداداً لتراث طويل من تطوّر الغناء اليمني في أزمنة متعاقبة ومراحل مختلفة.
جذور هذا اللون الغنائي تعود بداياتها إلى العهد الرسولي.
فنٌ تشكّل كخلاصة لمسار طويل تمازج فيه مع الشعر الحُميني الملحون بتطوّرات لحنيّة في مراحل زمنية مختلفة، ويمكننا القول إن التسمية الصحيحة للفن الصنعاني هي “فن الغناء اليمني”؛ ذلك أنه كان نتاج تطور استمر مئات السنين، وخلاصة فن شاركت فيه اليمن كلها.
الباحث الفرنسي جان لامبير ربّما يكون الوحيد الذي درس الغناء الصنعاني موسيقياً ضمن كتابه “طب النفوس”، كتب يقول:”إن الغناء الصنعاني تراث غير منقطع منذ قرون، وإننا لا نستطيع إدراك حقيقته إلا بالعودة إلى أصوله العريقة، حيث يتداخل تاريخه الحقيقي مع عصر ذهبي أسطوري يعود إلى الحقبة الحِميرية قبل الإسلام. وتعكس المناقشات الحامية بين اليمنيين نوعا من هذه المفاهيم”.
وعن ارتباطه بالشعر الحُميني يتبنى رأياً حاسماً: “نستطيع الافتراض، بالنظر إلى غنى الشعر الحميني الذي وُلد قبل ستة قرون، أن ما يسمى اليوم “الغناء الصنعاني” يعود إلى تلك الفترة.
وعن هذا اللون الغنائي اليمني، يرى الباحث الفرنسي أن مسمى “الغناء الصنعاني” له تاريخ طويل قبل وصوله إلى صنعاء كمدينة وعاصمة للدويلات، التي تلت العهدين الرسولي والطاهري، إذ قال في كتابه إن هذه التسمية تثير بعض المشاكل. فلم تعرف صنعاء الشعر الحُميني إلا منذ نهاية القرن السادس عشر. إذ لم تكن مدينة صنعاء قد اكتسبت في تلك الفترة الأهمية السياسية، التي نالتها بين الاحتلالين العثمانيين “من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر”، وهكذا وجدت هذه التسمية، التي تطلق على مجموعة من أغانٍ ذات أصول أقدم، وذات تنوّع أكبر مما بدأ في أول الأمر.
ذكر الباحث جان لامبير كتابين، مفقودين اليوم، ألّفا في العصر الرسولي، وتضمنا بعض الألحان، “ومرجعه كتاب للباحث الحبشي”.
وفي تلك الفترة، كانت تصنع في تعز خمسة أصناف مختلفة من آلة العود “الرباب”، وهي آلة اختفت فيما بعد. وكذلك أشكال مختلفة من الطبول والدفوف، أشار إليها لامبير نقلاً عن الباحث والمؤرخ محمد عبدالرحيم جازم، أورده في كتابه عن العهد الرسولي الصادر عن المركز الفرنسي في صنعاء.
يرى جان لامبير أن “انتقال هذا الفن من عهد الرسوليين الباذخ إلى بلاط آئمة الزيدية المتقشف، حوّله من نشاط عام يشجِّعه المتصوّفة إلى فن نخبوي سري، وخاضع لرقابة رجال الدِّين المتزايدة”.
-ارتباط الغناء الصنعاني والشعر الحُميني
الشعر والغناء متلازمان في التراث اليمني، ويصل هذا الارتباط إلى حد التماهي عندما يكون الشعر ملحونا ومكتوبا لكي يُغنّى.
الشعر الحُميني شعر ملحُون، وكُتب لكي يُغنّى، هذا ما يفسِّر أن كل الكتابات المهمّة عنه كانت، في الوقت نفسه، كتابة عن فن الغناء اليمني.
لكي تدرس تاريخ الغناء التراثي اليمني، ستجد نفسك منهمكاً في دراسة الشعر الحُميني، خصائصه، بداياته التأسيسية، رموزه وشعرئه؛ باعتبار تاريخه هو تاريخ الغناء اليمني.
في تاريخنا المعاصر ثلاث رسائل دكتوراة حول الشعر الحميني، كانت في مضامينها دراسات حول فن الغناء التراثي اليمني (الغناء الصنعاني كما يُعرف حالياً)، وذلك لارتباط الغناء بالشعر الملحون في تاريخ اليمن، على الأقل في الفترة التي كانت بداياتها في العهد الرسولي، الذي شهد ميلاد الشعر الحُميني.
هذا ما يجيز لنا القول، دون مبالغة، إن تراث اليمن الغنائي يصل عمره إلى أكثر من سبعمئة عام.
الحقيقة أنه أقدم من ذلك بكثير، وتخلَّق في تاريخ اليمن عبر أزمنة طويلة ساحقة القِدم، وعندما نحدد الفترة الزمنية في سقف سبعة قرون فذلك استنادا إلى أن جذور أول نسخة مسجَّلة منه في النصف الأول من عشرينات القرن الماضي تعود بداياتها إلى الموشَّح الحُميني في زمن الرسوليين.
الموشَّح الحُميني وفن الغناء اليمني القديم مرتبطان ارتباطاً لا فكاك له. هكذا كان الحال في تاريخ الموشَّحات الأندلسية، وكل التراث الشعري الغنائي في تاريخ الأمم المختلفة.
هذا الارتباط الوثيق أتاح للشعر أن يكون حياً من خلال أدائه المغنّى، مثلما أتاح للأغاني أن تبقى من خلال القصائد الشعرية المرتبطة بها، حيث كان الإبداع الشعري يتمازج مع التلحين والأداء الصوتي، وتتناقله الأجيال عبر الفنانين ومعلِّمي الغناء، والجلسات والمناسبات الاجتماعية والدِّينية.
يُلاحظ جاك لامبير، وقد سبقه الفنان محمد مرشد ناجي، أن تكييف النصوص للألحان كان دائماً أمراً شائعاً لدى فناني صنعاء.
كان لكل فنان في صنعاء دفتره الخاص بالأغاني، يحافظ عليه، ليس ليغنّي بالقراءة منه؛ لأنه يحفظ الأغاني عن ظهر قلب، بل للقيام بتكييف ألحان أخرى في المستقبل.
ويستفيد جمع الألحان من البنى الشعرية أيضا؛ كل جزء من الأجزاء الثلاثة للموشَّح يملك جملته اللحنية الخاصة به، وبالأحرى له لحن مستقل. ويختلف هذا التتابع اختلافا كبيرا عن تتابع الأجزاء الثلاثة في الأغنية الصنعانية، التي يسميها ” القومة”.
ففي أغنية “يقرب الله لي بالعافية والسلامة”، رسم لامبير تتابع الألحان الثلاثة عند كل دور “دسعة – وسطى – سارع”، ثم قارن مقاطع القصيدة مع الإيقاعات على النحو التالي:
في الشعر الحميني: بيت، توشيح، تقفيل.
في لحن الأغنية تقابلها الصيغ الإيقاعيّة التالية:
الوسطى، ذات سبعة أزمان، وسطى.
-الغناء الصنعاني في عدن ولحج
أكثر فترات الفن الصنعاني ازدهاراً في تاريخنا المعاصر كانت في لحج وعدن في النصف الأول من القرن العشرين.
الباحث جان لامبير لم يفُتهُ الانتباه إلى أن الفنانين، الذين هاجروا إلى عدن في مطلع القرن العشرين، قد أوجدوا المدرسة الخاصة بهم، وكانت النقاشات بينهم محتدمة، حيث ادَّعى من تعود أصولهم إلى صنعاء أن مدينتهم أصل هذا اللون الفني، وأنها تحافظ على تراثه الأصفى. لكنهم لا يستطيعون انكار إسهام الفنانين غير المنتمين لمدينة صنعاء؛ مثل علي أبو بكر باشراحيل، وصالح العنتري، وأحمد عبيد قعطبي، وعوض عبدالله المسلمي، والفنان عبدالله البار في أندنوسيا، وغيرهم.
صنعاء ضيَّقت على الفن الصنعاني في مفتتح القرن العشرين، مع حكم الإمام يحيى، وكادت أن تخنقه، هذا ما أدى إلى فراره منها إلى عدن ولحج.
ظهرت أولى التسجيلات للغناء اليمني التراثي في أوائل عشرينات القرن الماضي، وذلك بالتزامن مع ظهور تقنيات التسجيل الصوتي على الأسطوانات؛ مثل جهاز “الفوتو فون”.
كان وصول تقنيات التسجيل إلى عدن حدثاً محورياً في الحفاظ على التراث الموسيقي اليمني، إذ أتاح تخليد ألحان ربما كانت ستُفقد لولا هذه الوسائل. ومع ذلك، فإن ما سُجِّل يمثل نسبة محدودة من التراث الغنائي اليمني.
البداية المبكّرة للموشَّحات الحُمينية، قبل سبعمئة عام، تجعل من الحصول على تسجيلات قديمة مستحيلا.
كيف حُفظت الألحان والأغاني القديمة حتى وصلت إلينا؟
التراث الغنائي والموسيقي السابق لاختراع آلة التسجيل، ووصولها إلى عدن في العقد الثاني من القرن العشرين، لم يختفِ تمامًا، بل تم الحفاظ على جزء كبير منه بوسائل متعددة؛ مثل النقل الشفهي، والتوثيق المكتوب، والتداول العملي بين الأجيال، حيث يتعلم التلاميذ الألحان والأغاني من أساتذتهم، أو آبائهم.
في تاريخ الغناء اليمني، استمر هذا التقليد حتى العصر الحديث.
كانت جلسات المقيل والأعراس تُعتبر وسيلة لتداول الألحان، مما سمح بحفظها ونقلها.
الظروف التاريخية والصراعات وضياع المخطوطات القديمة أدت إلى فقدان الكثير من هذا التراث.
تعرَّضت العديد من القصائد الحُمينية، والموسيقى المرافقة لها، للتلف والضياع؛ نتيجة الإهمال أو غياب وسائل التوثيق المناسبة، ومعظم ما وصل إلينا من هذا التراث جاء عن طريق مخطوطات عُثر عليها تُدعى “السفائن”، أو من خلال محاولات توثيق متأخِّرة.
-الغناء الصنعاني كما درسه جان لامبير
يطرح لفظ “غناء” مشكلة شائكة، كما يرى جاك لامبير: فهو يشمل في الواقع، كما في التراث العربي كله، الغناء، والرقص، وموسيقى الآلات في الوقت نفسه، على نحو متناقض غالبا؛ ما يجعله يؤكد دور موسيقى الآلات في مقابل موسيقى الصوت البحت.
يستنتج من ذلك قوله إن هذا التاريخ المضطرب، وقليل التوثيق، يترك الباحث مكبَّلا أمام الحالة الراهنة للفن الصنعاني: فمن الصعب وصل الأشكال المعاصرة، التي تفتقد في الغالب إلى مفردات نظرية، بماضٍ مجيد، دون شك، ولكنه مجهول في أساسه.
ولذلك يبقى الوصف التطبيقي وسيلة جوهرية في دراسته. وسنلخص هنا خطوطه العريضة فقط كما عرضها لامبير.
يمكن تفسير لون “الغناء الصنعاني” بطريقتين: في شكل وصلة غنائية راقصة “قومة”، حيث تُؤدي مصاحبة الآلة الموسيقية دورا مهما، أو بطريقة صوتية بحتة وفقا لأسلوب “التوشيح” أو “التثليث”، وعندها لا يعود يسمى “غناءً”.
تناول لامبير شكل الغناء الصوتي بمرافقة الآلة الموسيقية، وهو الأكثر شيوعاً.
وسيوفِّر البدء بالملامح المتصلة بموسيقى الآلات، الألفاظ الضرورية للوصف، أي المفردات أو القاموس.
تندرج ألحان الغناء الصنعاني من حيث مظهرها وآلاتها المصاحبة في إطار المقامات المنتمية إلى الشرق الأوسط، وعرض الباحث لها بتفصيل، لا أرى ضرورة لاستعراضها هنا.
درس جاك لامبير المقامات في الأغنية الصنعانية، وعرضها تفصيلاً ورسماً، لكنه ألحقها بقوله إن روح الأغنية اليمنية أكثر اتباعا للحن منها للمقام؛ فاللحن هو الوحدة المفهومية الأساسية، في حين لم يحافظ التراث على أية معرفة نظرية للمقامات.
لذلك ينبغي الاكتفاء بوصف تطبيقي نسبي.
تفحّص جاك لامبير التراث المتوفر “حوالي مائتي لحن” التي أشار إليها المرشدي بأنها موجودة في دفاتر لدى العجمي، وتفحّص السلَّم الرئيسي المعروض في سلَّم أنغام الآلة كله، بتمييز خمس بُنى مقامية رئيسية؛ درسها في كتابه، وربما يكون الباحث الوحيد الذي درسها، وكتب عنها.
ويوكّد “أننا يجب أن نستخدم -بحذر- الإشارات الموضوعة على النص (اندماج، لازمة، خرشة، الخ)، حتى لا تجمد هذه المفاهيم في التراث الشفوي، التي كتبت لأول مرة على الورق، وستسمح بحوث لاحقة -دون شك- بمعرفة أدق لها”.
وإجمالا، يرى أن المفاهيم، التي تخص جوانب المقامات، قليلة.
ويبدو أن هذا الغياب النسبي للنظرية، مكتوبة أو شفوية، قد شجَّع الموسيقيين اليمنيين على التفكير بعمليات التزيين على نحو مجازي خاص.
وهكذا يلجأ كل موسيقي إلى خياله؛ لكي يدرك بالصنعة الجوانب الحيّة من فنّه، وغالبا ما يستمد مجازات عضوية من مصدر الشعر المغنَّى: لحن يجري ك”سيل متدفق”، أو يمشي في دلال مثل الغزال، أو يتمايل كغصن بان في الريح، إلى آخره.
يعرِّف لامبير وصلة الأغنية الصنعانية المركبة بمصطلح “القومة”، وهي تتابع حركات ذات مقام أو إيقاع أو سرعة ثابتة، وتتكون غالبا من ثلاثة ألحان على الأقل، ذات أدوار إيقاع، أو سرعات مختلفة، وينبغي أن تتابع في ترتيب ثابت: دسعة، وسطى، سارع.
ويمكن أن تكون مصاحبة للرقص في حركاتها الثلاث المتتابعة.
“القومة” مكونة من ثلاث حركات. وقد لاحظنا في مرات عديدة أهمية العدد ثلاثة في أشكال جمالية أخرى: إذ يتكون “الموشح الحُميني” من ثلاثة أجزاء؛ أحدها، وهو الأوسط، يسمى “توشيح”، وينقسم هو نفسه إلى ثلاثة أقسام؛ ويمكن تعريف التوشيح، أو التثليث، بأنه تنويع من الغناء بصوت الإنسان، وأنه تثليث؛ لأنه يجمع بين سلسلة من ثلاثة ألحان.
لا غنى عن معرفة الشعر لفهم الموسيقى اليمنية وممارستها: ويؤثر توضيح أغراض الشعر على الأداء الموسيقي؛ فيسمح الشعر بحفظ الموسيقى عن ظهر قلب، ويؤدي التداخل بين بناهما، من حيث تمازجها وتعاكسها، إلى إغناء الأداء.
وأخيرًا، تتوضح علاقاتهما الحميمة في تنويع من صوت الإنسان البحت في الغناء، هو التوشيح. وهكذا غالبا ما يرتبط الشعر والموسيقى على نحو لا ينفصم. ويستغل الجمال بدوره علاقاتهما متطلبا من النص ومن صوت الإنسان ومن الآلة أن تتآلف على نحو حميمي لتسهم في تعبيرية الغناء الصنعاني.
عكس استخدام اللفظ الشعبي المناسب للموسيقى في الشعر الحميني اهتماما أدبيا، كما حافظ على مستوى عالٍ من الرِّقة والاتقان.
وفي الماضي القديم لهذا اللون الغنائي اليمني، كان يتم عزف “الفرتاشة”، ثم “مطول أو دارج” محل الدسعة: فرتاش، دسعة، وسطى مطول، وسطى، سارع.
ولا أظن أننا عرفنا معنى مكتمل لهذا البناء التصاعدي، وبالذات “الفرتاشة”؛ كنا عرفناها في عزف الموسيقار أحمد فتحي، وصوت أبوبكر، في تحديدهما للغناء الصنعاني وأدائه بمشاركة الفِرقة الموسيقية في الثمانينات، مع اهتمام ببقاء آلة العود في متن العمل الموسيقي.
كانت الأعمال المشتركة محطة مهمة في مسيرة الفنانين الغنائية، وقدمت مجموعة من أهم أغاني التراث اليمني المعروف ب”الأغنية الصنعانية”.
-ألحان تتخلّق بين فواصل الكلمات وأبيات الشعر
يمكننا القول إن الشعر المكتوب خصيصًا للغناء، مثل الموشَّحات الحُمينية، يحتوي على مقامات موسيقية ضمنية، حتى وإن لم تكن مكتوبة بالمعنى التقليدي للنوتة الموسيقية. فالتراكيب الشعرية لهذه الأنواع صُممت بعناية لتتلاءم مع الألحان والغناء، ممّا جعلها قريبة من النظام النّغمي.
ملامح النوتة الموسيقية الضمنية في الموشَّح الحُميني تتضمن تعدد القافية
التي توفِّر للحن الموسيقي مرونة في التنويع النغمي.
كذلك الانتقالات بين القوافي تعطي فرصًا لتغيير اللحن والإيقاع أو التنويع في الأداء.
أما المفردات الشعبية، التي أدخلها شعراء “الحُميني”، فكانت ضرورتها ناتجة عن الحاجة إلى كلمات حيَّة ونابضة من الحياة اليومية يعرفها الناس في جميع أصقاع اليمن، وتهيئ القصيدة للغناء، حيث إن بعض الكلمات تتسم بوقع صوتي يتناغم مع الألحان. التعبيرات العاطفية الشعبية، والكلمات البسيطة تساعد المغنِّي على أداء معبِّر يتصل بالمستمعين.
تميل الموشَّحات الحُمينية إلى استخدام كلمات عامية ونغمات شعبية تجعلها مثالية للتلحين والغناء، وألحانها غالبًا مستوحاة من البيئة المحلية، مما يجعلها متصلة بالنَّغم الطبيعي للحياة اليومية.
من سِمات الموشَّح الحُميني الكسر المتعمَّد للقواعد النحوية، وتجاهل الحركات الإعرابية، واستبدالها بتسكين أواخر الكلمات، ويهدف هذا الخروج غالبًا إلى تحقيق انسجام صوتي ونغمي. هذه المرونة تعطي للقصيدة انسيابية موسيقية تجعلها أكثر ملاءمة للألحان.
تمتاز الموشَّحات الحُمينية بتقسيمات إيقاعية واضحة؛ مثل: “الدور” و”القفل”، التي تتناسب تمامًا مع بنية اللحن.
هذا البناء يجعل القصيدة قريبة من الموسيقى في بِنيتها، وكأنها تحتوي على “إيقاع داخلي” يقود اللحن.
الشاعر غالبًا يضع في اعتباره كيفية أداء القصيدة موسيقيًا، مما يجعله يختار أوزانًا وقوافيَ تسهّل تحقيق الوحدة النّغمية.
تعتمد الموشَّحات الحُمينية على بِنية خاصة من القوافي والأوزان، مما يُشبه تعدد الحركات الموسيقية في مقطوعة واحدة.
كُتبت الموشَّحات الحُمينية بطريقة تدمج بين الشعر والموسيقى، وذلك سبب استمرار هذا النوع من الشعر الغنائي، وتأثيره حتى اليوم في فنِّ الغناء التراثي اليمني.
“يتأسس المثال الجمالي للغناء الصنعاني على مبدأ رئيسي يعمل على مستويين: إذ ينبغي أن يتحد النص واللحن حتى يشكلا كلا موحّدا، من المعنى والمغنى.
وينبغي أيضا أن يتوحّد صوت الإنسان وصوت الآلة على نحو وثيق لخدمة المعنى. ويعد هذا الاتحاد أحد المعايير الرئيسية للحُكم عليها. ويخضع تسلسل هذين المستويين لصياغات متنوعة؛ توجز في أمثال:
العود يخدم الصوت والصوت يخدم الكلمات”.
والحقيقة أن الثقافة العربية كلها تؤكد بوعي على العلاقة الحميمة بين اللحن والكلمات، في أشكال مختلفة.
يعطي الفارابي، في مؤلفه الضخم عن الموسيقى العربية، أهمية كبيرة لاتحاد الشعر والموسيقى بهدف الغِبطة الموسيقية، أي “الطرب”:
“لم تؤلَفْ الألحان الكاملة لمتعة الحواس وحدها، بل لتوليد صورة في النفس، أو عاطفة، وهذه هي ما تستمد كلمات الشعر منها الفوائد الأعظم”.
نقلا عن موقع “قناة بلقيس”