تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » عن الدين والفن مرة أخرى

عن الدين والفن مرة أخرى

عن الدين والفن مرة أخرى

 

زهير علي
من الغريب أن يتنكّر لقيمة الفن بعض من يظنون أنفسهم يدافعون عن الدين، وكذلك من يتنكر للدين ممن يظنون أنفسهم يدافعون عن الفن؟!!

ومن يحاولون احتكار التعبير عن الإنسان، عن طريق تسفيه وإلغاء أحدهما، فمثلهم كمثل من يسعى لهدم نفسه دون أن يدري، فبالإضافة إلى الدلالة الفكرية على ارتباطهما، وتصنيف الدين والفن ضمن إطار مشترك من حيث بُعدهما الإنساني عند كثير من الفلاسفة
-على أنهما من أهم الظواهر التي تعبِّر عن تجاوزنا النسبي للمادة- فهناك أيضا النشأة التي تشير إلى ارتباطهما الوثيق، كما سنرى هنا.

وبرأيي أن من ينكر العلاقة الوطيدة بين الدين والفن، إما أنه لا يفكِّر فيهما من منظور كلي كما تفعل الفلسفة، أو لم يعش أيًا من التجربتين (الدينية والفنية) كما ينبغي، أو أنه أدرك تلك العلاقة في أحد أبعادها فقط، وتحديداً ما أسميته من قبل “العلاقة التنافسية بين الدين والفن عند البعض”، وهي علاقة غير حتمية، أو صحيحة بالضرورة، وإنما تستند لجزء فقط من التجربة التاريخية، وتساعد على نشأتها طبيعة المجالين واشتراكهما في نفس ذلك التوجّه للجانب الإنساني فينا، وكذلك الرغبة في احتكار وتمثيل هذا الجانب، في حين أن العلاقة يفترض أن تكون تكاملية -كما قلنا في مقال سابق- وأن يتم رفد وتعزيز الجانب الإنساني فينا بكليهما.

ومن المهم أن ندرك أن المبالغة في إنكار حاجتنا للدين تتضمن في طياتها فكراً مؤهلاً لإنكار حاجتنا للفن أيضاً، وذلك في حال ذهبنا بهذا الاتجاه إلى منتهاه المنطقي، الذي يتمنَّى أن يلغي كل نشاط إنساني وميتافيزيقي، فالمبالغة في النظرة المادية للإنسان تجعل من الفن أيضا محض خرافة ونشاطا غير مبرر ومفهوم بشكل واضح وصارم. ولعل هذا لم يحدث صراحة؛ كون الظاهرة الفنية يمكن تطويعها بحيث لا يترتب عليها أي التزامات تثقل كاهل هؤلاء سوى عبء وثقل تفسيرها فقط، وبالتالي يرى بعضهم أنها النشاط الميتافيزيقي الوحيد الجيّد في تجربتنا الإنسانية!! ولا بأس أن تكون بمثابة ملاذ أخير للإنسان وليس جزءا أصيلا في تكوينه، ويحرصون -كما في آخر صيحات اليوم- على تجريدها من أي غاية إنسانية، بحيث تكون بلا هدف ومعنى سوى ممارسة الفن في حد ذاته!!

إن التجربة التاريخية للبشرية تؤكد لنا الرابطة الوثيقة بين طرفي معادلتنا هذه، إلى الحد الذي جعلت فيه البعض يرى أن الفن ابن شرعي للدين، ولهذا لم أتعجب حين وجدت في بعض تلك المواد العلمية المتعلقة بتاريخ الإنسان وظهور الأديان تأكيدا واضحا ومباشرا على هذا الارتباط، فالآثار المادية القديمة تؤكد لنا أن أول نصوص وقصائد وملاحم مكتوبة عثر عليها الإنسان المعاصر كانت تتحدث عن الدين وتعبِّر عنه، (ونقصد هنا تحديداً آثار الحضارة السومرية ونقوشها الدينية، التي يعدها العلماء أقدم نصوص التاريخ المكتشفة حتى الآن)، بل إن أول إنسان وفنان قام بالرسم على جدار كهف في عصورِ ما يسمى “ما قبل التاريخ” كان يعبِّر عن نزعته الدينية أيضا، ولم يرسم من أجل أي إجراءات غريزية متعلقة بالبقاء، وحتى متعلقات البقاء من طعام وصيد.. الخ، أقحم الدين والفن فيها رغم عدم وجود أي رابط مادي ضروري بينهما.

وهناك ملاحظات معتبرة تجعل منها تصرفات غير لائقة ومتسقة مع ضرورات أو تطوّر متطلبات البقاء المادي، وتكاد تكون أقرب إلى ضياع الوقت بالنسبة للصياد؛ وفقًا لبيجوفيتش والمسيري، ولكنها طبيعة الإنسان العاقل الذي أصبح -في مرحلةٍ ما- مختلفا نوعياً عن بقية الحيوانات، واهتم بالدين والفن.

نقلا عن موقع “قناة بلقيس”