تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » صلاح جاهين.. حالة فنية لن تتكرر

صلاح جاهين.. حالة فنية لن تتكرر

صلاح جاهين.. حالة فنية لن تتكرر



إذا كان الفن المصري قد أنجب في تاريخه الطويل مبدعين كبار، فإن صلاح جاهين يحتل مكانة فريدة لا ينازعه عليها أحد، فلم يكن مجرد شاعر أو رسام أو كاتب، بل كان “حالة فنية” كاملة، لا تُختزل في تعريف واحد ولا تُقاس بمقياس واحد.

ولد جاهين في 25 ديسمبر 1930، ورحل في 21 أبريل 1986، لكنه ترك خلفه ميراثًا فنيًا وثقافيًا لا يزال ينبض بالحياة، ويتردد صداه حتى اليوم في الشعر، والكاريكاتير، والمسرح، والأغنية، والسينما.

أحد أبرز أسباب خلود صلاح جاهين أنه لم يضع نفسه في قالب فني واحد، كان شاعرًا عاميًا من طراز فريد، ورسام كاريكاتير ساخرًا يملك قدرة نادرة على التوصيل البصري السريع، وصحفيًا له رؤى سياسية واجتماعية نافذة، وكاتب سيناريو يملك حسًا سينمائيًا شعريًا. هذه القدرة على التعدد لم تكن مجرد موهبة، بل كانت نتاج وعي ثقافي حاد وشخصية مبدعة لا تعرف الحدود.

ففي الشعر، وضع جاهين بصمته الأوضح من خلال “الرباعيات” الشهيرة التي قدم فيها تأملات وجودية بعبارات عامية بسيطة، لكنها عميقة وموغلة في الفلسفة، يقول في واحدة منها: “عجبي!” — الكلمة الأشهر التي ختم بها كل رباعية، والتي أصبحت علامة مسجلة باسمه، تختصر دهشته الدائمة من الحياة والناس والمصير.

صلاح جاهين لم يكن شاعر السلطة أو النخبة، بل شاعر الشعب. كتب بلسان الناس، وحكى حكاياتهم، وتحدث عن همومهم ببساطة وعذوبة في قصائده، نلمس وجع المواطن، فرحته، خيبته، أمله، فهو الذي كتب في لحظات النصر كما كتب في لحظات الانكسار، ولم يخفِ اكتئابه بعد نكسة 1967، بل عبر عنه بصراحة في قصيدته “تراب دخان”، ليصبح ضميرًا شعبيًا حقيقيًا.

بدأ جاهين حياته الفنية كرسام كاريكاتير في مجلة “روز اليوسف” ثم “صباح الخير”، وواصل مشواره في جريدة “الأهرام”، وهناك ترسخ اسمه كأحد أعمدة الكاريكاتير السياسي والاجتماعي، رسوماته كانت تتحدث عن الناس وتنتقد السلطة وتكشف التناقضات الاجتماعية، وكان يعتمد على البساطة في الخط والعمق في الفكرة، ليوصل رسالته بأسرع وأذكى طريقة.

لم يكن الكاريكاتير عنده مجرد صورة مضحكة، بل أداة تفكير ومقاومة، شخصية “قفة” التي ابتكرها، مثلًا، كانت صورة رمزية للمواطن المصري البسيط الذي يتحمل كل الأعباء بصبر، ويحتفظ بروحه الساخرة رغم كل شيء.

من أبرز علامات صلاح جاهين الفنية مشاركته في أوبريت “الليلة الكبيرة”، الذي يعد من أخلد ما قُدّم على المسرح المصري، كتب كلماته في ستينيات القرن الماضي، وقدم فيه لوحة فنية تمثل المولد الشعبي، بمفردات مصرية أصيلة، ومواقف كوميدية وإنسانية بسيطة، لحن الأوبريت الموسيقار سيد مكاوي، وأخرجه صلاح السقا، ليخرج عملًا متكاملًا يجمع الموسيقى والمسرح والعرائس والشعر الشعبي في آنٍ واحد، باختصار “الليلة الكبيرة” لم تكن مجرد عرض مسرحي، بل احتفال بالهوية المصرية، وجاءت كدليل على عبقرية جاهين في التعبير عن تفاصيل الحياة اليومية بلغة الناس.

صلاح جاهين خُلد لأنه لم يكن مجرد مبدع، بل كان مرآة لجيل كامل، عبّر عن مرحلة فارقة من تاريخ مصر، امتدت من ثورة يوليو وحتى نكسة يونيو، ومن أحلام التغيير إلى لحظات الانكسار. وكان دائمًا يرى الفن وسيلة للتعبير عن الوطن، عن الناس، عن الحياة.

لم يكن شاعرًا يجلس في برج عاجي، بل كان وسط الناس، يضحك معهم، ويبكي معهم. وربما لهذا السبب، لم يمت. صوته لا يزال في المسامع، كلماته تتردد في وجدان المصريين، ورسوماته تُنشر حتى اليوم على صفحات الصحف ومواقع التواصل، وكأنها كُتبت الآن.

في النهاية، صلاح جاهين لم يكن رجلًا واحدًا، بل كان “عصرًا” بأكمله، الشاعر، الرسام، الصحفي، السينمائي، الفيلسوف، المحب للحياة رغم ما فيها، كل ما فيه كان فنًا، وكل ما قدمه ظل بعده، يشهد على عبقرية استثنائية لا تتكرر، لذلك، ليس من الغريب أن يُخلَّد، وأن يُحتفل بذكراه عامًا بعد عام، جنبًا إلى جنب مع رفيق رحلته سيد مكاوي، في نفس اليوم، وكأنهما أصرّا على أن يرحلا سويًا، ليكملا معًا حكايتنا.