عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
كم مرة توقّفت فجأة في أحد شوارع مدينتك لتتأمل جدارية لافتة، أو شعرت بالراحة في زاوية مقهى لأن ألوانه تُحدّثك؟ وكم مرة أمسكت بفرشاة أو قلم ورسمت شيئاً دون تخطيط، فقط لأنك احتجت أن تفرغ شيئاً من داخلك؟
الحقيقة أن الفن -وتحديداً الفن التشكيلي- ليس مجرد زينة بصرية، ولا رفاهية نخبوية. إنه أسلوب حياة، ووسيلة تعبير، وجزء لا يتجزأ من نسيج المدن الحديثة، من عوالمنا الداخلية، ومن هويتنا الجماعية.
الفن ليس رفاهية… بل ضرورة ناعمة في أبسط أشكاله، الفن التشكيلي هو لغة بصرية صامتة، تكلّمنا وتفهمنا، دون أن تفرض رأياً أو تُملِي شعوراً. نحن نعيش الفن، حتى دون أن ننتبه: في اختيار ألوان غرفتنا، في تنسيق ملابسنا، في رسمة عفوية على دفتر، أو حتى في التقاط صورة جميلة بهاتفنا.
الهوايات الفنية، مهما كانت بسيطة، تُهذّب الذوق وتُنمي الحِس الجمالي، وتُقرّب الإنسان من نفسه. لا تحتاج لتكون محترفاً حتى تمارس الفن. كل ما تحتاجه هو الرغبة بأن ترى العالم بألوان مختلفة.
من أبرز التحولات التي تشهدها مدننا اليوم هو حضور الفن التشكيلي في المجال العام، وبشكل متزايد. الطرقات، الجسور، الميادين، وحتى الجدران القديمة، باتت تتحوّل إلى لوحات نابضة بالحياة.
الجداريات، المنحوتات، والزخارف المعمارية لم تعد مجرد عناصر تجميلية، بل أصبحت أدوات لرواية القصص، ولترسيخ الذاكرة الجماعية، ولإضفاء طابع إنساني على المدينة. حين ترى تمثالاً في زاوية ساحة، أو رسماً على جدار يحاكي التراث المحلي، فإنك ترى نفسك، وترى الناس من حولك، وتشعر أن المكان ينتمي إليك.
الفن التشكيلي والاستدامة… علاقة أكثر عمقاً مما نعتقد
قد لا يخطر في بالك أن يكون للفن علاقة بالاستدامة، لكن الحقيقة أن الفن التشكيلي يلعب دوراً جوهرياً في بناء مدن أكثر إنسانية واستدامة. كيف ذلك؟
* تحويل المساحات المهملة إلى فضاءات حيوية: عندما يتم استثمار الجدران الباهتة، والأماكن المنسية، وتحويلها إلى جداريات أو معارض خارجية، يتحوّل الفضاء العام إلى مساحة نابضة بالحياة والهوية. هذا لا يُجمّل المكان فحسب، بل يُعيد إليه قيمته الاجتماعية والبيئية.
* إعادة التدوير في الفن: كثير من الفنانين التشكيليين يستخدمون المواد المستهلكة، والخامات الطبيعية أو المحلية، ليصنعوا منها أعمالاً فنية. بهذا، يُصبح الفن أداة توعية بيئية بامتياز، تشجع على التفكير في النفايات بوصفها موارد جديدة.
* الارتباط بالهوية والمجتمع: الفن المحلي، حين يُعبّر عن ثقافة المكان وسكانه، يُسهم في تعزيز شعور الانتماء، وهو أحد أساسات الاستدامة الاجتماعية.
* الحد من التلوث البصري: الفن التشكيلي المنظم والمدروس في المجال العام يُقلل من الفوضى البصرية، ويُحسن المشهد الحضري، ما ينعكس مباشرة على جودة الحياة.
جودة الحياة تبدأ من الجمال حيث إن منظمة الصحة العالمية تُعرّف جودة الحياة بأنها «إحساس الفرد بموقعه في الحياة، ضمن السياق الثقافي والاجتماعي الذي يعيش فيه». والفن يُحسّن هذا الإحساس بشكل مباشر.حين تكون المدينة مليئة بالألوان، بالتفاصيل الفنية، بالمفاجآت الجمالية الصغيرة، يشعر الإنسان بالراحة، بالأمان، بالإلهام. وهذا ليس تنظيراً، بل واقع أثبتته دراسات كثيرة، أكدت أن الفن في المجال العام يقلّل التوتر، ويُحفّز الإبداع، ويُعزّز التفاعل الإيجابي بين الناس.
الذائقة البصرية تُبنى بالتجربة ففي كل مرة تمرّ فيها بجدارية وتشعر أنها «تحكيك»، أو ترى قطعة فنية مصنوعة من الخشب أو المعدن فتقف قليلاً لتفكر في معناها… فأنت تُربّي في داخلك حساً بصرياً ناعماً، يرافقك في أبسط اختياراتك.
الفن التشكيلي ليس شيئاً نخزّنه في المتاحف، بل ما نراه ونعيشه ونشارك به، سواء من خلال هوايات بسيطة، أو مشاركات مجتمعية، أو تفاعل مع الفضاء العام.
رسالة لهواة الفن
لا تنتظر أن تكون فناناً لتسمح لنفسك بممارسة الفن. يكفي أن تمسك بريشة، أو تلون فضاء من حولك، أو تشارك في ورشة مجتمعية للرسم. كل تجربة فنية -مهما كانت بسيطة- تفتح باباً جديداً نحو الذات، ونحو المدينة، ونحو عالم أكثر رحابة وإنسانية.
الفن التشكيلي ليس إضافة جميلة للحياة فقط، بل هو حاجة حضرية وثقافية وإنسانية. نحتاجه لنفهم أنفسنا، ولنعبر عن قصصنا، ولنحوّل مدننا إلى أماكن تُشبهنا، وتُلهمنا.
فلنمنح الفن مساحة في بيوتنا، في شوارعنا، في مدارس أطفالنا، في قراراتنا اليومية. لأن الفن لا يُجمّل المكان فقط… بل يُجمّل الإنسان نفسه.
