جمال حسن
اذا سألنا عن العصر الذهبي للأغنية المصرية، اي عصر ستختاروه؟ اذا اخذنا هذه الأغنية منذ سيد درويش مرورا بعبدالوهاب وام كلثوم، وكثير وصولا الى عمرو دياب وويجز. وياله من مسار
في سؤال عن العصر الذهبي للأغنية المصرية، أجاب ناقد موسيقي مصري شاب بأنها فترة بداية الألفية، وتحديدا مع صدور البوم “تملي معاك” لعمرو دياب. وبصراحة تفاجئت، ظانا بأنه يتحدث عن عصر اغنية البوب المصرية ابتي بدأت في ثمانينيات القرن الفائت. لكن السؤال كان واضحا عن العصر الذهبي للأغنية المصرية في كل العصور؟
ما ادهشني، هو الرد السريع والحتمي، وأيضا مسحة الثقة المتعالية، ولفت انتباهي حول تعليله لسبب اختياره بأن شكل التوزيع الموسيقي اختلف تماما.
هل يعقل ان تكون بداية الألفية، فترة تبز حقبة الثلاثينيات والاربعينيات وأيضا الخمسينيات، بإرثها الغنائي والموسيقي. كما انه ليس بالامكان ان نسمي فترة بعينها لسبب وحيد، مهما كانت أهميته. اذ ان تحديد عصر ذهبي مرتبط بعدة جوانب.
والفترة الممتدة من اواخر العشرينيات وحتى اواخر الخمسينيات، هي العصر الذهبي للأغنية المصرية لعدة اسباب.
فهي المرحلة التي ظهرت فيها أعظم الأصوات الغنائية، مثل ام كلثوم واسمهان وأيضا عبدالوهاب في بداياته، وآخرين. وكذلك ظهر فيها أعظم الملحنين، وكذلك اعظم الأعمال الغنائية. أيضا ينطبق الأمر على ارشيف تلك الفترة من حيث الأعمال الغنائية.
هل يمكن ان نعثر على أغنية بوب مصرية تعود لبداية الألفية، تضاهي أغنية “انا قلبي دليلي”، التي غنتها ليلى مراد، أو ما غنته اسمهان، او بعذوبة افرح يا قلبي ورشاقة “مادام تحب بتنكر ليه” او بالشجن الرفيع لأغنية”كل ده كان ليه”. او حتى بخفة وأناقة “قلبي ومفتاحه”.
عندما نتناول عصر ذهبي، لا يخضع الأمر لذائقة شخص او مجموعة أشخاص، بقدر انه يخضع لمعايير تتسم بالطابع العلمي، كما اسلفنا، جودة الأصوات وقوتها وارشيفها الغنائي، وتنوعها وأصالتها اللحنية.
لا يتعلق الأمر فقط بالتقدمية، فكل عصر مرتبط برموزه وانتاجاته، وليس لمجرد تقدميته.
فمثلا حين تحدث عن التحول في الأسلوب الموسيقي او اسلوب التوزيع الموسيقي، فهذا سبب لا يمكن ان نأخذه بالاعتبار، لأنه ليس مرتبطا ببراعة او موهبة صانعي الموسيقى بدرحة أساسية، وهذا لا يعني انه لم يكن لهم دور، لكنها مرحلة تدين للتطور التقني في أدوات التسجيل، والانتاج الموسيقي، أي انها بدرجة أساسية تعود لتراكم خبرة وتطور في الحرفية.
والمسألة لا تخضع أيضا لجانب كمي، أي الأنواع الموسيقية المستخدمة، وللعلم فعصر البوب الامريكي المنفتح على جميع الأشكال الموسيقية، توقفت المعيته وابتكاره عند الثمانينيات، ولا يمكن ان نقارنه بالعصر الذهبي لموسيقى الروك او الجاز. او بالعصر الذهبي للابتكار الموسيقي الذي جسدته سبعينيات القرن الفائت.
وهذا ينطبق على الأغنية المصرية، من حيث ما انتجته او ابتكرته من ألحان سواء على صعيد الكم، لأن كثير من الانتاجات الحديثة إعادة تدوير لعناصر لحنية من تراث الانتاجات الموسيقية والمخزون السمعي.
عندما نحاول تجميل عصر او جيل من الفنانين، ونعطيه أكثر مما يستحق، فإننا نستبيحه بصورة ما، ونضعه في موقف مخزي. اذ لا يكفي ان تملي ذائقاتنا الخاصة لتحديد ألمعية عصر لا يمكن ان تتوافق موضوعاته وارشيفه وعناصره بأي شكل من الأشكال مع ما سبقه.
أما في ما يخص عصر اغنية البوب المصرية فإني سأتفق مع هذا الرأي والذي بموجبه يمكن اختيار بداية الالفية، كعصر ذهبي لصناعة البوب، وتحديدا منذ 96 وحتى 2007. وهذا لا يعني اننا سنتجاهل ألحان جميلة تعود الى فترة ما بعد العصر الذهبي للأغنية العربية الفعلي. وبالتالي سنظلم عصر الألفية بمقارنات تعريه، وتتكشف عن افتقاره لألمعية لحنية. فهل يمكن ان نعثر على ملحن يضاهي بليغ حمدي خلال تلك الفترة.
اما اذا اردنا ان نعطي الكم أهمية، ووضعنا مقارنة بين احدى تحف العصر الذهبي، أي “رق الحبيب” مع فترة بداية الألفية، فإننا سنميل الكفة لرق الحبيب. سواء من حيث التعدد اللحني، وأيضا المقامي. وهي عناصر لا يمكن ان نعتبرها سببا لتفضيل أغنية او عصور. لكن دعونا نعطي مثل تلك التفاعلات الرقمية، أهمية. فاذا اخذنا الاستخدامات المقامية مثلا، فان اغنية رق الحبيب تبز اصدارات عديدة بل سنوات طويل. من الغناء.
ففي رق الحبيب يستعرض القصبجي بتحولات مقامية مريعة تبدأ من النهاوند، مرورا بالبياتي والراست والنكريز والعجم والكرد والحجاز، وربما هناك تفرعات اخرى، بينما ما تستخدمه الصناعة الحالية يطغى عليه ثلاثة او اربعة مقامات فتسعين بالمئة يستند الى مقامي النهاوند والكرد، ثم البيات وبدرجة اقل الحجاز. واذا اضفنا استثناءات نادرة منذ بداية الالفية سنعثر على العجم في بعض الأعمال، وايضا الهزام في اغنية يتيمة تعود لشيرين هي “جرح تاني”. ربما هناك اعمال أخرى هامشية، لكنها ليست ضمن الصناعة الشعبية.
مع ذلك لا يمكن ان نأخذ هذا بالاعتبار، فإذا اعتمدنا تعدد المقامات دلالة على تفوق فان موسيقانا ستتفوق على الموسيقى الاوروبية التي تستخدم سلمين بدرجة اساسية هما الماجور والمينور، ويقابلهما العجم والنهاوند، بينما العكس هو الصحيح.
لكن سنأخذ البناء اللحني، وهذا كفيل بجعل اغنية رق الحبيب غير قابلة لأن تقارن بأي من اعمال بداية الألفية، لكن يمكن مقارنتها بروائع ظهرت في فترة قريبة منها. لكن تعالوا ايضا لتعدد الإلحان التي شهدتها رق الحبيب، وما فيها من أصالة وخلق، فانها من الناحية الكمية تبز ألبومات بحالها. وانا لا استطيع عد الألحان التي شهدتها، وفي تنويعاتها بين التطريب والتعبير الحالم.
بل اني اشعر بأني اسيء لتحفة، اذ وضعتها في مبارزة مع أعمال وان امتاز بعضها ببعض الابهار او الألمعية، لكنها تتسم بأنماط تجارية وسوقية.
لكن، نناك تدني في الذائقة العامة وتزييف مستمر اذ نضع النجاح التجاري او الرقمي معيارا.
ففي لقاء مع ملحن مغاربي كما اظن، حين سُئل عن من يعتبره اعظم ملحن، أجاب بأنه بليغ حمدي. ومعيار ذلك الفنان هو النجاح وبقاء الأغاني. وبليغ لديه موهبة فذة خلقتها السليقة، لكن بخلاف نجاح كثير من أعماله يفتقر للعمق. واذا عدنا لأكثر الأغاني استماعا لأم كلثوم سنجد ان أعظم روائعها تحظى باستماع محدود. حتى عبدالحليم فأكثر ما يستمع له الجمهور ألحانه ذات الطابع الشعبي على غرار “على حسب وداد” وأيضا “جانا الهوى”، أيضا ألحانه لأم كلثوم تحظى بحصة كبيرة.
وهذا على صلة بتوجهات العصر، فألحان بليغ تتسم بجمل لحنية سهلة وقصيرة، وكذلك استعارته من الروح الشعبية والعنفوان الايقاعي، كان ايضا التعبير الأوضح عن الانفجار الايقاعي الذي خطف روح السبعينيات، وما أحاطها من زخم شعبي ازدهرت فيه صناعة الموسيقى مع ظهور الكاسيت. وهذا ساهم في تشكل عصر البوب ونهاية الموسيقى في طريق يفضي الى تراجع اللحن، عبر الأسلبة الاكليشية. انها صورة لما انتجته أزمنة وتقيأته مراحل مختلفة من تاريخ الأغنية الحديثة. طريق اتسم بانتقال اللحن من التعقيد الى التبسيط، ومن التطوير العضوي الى الملفق، وهذا الأخير ظهرت ملامحه في فترة مبكرة، او بدأت ارهاصاتها منذ ثلاثينيات القرن الفائت.
