أحمد السلامي
من الظواهر الفنية الشعبية التي فرضت حضورها على مشهد الغناء في اليمن، ما حققته تجربة الفنان الشعبي علي عنبه الذي رحل عن عالمنا قبل أسابيع، وفجع محبيه وجمهوره بوفاته في منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي في العاصمة المصرية القاهرة التي قدم للاستقرار فيها، لكن القدر لم يمهله، ويعتبر بحق ظاهرة فنية تستدعي التأمل؛ لأن مستوى تأثيره في الساحة الفنية كان مؤشرًا على تحول في العلاقة بين الفن والمجتمع، إذ نجح في تحقيق الحضور الطاغي لأغانٍ كانت تبدو للوهلة الأولى بسيطةً في تركيبها، مباشرةً في خطابها، شعبيةً في جذورها، لكنها انتشرت على نطاق واسع في سياق فني يمني اعتاد أن يقصي الفن الشعبي وينظر بتراتبية طبقية تميز بين ألوان الغناء، لكن الفنان الراحل نجح في ربط أسلوبه بذائقة جمهور عريض وجد في صوته وفي تماهيه حد التصوف أثناء أداء أغانيه ملاذًا للهروب من رتابة فنية تجتر التراث الراسخ بتكرار دون تجديد جوهري، فصاغ علي عنبه بموهبته العقد الضمني مع الجمهور بعيدًا عن الأغاني الموروثة بألحانها وإيقاعاتها المحفوظة في الذاكرة، والتي تستجلب رد فعل متوقع وانسجامًا لا جديد فيه؛ لأنه يسري في الوجدان منذ مئات السنين.
ولفهم ظاهرة علي عنبه يجب أولًا معرفة أن المهتمين بالفن في اليمن لم يلتفتوا لألوان متنوعة من الفنون الشعبية، وظلوا يتعاملون معها من زاوية الفولكلور المحنط الذي لا يبعث إلا في المناسبات؛ فجاء علي عنبه ونقل بجهد فردي روح الفولكلور إلى التلقي الواسع، بعد أن استوعب جوهر الأغنية الشعبية وصنع جمهوره ومتذوقي فنه الذين كانوا ينتظرون من يأتي مثله ليمسح الغبار عن اللون الشعبي وينسج على منواله أغانٍ جديدة.
اندمج الجمهور مع أغنية علي عنبه داخل وخارج صالات الأعراس، وأصبحت أغانيه متداولةً بآلة العود التي تصاحب صوته الحاد، وما يميزه ليس الكلمات، وإنما المقاربة الوفية والذكية للألحان الشعبية، وإبداع ألحان جديدة من وحيها، وعدم التفصح في التلحين، وعدم القلق من الابتعاد عن أجواء الغناء المألوف الذي رسمت ملامحه النخبة على مستوى الشعراء والمطربين والمستمعين. هكذا أوجد علي عنبه مشروعه الفني وأنقذ معه الأغنية الشعبية وفتح لها أفقًا جديدًا، وتجنب الاستسلام لرتابة الأغنية التقليدية بالاعتماد على حيوية الغناء الشعبي الذي جذب الجمهور وأطربه وأسعده، وفتح عينيه على عالم مختلف كان سجين فرق متواضعة يقتصر أداؤها على المزمار الشعبي في أعراس القُرى.
وفي السابق ظلّ المشهد الغنائي اليمني محتكرًا بين عدة ألوان جميعها تندرج ضمن الغناء التقليدي الذي يعتبر وريث الإنشاد الديني وفن النخبة المتوارث والمرتبط حصرًا بسياق “المقيل” النخبوي، وكان غرض هذا اللون من الغناء التقليدي توليد التأمل والانسجام السمعي مع الكلمات والطرب والاندماج مع روح الإنشاد الذي تطور إلى غناء، وفي المقابل يقع الغناء الشعبي في قاعدة الهرم، ويأتي مرتبطًا بالريف ويكاد يكون مصممًا لوظيفة أساسية هي التعبير الحي الذي يحفز على العمل والحركة والرقص ونقل المزاج الشعبي بوضوح، والتعبير عنه دون مواربة أو مجازات ورموز، وكان المزمار الشعبي يمثل الآلة المركزية في الأغاني الشعبية التي تؤديها طبقة اجتماعية مصنفة ضمن الطبقات الأقل شأنًا، ومهمتها ترفيه مجتمعات القرى والقبول بوضعها ضمن تراتبية السلم الاجتماعي، وهذه الطبقية التي كانت تعيد إنتاج التفاوت في المجتمع والفن هي الجدار الذي سيكون لعلي عنبه ونجوميته دور في زحزحته، ابتداءً بنقل الأغنية الشعبية من اقتصارها على الأداء بمجموعة ألحان على آلة المزمار، إلى فهم روح تلك الألحان وطبيعتها الطربية المرحة التي تأسرك وتسحب وعيك إلى عمقها لتتوحد بها. ولم يفكر عنبه عندما تعلم العزف على آلة العود بالاتجاه مثل غيره من الفنانين إلى أداء الأغنية التقليدية الراسخة والمحفوظة داخل نمط الغناء الصنعاني، لكنّه قرر تكييف عزفه على العود وتطويعه لينطق بلغة الفن الشعبي الذي كان يؤدى بمصاحبة المزمار والطبلة فقط؛ فنقل الأغنية الشعبية إلى مساحة أتاحت له بعد ذلك التفكير اللحني من داخل عالمها لإضافة ألحان جديدة سيعرف بها، ابتداءً بأغنية “رب العباد يا من خلق وسوى”، ثم “لا النوم يشتيني ولا اشتي النوم”، وصولًا إلى “يا هاجري”، و”باب المحبة”، و”من دمع عيني يكون باب السما مفتوح”، ولحنه الجديد لأغنية من أكثر الأغاني التراثية شهرةً ونخبويةً في اليمن، هي “السنا لاح”، وغيرها من الأغاني والألحان التي نسجها على منوال شعبي أصيل وبإبداع.
نقل علي عنبه الأغنية الشعبية من وظيفتها التي كانت مقتصرة على الرقص والأعراس والمزمار إلى دمجها في المجتمع بوصفها أغنية منافسة تحضر إلى جانب الغناء التقليدي ونجح أيضًا في اكتشاف ما في الغناء التقليدي المتوارث من مداخل تقربه من الغناء الشعبي وروحه من حيث الإيقاع والأداء والأسلوب، وبذلك استطاع نقل رسالة مفادها أن الموروث الشعبي أقرب للتعبير عن روح اللحظة في المجتمع الذي لا تشكل المدينة ومجتمعها وأغانيها فيه إلا نافذة واحدة، تجاور نوافذ أخرى شعبية لها جمهورها العريض، حيث الريف الممتد في اليمن والذي يكاد وفق إحصاءات متداولة يشكل ما نسبته أكثر من 70% من السكان.
ومن أسرار نجاح تجربة هذا الفنان قدرته على ملامسة العصب المباشر للفرح اللحظي، والألم كذلك، واتباع نهج في التلحين يعتمد على مركزية الإيقاع الشعبي، ومنح كل أغنية مساحة مناسبة من الطرب المنسجم مع التعبير المباشر الذي يصاحبه الإيقاع، وتوحد الفنان مع العزف والأداء يقود الجمهور إلى التماهي معه والاستمتاع بسلاسة الطرب الشعبي وحفاظه على إيقاع متصاعد لا يتراخى أو يتكاسل في الإفصاح عن مركزيته في الأغنية.
هكذا جاء صوت علي عنبه إلى ساحة الفن بجديد، كشف من خلاله أنه يغني للحاضر، وأن في أغانيه نكهة يسري فيها تحدي القهر والاحتفال بإشاعة الفرح والغناء لكرامة الإنسان وجودة أخلاقه وحسن طباعه كما في أغنيته “يعجبني الجيد ابن من كان يكون” وقد كان علي عنبه بالفعل والإرث الذي تركه من أجود الفنانين وأكرمهم، بجانب الاندماج الذي يميزه أثناء أداء أغانيه وقدرته على الوصول بالجمهور إلى حالة من السلطنة تنسي المستمع اليمني ثقل اللحظة الراهنة، وتعينه للعثور على دقائق يستعيد فيها إحساسه بآدميته، وأنه ما يزال قادرًا على التفتيش عن جذوة حياة وأمل وطاقة داخلية تسمح بالتوازن، كل هذه الروح الإيجابية أيقظها الفنان الراحل بالاتكاء على مخزون شعبي عريق من الغناء، ولعل هذا أفضل ما يمكن أن يقدمه الفن للشعوب في لحظات الانهيار القاسي التي تمر بها، والمؤسف أن علي عنبه رحل وبلده لا يزال عالقًا في الانهيار والتفسخ وراكدًا في الفوضى. لكن يكفيه أنه ترك تجربة لها جمهورها، وله أيضًا محبيه وعائلته الفنية التي تواصل رحلته من حيث انتهى. وتبقى تجربته وما حققه من شعبية شهادةً حية على قدرة الفن المستمرة على التعبير عن المجتمع، وحتى عندما تكون الأرواح قد أنهكتها الحرب تظل بحاجة للفن في كل الظروف والأزمات والأحوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن موقع ultrasawt
