تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الصورة البصرية في شعر البردّوني

الصورة البصرية في شعر البردّوني

للكاتب أحمد هادي
احمد هادي
 

اللون في شعر البردّوني، الصورة جوهر الشعر وهي الركن الأساسيّ الذي تقوم عليها القصيدة، وتُعدّ لبنة مهمّة في نقل الأفكار والرؤى والأحاسيس. ويُعدّ اللون من أهم العناصر في تشكيل الصورة الشعرية؛ وذلك لأن استخدم اللون في الصورة الشعرية البصرية يتضمن بُعداً نفسياً يؤثّر فسلوجياً في وجدان المتلقي بشكل كبير. وتعتبر من أهم وسائل التواصل الوجدانيّ والتعبير بالقول أو بالرّسم وهي أحد ميّزات الفنون الإبداعيّة المعاصرة.

وتُعدّ مسلكًا من مسالك التجديد والتطوّر والأصالة، الألوان في الصورة الشعرية للبردّوني تختلف في دلالتها باختلاف مواطن استخدامها؛ إذ إن الألوان في الصورة الشعرية للبردّوني لا تَرد زينة وحلية بل هي من صميم وجوهر الفنّ الشعريّ ذاته، فقد عرفها كوين جون “هي التي تحور الطّاقة الشعرية في العالم”، وفي اللغات الحسّية والبصرية. ويعرّفها الدكتور جابر عصفور بقوله “إن الصورة هي طريقة خاصة من طرق التعبير أو وجهة من أوجه الدلالة تنحصر أهميتها فيما تحدثه في معنى من المعاني، من خصوصية وتأثير فالصورة لن تغيّر من طبيعة المعنى ذاته أنها لا تغيّر إلّا من طريقة عرضه وكيفيّة تقديمه وتأثيره في المتلقي.

ومن الصور البصرية والجمالية للبردّوني التي استخدم فيها أكثر من لون البيت التّالي “من خضرة القات في عينيه أسئلة صفر تبوح كعود نصف متقد” من المعروف أن اللون الأخضر في يدلّ على معاني النمو والأمل والخصوبة، فهو لون رطب منعش يوحي بالرّاحة إلّا أن شاعرنا جعل اللون أكثر عمق ومعنى وحملة طاقة تعبيرية ودلاليّة أكثر غرابة واستثنائية وهذا يستفز خيال المتلقي ويجذبه لأنه خروج عمّا هو مألوف؛ إذ إن دلالة اللون الأخضر في هذا البيت له دلالة متخلفة عمّا هو متعارف عليه ودلالاته تنسجم مع النسق والسياق العام للبيت الشعريّ؛ فاللون الأخضر في شعر البردّوني يؤدّي وظيفة تعبيرية تكشف عن أعماق نفسه وعن أفكاره ومشاعره، فخضرة القات هنا ليست تلك الخضرة الطبيعيّة أو التي تبعت في النفس السرور والبهجة وإنما هي خضرة فيها ذبول وانكسار وضعف والعرب كانت تسمّى اخضرار الوجه ذلة وهوان، كما جاء في قول جرير كسا اللوم تيما خضرة في وجهها فيا خزي تيمٍ من سرابيلها الخضراء.

ويقول أيضًا إن تصبر التيم مخضراً جلودهم على الهوان فقبل اليوم ما صبروا وفي البيت الشعريّ للبردّوني تصوير بصريّ متشابك ومترابط في الشكل والمضمون بفلسفة وأسلوب تظهر من خلاله فلسفة الشاعر وخياله الخصب في التصوير والتجسيد والتشخيص، حيثُ ورد ذكر أكثر من لون مزدوج ومتباين ومتمايز إلّا أنها تجتمع وتتناغم في دلالته وسياقها التعبيريّ فاللون الأصفر في البيت أسئلة صفر صورة بليغة حولت الصورة الحسّية إلى صورة بصرية تشخيصية مدركة ترى الجماد فيها حياً ناطقاً والأعجم فصيحاً والأجسام الخرس مُبينة، فاللون الأصفر وفق الدلالة التي جاء فيها يدلّ على الوجه المناقض للفرح والسّعادة، وهو الحزن والذبول والكسل والموت.

بينما الشطر الثاني من البيت كعود نصف متقد تشبيه بليغ يوحي بالاستعارات والتصورات المجازية للون الرماديّ الغامق الذي قد يكون لون العود، وكذلك للون الأحمر النار واللون الأسود والأبيض الفحم ودخان العود في النصف غير المتقد؛ فالألوان في شعر البردّوني صورة تتضمّن صوتًا ومعنى وخيالاً مرئيًا ودلالاتها متغيّرة وفق السياق والنسق التامّ الذي يخدم المعنى ويفسره، والرّسالة التي يريد أن يوصلها الشاعر للمتلقي والتي تعكس نفسيه الشاعر وأحاسيسه ومشاعره الذاتية مستخدماً اللون كأداة لإيصال العاطفة بتركيب يبرز فيها حالته الوجدانية لخياله وفكره وفلسفته في التركيب الشكليّ واللونيّ مستخدماً أكثر الطرق استثنائية في التصوير، أحمد هادي متذوق للشعر ومهتمّ بالفنون البصرية.