للكاتب جمال حسن
وُلدت موسيقى البوب، في الولايات المتحدة مطلع خمسينيات القرن العشرين، وتشكل أسلوبها على استيعاب اتجاهات موسيقية متعددة وبصورة لا متناهية. وفي وقت شهد البوب مع دخول السبعينيات في أمريكا والعالم، باعتباره اتجاهًا عصريًّا- بدأت ملامحه تظهر، بشكل حرج، في مصر أواخر ذلك العقد.
وبينما كان البوب العربي في فورة، خلال الثمانينيات والتسعينيات، ظلت اليمن مأسورة بالتقاليد، سواء في إيقاع الحياة أو الغناء. فتوقف التيار التجديدي العدني، على الشكل التقليدي المصري، رغم ظهور محاولات هنا وهناك توقفت. وفي منطقة الخليج التي وجدت في الموروث الغنائي اليمني الثري مرجعية مهمة، استطاعت أن تسبق اليمن في هذا المجال لخطوات. وكان للاقتصاد دور فعال في تطور صناعة الغناء هناك، عكس اليمن.
وفي ظروف حرب استثنائية تعيشها اليمن، هناك أصوات شابة تقترح أسلوب بوب يمني، ملامحه لم تتضح تمامًا. فالبوب يراهن على تعدد الاتجاهات الموسيقية، لكن ما زال يفتقر لنسق واضح، كونه يعتمد كليًّا على جهود فردية، وفي غياب الموسيقى لن تتبلور رؤية أكثر فاعلية.
مع هذا، يمكننا الإمساك ببعض الملامح التي ما زالت تتبلور كمفهوم لبوب يمني. وأقصد مفهوم البوب بكونه عملية دمج واتساع على أكثر من أسلوب موسيقي، هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى، استيعاب عناصر يمنية وفق مضامين حديثة.
في هذا السياق، أعاد الفنان اليمني الشاب هاني الشيباني تقديم أغنيتين يمنيتين، هما: “أيوة على عينك” لأبوبكر سالم، و”يماه”، لكن برؤية جديدة تتوافق مع اتجاهه. أصدر التسجيل المصور على قناته على اليوتيوب، وأوضح في تعليق قصير بأن الأسلوب الجديد الذي حاول تقديمه يؤكد أن الفن اليمني بمقدوره مخاطبة كل أذواق العالم. وهو تأكيد على أن تلك الاتجاهات الجديدة هدفها مخاطبة العالم والعصر.
يعيد الشيباني لحن المحضار “أيوة على عينك” بمزيج من الموسيقى الافرو امريكية، استخدام ايقاع راب. وبالتالي يعيد نسج الموازير الأصلية للحن، بتيمبو بطيء، لتلائم عناصر موسيقية أفرو أمريكية، مع إيجاد مساحة للسمات اليمنية الأصلية، ونجح فيما أراد إيصاله من خطاب موسيقي جديد، بدمج أشكال موسيقية متعددة. بينما في قسم “يماه” نقل طريقة البوب اليهودي للتراث اليمني، الذي يقدمه اليهود من جذور يمنية، والأكيد أنه أقل ابتكارًا.
يعلن هذا الجيل بشكل صريح أنه يحاول التواصل مع شكل الأغنية الحديثة، وربما كانت منصات الإنترنت عونًا لهم، بحيث يمكنهم نشر محتوياتهم عليها للجمهور. على خلاف ما عاناه جيل ظهر أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، ولم يعثر على حاضن يستوعب أفكاره وطموحاته ويحفزه في نشر محتوياته
في أغنية أخرى للشيباني، هي “الحب أربع مواسم” من ألحانه، يوظف الفلامنكو الأسباني، بأسلوب غجر الأندلس. ولعل هذا الاتجاه لم يعد موضة، لكنه بالنسبة للغناء اليمني جديد.
على صعيد آخر، تأخذنا أغنية “حبش حياة”، لإبراهيم فضل، إلى منحى رومانتيكي قلما تفاعلت معه الأغنية اليمنية. يوظف فضل لحنه على مقام النهاوند، بطابع رومانتيكي رقيق، يعلنه مدخل قصير للحن يؤديه تصفير مُنغم، بشكل مُرسل، يتبعه عزف جيتار كلاسيكي، فيما تكون هناك مساحة لدمج أشكال موسيقية مختلفة، باستخدام إيقاع صنعاني رباعي هو السارع، عبر صوت مدبلج، بتمبو بطيء، ولكسر الرتابة يدخل على صوت في الجملة الموسيقية جيتار كهربائي بحدة الروك، وغناء رقيق مسترسل يهيمن عليه القرار. فالجليّ أن هناك رغبة في تطبيق مفاهيم البوب على أوسع نطاق، وإن قُيدت بالإمكانيات، وهناك رغبة بالاتساع على أكثر من شكل موسيقي.
عند الحديث عن الغناء اليمني هناك مسألة مهمة، وهو تعدد الألوان، واللهجات، رغم وجود لهجة بيضاء، لكنها لم تتعمم بعد. وهذا -وإن لم يكن عائقًا- يحيطنا بخصوصية التعدد الذي يمكنه أن يسهم في اشتقاق أشكال جديدة يستند إليها مضمونًا لبوب يمني متنوع. فالأغنية السابقة تعود كلماتها للشاعر الغنائي أحمد شرف المطري، وهو نفسه مؤلف أغنية سالم فدعق “كمل طريقك”. وعلى طريقة البوب يوظف فدعق بلحنه وغنائه جنسًا موسيقيًّا أمريكيًّا هو الكانتري، يعلنه الجيتار صراحة منذ أول لحظة، ويتواصل أسلوب الروك مع الغناء، الذي يتم تطعيمه ببعض السمات الحضرمية، مع توظيف إيقاع محلي رباعي.
لا يستمر اللحن على هذا النسق، فالغناء ينتقل إلى أسلوب حضرمي تقليدي بحت، مستخدمًا مقاييس مقامية يمنية، مع الإبقاء على بعض ملامح الكانتري في ضربات الجيتار.
وإذا كانت الأشكال السابقة تتماهى كليًّا مع أسلوب البوب، فإن عمر ياسين يقدّم نفسه في اتجاه أكثر اتصالًا بالتطريب الشرقي. ولدى ياسين ما يؤهله لأداء هذا النوع بتحكمه غير المُبالغ في العُرب أو الحُليات، وهو اتجاه واضح في أغنية “يبالغ في الجفا خلي” التطريب بسمات تستحضر أساليب الغناء في الجزيرة العربية. لكن الجمل الموسيقية على الوتريات تحيلنا إلى أغاني الستينيات المصرية. مدخل وتريات مُرسل ينتقل للَحن موقع، تطغى عليه الوتريات، يمهد له جسر إيقاعي على مازورة، فيما الغناء يحيلنا إلى أسلوب يمني موشّى بطابع خليجي.
هل هي أغنية بوب؟ على الصعيد الشرقي، حوى البوب كثيرًا من الأساليب الشرقية، لكنه أيضًا يتطلب التنويع في الأشكال الممكن تقديمها. يختلف الأمر في لحن أحمد سيف “شكيب بكيت”، فاللحن مكون من جزئين؛ كوبليه ومذهب، ومدخل جيتار يتبعه صوت كيبورد طابعه مصري على مقام الكرد، وهو المقام الذي يستهل فيه غناء الكوبليه، الذي يختتمه بجسر موسيقي قصير جدًّا مدبلج على مقام البيات، وهو مقام المذهب. كما أن الفاصل الموسيقي ينتقل إلى صوت موسيقي مدبلج على طريقة الألحان الشعبية المصرية، بالصعيد نفسه. لكن هناك ملامح يمنية لافتة يتطرق لها غناء المذهب، ومصاحبة الإيقاع الصنعاني الرباعي، مع بروز ضربات الصحن النحاسي.
يعلن هذا الجيل بشكل صريح أنه يحاول التواصل مع شكل الأغنية الحديثة، وربما كانت منصات الإنترنت عونًا لهم، بحيث يمكنهم نشر محتوياتهم عليها للجمهور. على خلاف ما عاناه جيل ظهر أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، ولم يعثر على حاضن يستوعب أفكاره وطموحاته ويحفزه في نشر محتوياته، فلم يكن هناك صناعة موسيقى أو حقوق ملكية. وظل الغناء مقتصرًا على اجتهادات فردية، وإن كان ذلك ما زال مهيمنًا على المشهد. إلا أن منصات الإنترنت تعين الشباب اليوم على نشر محتوياتهم الغنائية وإيصالها للجمهور.
ويبدو أنها محطة البداية، وإن أخذ الشباب على عاتقه إعلان توجهات جريئة، مع أنها تصطدم بواقع معقد. فالأشكال الموسيقية المُتاحة لا تضاهي الإمكانيات في مركز صناعة الموسيقى العربية القاهرة. كما أن الحضور الذي يحققه هذا الجيل، لا يساندهم لإنتاج أعمالهم هناك بصورة مستمرة، إلا في حالات محدودة. والجلي أن عمر ياسين أنتج عمله في أحد استوديوهات القاهرة، ويبدو واضحًا من حضور الوتريات وأدائها في ثوب أوركسترا شرقية. ويمكننا القول إن الفجوة ما زالت بين ما وصل إليه الغناء عربيًّا وبين حاله في اليمن.
وعلى اختلاف تصوراتنا للغناء اليمني، هذا الجيل بحاجة إلى مساندة ودعم وأحيانًا إلى توجيه. ولعل وجود صناعة موسيقية تستوعب تلك الأصوات المختلفة، قادرة على تشكيل رؤية جنبًا إلى جنب مع المواهب المُتاحة، وإعادة استكشافها، سيساعد على تنشيط غناء يمني حديث يمكنه الحضور وسط قاعدة جماهيرية أوسع. وهذا يتطلب توظيف ملامح تقليدية وكلاسيكية وعصرية، وكذلك خلق مساحة لتجريب مفاهيم موسيقية جديدة ومبتكرة. وإذا راجعنا مسيرة البوب العربية، فهي في جزء منها نقل أشكال موسيقية حديثة، أو التي أصبحت موضة في العالم، وكذلك اشتقاق ملامح حديثة للأشكال المحلية.
من المؤكد أن هناك شريحة واسعة ترفض تلك التوجهات المتصلة بالحداثة الموسيقية، باعتبارها تفسد الغناء اليمني الأصيل. لكن ينبغي تغيير المعايير، أو تقبل الأفكار الناشئة من حرية مكتومة تحاول تفجير طاقاتها بصورة أو بأخرى عبر الغناء.