تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » أبو بكر سالم بلفقيه.. أبو الأغنية الخليجية

أبو بكر سالم بلفقيه.. أبو الأغنية الخليجية

كيوبوست

يُقال إن الأمل يُولد من رحم المعاناة، وكذلك الإبداع، ولنا في الفنان الكبير أبي بكر سالم بِلفَقِيه مثالٌ يُحتذى به. وُلد أبو الأغنية الخليجية، أبو بكر سالم بِلفَقِيه، في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي في مدينة تَرِيم بِحضرَمَوت، جنوب اليمن. عاش يتيم الأب، وكانت سنوات طفولته قاسية؛ حيث كانت الحرب العالمية تدك رحاها، والجوع على أشده في حضرَمَوت التي عانت مجاعة قتلت الآلاف.

نجا أبو بكر من كل الشرور، واتجه ليمارس الفن! وهو أبعد ما يمكن تخيُّله كمستقبل لفتى في مثل ظروفه وفي مثل بلده! هاجر أبو بكر من حضرَمَوت إلى عَدن في بداية شبابه. وقد كانت عدن مدينة حضارية في جنوب اليمن تحت الاستعمار البريطاني.

في الأربعينيات، كان البث الإذاعي في عَدن يقتصر على تزويد الجنود البريطانيين بالأخبار حول الحرب العالمية الثانية. ولكن، ما لبثت أن انتهت الحرب وتحوَّلت الإذاعة من مصدر للأخبار المُفجِعة إلى مصدر لأنغام وفن أبي بكر سالم بِلفَقِيه في نهاية الخمسينيات؛ حيث بدأ مشاوره الفني من إذاعة عَدن.

امتلك بِلفَقِيه صوتًا فريدًا، كما كان يجمع بين الغناء والشِّعر والتلحين والتوزيع والحضور القوي؛ وهي صفات قلّما تجتمع في فنان واحد. لم تكن تلك مزايا يمكن من خلالها تحقيق كثير في اليمن. ورغم اكتسابه شهرةً فيها؛ فإنه قرر السفر إلى بيروت مطلع الستينيات، حيث الفن والإمكانات المتفوقة بكثير على عَدن.

لم تكن مرحلة بيروت سهلة، فقد جاء بلفقيه إليها يحمل موروثًا موسيقيًّا هائلًا، ولكنه بلون مختلف؛ لذلك كان من الصعب عليه التخاطب مع فرقته الموسيقية بلونه الفني. ومع ذلك، فقد ساعدته موهبته وطموحه على تخطي العناء الذي لم يستحق أقل من المجد.

أصدر بِلفَقِيه سلسلة من الأغاني من بيروت؛ من بينها أغنية “أربع وعشرين ساعة” التي بيعت منها أكثر من أربعة ملايين نسخة، وأصبحت أغنية ناجحة في العالم العربي في وقت قصير نسبيًّا. وقد كانت تتسم بالخفَّة والبهجة؛ مثل أغانيه الشهيرة الأخرى حينها: “تسلّى يا قليبي، ومتى أنا اشوفك، وشلنا يا بو جناحين”، وهي الأغاني التي نال بها جائزة الأسطوانة الذهبية من شركة الإنتاج اليونانية؛ وهي الجائزة التي حصل عليها أيضًا الفنان المصري الكبير عبد الحليم حافظ.

أجبرت الحرب الأهلية في لبنان أبا بكر بلفقيه على مغادرتها؛ ليستقر في السعودية، حيث حصل على الجنسية وغنَّى لها ولملوكها.

قضى أبو بكر بِلفَقِيه أكثر من نصف عمره في المملكة، وكان نحو نصف أغانيه من كلماته، وقد أصبح من خلال مسيرته الفنية الطويلة بابًا إلى الغناء اليمني بأداء وأنغام فريدة، لافتًا أنظار الملحنين الخليجيين إلى اليمن، ومؤسسًا بذلك الأغنية الخليجية.

من أكثر ما تميَّز به الفنان أبو بكر سالم بلفقيه هو المساحة الصوتية الاستثنائية، والقدرة على التنقُّل وأداء القفزات ضمنها بين أخفض قرار وأعلى جواب، وذلك إلى جانب التفاصيل الانفعالية عند الغناء؛ كهمسات الشجن والوعظ والتنهدات والصيحات المؤثرة. وقد حصل على الترتيب الثالث كأفضل صوت في العالم ضمن مسابقة نظمتها “اليونسكو” عام 1978.

تميَّز بِلفَقِيه أيضًا بتنوُّع اختياراته؛ فقد غنَّى مثلًا للوطن والحب والتراث، كما غنَّى بالفصحى وبلهجات يمنية متعددة، مع العلم أن ألوان الغناء اليمني تتباين مع اختلاف اللهجات.

ومن بين كل ما تميَّز به أبو بكر هو ارتباطه الوثيق بالشاعر والملحن الحَضرَمِي حُسين المِحضار. شكَّل كلٌّ من المِحضار وبِلفَقِيه ثنائية تاريخية نادرة، وقد تمكَّنا بموهبتَيهما من تطوير الأغنية الحضرمية وإيصالها إلى العالمية وإلهام الشعراء والفنانين وإبهاج الملايين.

كان أبو بكر بلفقيه مرجعًا ومُشجعًا لفنانين آخرين أيضًا؛ كعبد الله الرويشد وعبد المجيد عبد الله وراشد الماجد وطلال مدّاح، ولطالما رُدِّدت أغانيه من قِبَل أجيال من المطربين العرب من الخليج إلى لبنان وسوريا، وحتى المغرب.

توفي أبو بكر سالم بعد أن أصبح أحد أكثر المغنين شعبية في الخليج عن عمر 78 عامًا في المملكة العربية السعودية؛ البلد الذي ظهر لآخر مرة على مسرحه ليغنِّي له ويودِّع جمهوره بصوت شائب، لكنه جميل كما كان منذ عقود.