حوار هشام الشبيلي
لطالما أطربها الفن الغنائي اليمني بتراثه وألوانه الشجية، حتى أخذها الشغف إلى الحد الذي يجعل منه محور دراساتها العليا، للفت انتباه مجتمعها التونسي إلى لون غنائي كثيراً ما نسبوه إلى الأغاني الخليجية، قبل أن يدهشها وإياهم فرادته وتنوعه.
هي الفنانة والباحثة التونسية مهر الهمامي، المولعة بالتراث الغنائي اليمني، التي أثارت دهشة الشارع بتسجيل مرئي لها في أثناء أدائها أحد الألوان الغنائية اليمنية، بدت فيه بارعة. ولم يتوقف تألق الباحثة الثلاثينية عند هذا الحد، بل ها هي تنوي تحضير برنامج الدكتوراه في لون يمني آخر، يتطلب مهارة من مؤديه.
الشغف بالفن اليمني
تستهل مهر الهمامي حديثها إلى “اندبندنت عربية”، قائلة إنها قبل سنوات كانت تستمع إلى الأغاني اليمنية بشغف وولع، لكن كانت تعتقد أنها خليجية، مثل انطباع غالبية التونسيين، وبعد ذلك “اكتشفت أنها ذات أصول يمنية مثل أغنيات (يا منيتي) و(سر حبي) للفنان الراحل أبو بكر سالم، و(وجل من نفس الصباح)”.
وترى الفنانة التونسية أن الغناء اليمني يتميز بالثراء والتنوع “نجد الأغاني الشعبية مرتبطة بالأفراح، وبالعمل، وبالهجرة، وبالزراعة”، مستدلة بأحد الألوان وهي “الملالة”، حيث تعد من “الغناء الشعبي الذي يقترن بالنساء، وكذلك الحرف اليدوية، وأغاني الأفراح، واليافعية المنسوبة إلى مدينة يافع، وكلها أغانٍ راقصة وسريعة كما يغنى الفن الصنعاني في المقيل، وكذلك الدان الحضرمي والأغاني اللحجية التي تربعت على عرش الأغنية في الخمسينيات والستينيات بفضل القمندان أشهر روادها”.
كانت الهمامي قد أثارت إعجاب قطاع واسع من اليمنيين في غنائها الملالة الشعبية منتصف العام الحالي. تقول “غنيت (الملالة) ولقيت استحسان اليمنيين، وشاركها كثيرون، باعتبارها ذات مكانة خاصة في الحياة اليومية والأمهات اليمنيات، وهي أغنية خاصة تقترن بالعمل وزراعة الحبوب، ولأنه من عادات النساء في اليمن ترديد الأغاني، أثناء طحن الحبوب على المسحق الحجري من أجل التسلية وتمضية الوقت، وخصوصاً في الحياة الريفية”.
الغناء الصنعاني في البحوث التونسية
الشغف لم يأخذ مهر فحسب للاستمتاع بالتراث الفني اليمني الذي بات يتصدر ألوانها الغنائية المفضلة، بل امتد معها لتجعل منه سبيلها في دراساتها العليا، ولونها في إحيائها المسارح الغنائية. تقول الهمامي إنها في عرض التخرج للمرحلة الجامعية، قدمت أغاني يمنية على غرار التونسية والطربية الشرقية، مثل “موال صنعاني”، وأغنية “يكفي أشوفك وبس” للفنان أحمد فتحي.
وبعد عرض التخرج “انبهرت اللجنة المشرفة باللون اليمني وشجعتني حتى أواصل فيه، ومنها جاءت فكرة الماجستير، الموسومة بالفن الغنائي الصنعاني”. وعلى الرغم من صعوبة المراجع والدراسات الميدانية، فإن الأطروحة لقيت استحسان الأساتذة المشرفين، وفقاً للهمامي، لتواصل بعدها درب البحث حتى مرحلة الدكتوراه التي تتمحور حول “فن الموشح اليمني خلال القرن العشرين”.
وتفسر الهمامي تركيزها في مرحلة الدكتوراه حول الفن الموشح خلال القرن العشرين، واختارت هذه الفترة “حتى يكون الموضوع محدداً للبحث وواضحاً، بعد أن كانت رسالة الماجستير عن الأغنية الصنعانية، وتحدثت عن الغناء اليمني بصفة عامة”.
أرقى الأشكال التراثية
حول اختيار الباحثة الأغنية الصنعانية بالذات، تعلل ذلك بالقول إن الغناء الصنعاني لا يؤدى إلا من قبل “المحترفين والهواة الماهرين، نظراً إلى احتوائه على تقنيات فنية عريقة وعالية تتطلب حرفية إتقان خاصة على مستوى الأداء”.
وترى الهمامي أن “الصنعانية” من أرقى الأشكال التراثية الموسيقية في اليمن، قائلة “ليست أحسن الأشكال، لكن من الأنواع الغنائية الراقية، أي إن لها طابعاً مميزاً، خصوصاً لأنها تقترن بجلسة مقيل عند الظهيرة، وهذا طابع مميز بالتأكيد، واكتست كذلك بطابع العراقة التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ”.
إلى ذلك، تقول الهمامي إن الموشح في صنعاء غرضه الاستماع لا الرقص، بمعنى “يُسلي الشخص، ويطربه استماعاً”. وتوضح أن الاستماع الفني للموشح على “عكس الموسيقى الشعبية التي تؤدى غالباً لغرض شحذ الهمم، كما في أغاني العمل، أو للتعبير عن الفرح والسرور كمناسبة الزواج”، مشيرة إلى أن الموشح “اقترن بالعاصمة صنعاء، لكن لا يعني أنه صنعاني من حيث اللحن أو الكلمة، لأن مضمونه يغطي أغلب أرجاء اليمن، لكن ارتبط اسمه بالموشح الصنعاني فقط للتأريخ في صنعاء، ولأنه يؤدى في جلسات معينة، ولأن الموشح الحميني ظهر في صنعاء، وله طابع مميز جداً يعكس اللون اليمني الأصيل”.
وتضيف أن الفن الصنعاني أو الغناء اليمني الحميني “يتميز بمحتوى يشمل حالة واسعة من الحياة الاجتماعية بمختلف مشاهدها المادية والمعنوية والإنسانية، لأن مضمونه يتناول الحب، مفاتن المرأة على وجه الخصوص، هذا إلى جانب الدين، والاستمتاع بالحياة، إضافة إلى أننا نجد أيضاً مضمونه يتعلق بالقات، والبيئة، والطبيعة، ويشمل كل المضامين، ويتميز بتحرره من قواعد اللغة العربية الفصحى والتأثر باللهجة المحكية المحلية”.
إحياء الأغاني اليمنية
لم يقتصر شغف مهر الهمامي عند دراساتها الأكاديمية، بل تؤدي عروضاً تغني فيها للفن اليمني. وكانت قد قدمت أول عرض يمني “طيوب يمنية”، وكان ذلك طلباً من مدير المهرجان، فرغبت بتقديم أغانٍ يمنية، كما أنها أحيت عرضاً آخر، وغنت قليلاً من الأغاني اليمنية، لكنها تؤكد أن مشروعها في الصيف المقبل، سيكون يمنياً بحتاً.
ويبدو أن شغف الباحثة والفنانة يأتي امتداداً لما يمثله اليمن بالنسبة إليها، تقول “اليمن يعني لي الكثير غير الفن، مثل التاريخ الحضاري العريق، لأنه يعد مهد الحضارات وموطن الأصالة والثقافة والعروبة، هذا هو اليمن، وسبأ، والملكة بلقيس، وسد مأرب، وشبام، وعدن، وصنعاء، وموطن الطرب والأغاني العربية العريقة وموطن الأصالة كذلك، اليمن جغرافيا وعراقة في كل شيء”، على حد وصفها.