تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الموسيقيون الثلاثة

الموسيقيون الثلاثة

 

 

الغموض هو لعبة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو (1881 ـ 1973)، أحد أشهر الفنانين في القرن العشرين يُنسب إليه الفضل في تأسيس الحركة التكعيبية، حيث إن اسمه مرادف فعلياً للفن الحديث، وصفه النقاد بالعبقرية والخيال غير المحدود والتمرّد على الأطر التقليدية والخروج على المألوف، لدرجة أنه غيّـر بالفعل مسار تاريخ الفن عبر العديد من الابتكارات التي وصفت بالثورية والتي تشمل «الكولاج»، وبالطبع اللوحات التكعيبية التي كسرت القبضة الخانقة للمواضيع الفنية الاعتيادية السائدة حينها، ويجمع النقاد على صعوبة فهم أعمال بيكاسو التي تحتاج فعلاً إلى تجربة وخبرة فنية وذائقة جمالية وخلفية فكرية.

كل ما قيل عن بيكاسو من وصف بالعبقرية والتمرّد وكسر الأساليب التقليدية، نجده في أحد أشهر لوحاته وهي التي أطلق عليها اسم «ثلاثة موسيقيين»، وأنجزها في عام 1921، إلى جانب لوحة أخرى شبيهة بها تحمل الاسم ذاته، ولقد جاء ذلك العمل اللافت لبيكاسو في فترة بداية العشرينات من القرن الماضي، وذلك تاريخ له أهميته في تفسير اللوحة، حيث يأتي في أعقاب مرحلة زمنية شديدة القسوة وهي الحرب العالمية الأولى. فبعد الحرب أتيح للفنان وقت عاشه في طمأنينة وسلام بعيداً عن مشاهد الموت اليومي والدمار، وانعكاس ذلك على البشر من مآسٍ وانكسارات وعيش في ظل حياة مملوءة بالأوجاع والحزن، لذلك كرّس بيكاسو تلك الفترة للإبداع والابتكار من جديد، وانغمس في العمل والعزلة التي جرّبها في الأشكال ولوحات الألوان؛ لذلك فإن اللوحة تمثل منهجاً جديداً وخروجاً حتى على التكعيبية التقليدية، أو الراديكالية، لمصلحة شكل إبداعي جديد أطلق عليه التكعيبية التوليفية أو الاصطناعية، في حين يرى بعض النقاد أن العمل ينتمي إلى السريالية التي لجأ إليها بيكاسو في ذلك الوقت الذي قام فيه بالعديد من التجارب والمواضيع الجديدة، والواقع أن ذلك الفنان العظيم كان لديه طموح كبير عبر هذه اللوحة الضخمة بأن يودع فترة مهمة من حياته المهنية، عندما كان رائداً في الأسلوب المعروف بالتكعيبية نحو أفق إبداعي جديد، أو من داخل النمط التكعيبي نفسه، ففي كل مرحلة كان بيكاسو يسعى إلى توسيع الإطار والابتعاد عن نظام أو قالب فني ثابت.
حنين

كانت أوروبا في ذلك القوت لا تزال تعاني الدمار الذي خلّفته الحرب العالمية الأولى، وكان هناك نوع من التطلع إلى السلام والهدوء، كما كان الناس وقتها يتلفتون بقلوبهم إلى الحياة في سنوات ما قبل الحرب؛ لذلك يرى العديد من النقاد أن اللوحة تمثّل شكلاً من أشكال الحنين لدى بيكاسو، إلى حيث حياته السابقة التي اتصفت بالبوهيمية والشباب الجامح، وكان الفنان قد بلغ وقتها الأربعين من العمر، فكان يعاوده الشوق إلى ذلك الأسلوب من الحياة، وذلك ما فعله في لوحته المفعمة بالحنين، لذلك نجده استعان بأسلوب أكثر لطفاً من التكعيبية في صورتها التقليدية.

الموسيقيون الثلاثة

ولوحة «ثلاثة موسيقيين»، أو «الموسيقيون الثلاثة»، هي عبارة عن كولاج، ورسم بألوان زيتية على قماش ويأخذ بعض الوقت من المشاهد ليعرف محتواها، ويصور ثلاثة موسيقيين كل واحد منهم يعزف على آلة موسيقية مختلفة. والعمل عبارة عن لوحة كبيرة يبلغ عرضها أكثر من مترين، كما أنها مطليّة بأسلوب التكعيب الصناعي، وفي اللوحة يرسم بيكاسو ثلاثة موسيقيين من أشكال مجردة مسطحة ذات ألوان زاهية في غرفة ضحلة تشبه الصندوق، وعلى اليسار يوجد عازف «كلارينيت» وفي الوسط عازف «غيتار»، وفي اليمين مغنٍ يعزف على آلة «الأكورديون»، وجميعهم يظهرون بملابس مألوفة، أحدهم يرتدي حلة زرقاء وبيضاء، وآخر بزي برتقالي وأصفر. أما الراهب الذي يقف على اليمين، فيظهر برداء أسود، وأمامهم طاولة، بينما هناك كلب يبرز بطنه وساقاه وذيله خلف أرجل الموسيقي، وكل شيء في اللوحة يتكون من أشكال مسطحة. فالأرضية ذات لون بني فاتح وتمتد إلى اليسار أكثر من اليمين، ويظهر المسرح الذي يقف عليه الموسيقيون في صورة غرفة ليست متوازنة، غير أن الموسيقيين يبدون ثابتين.

مسرح ارتجالي
وجاء العمل بصورة عامة محاكياً للمسرح الارتجالي الشعبي في أوروبا، حيث يتم تصوير الجميع في اللوحة في ملابس المهرج التي تشير إلى الشخصيات التقليدية في ذلك المسرح، وهذه الشخوص مرسومة عبر طريقة، أو تقنية «التكعيبية التوليفية» التي تعتمد بصورة كبيرة على وجود أشكال بسيطة ملونة، توضع إلى جانب بعضها البعض في اصطفاف يعطيها المستوى نفسه من الحضور والأهمية، ويجعل من السهل تفكيك رموزها وإدراك كتاباتها، وربما ذلك الأمر هو ما أتاح لناقد فرنسي أن يكتب عن هذه اللوحة قائلاً: «إن هؤلاء الموسيقيين الثلاثة، يضاعفون من كمّ ونوعية اكتشافات التجربة التكعيبية، عبر بيكاسو، الذي يبدو هنا وكأنه يضع خاتمة لأسلوب ساد لديه في رسم شخصيات مجردة آتية من عوالم الكوميديا الإيطالية».

ويرى بعض النقاد أن لوحة «الموسيقيين الثلاثة» هي مثال ممتاز لأسلوب بيكاسو التكعيبي القديم والجديد، حيث يتم تحويل موضوع العمل الفني إلى سلسلة من المستويات والخطوط والأقواس؛ إذ إن التكعيبية في الأصل هي أسلوب فكري، وتعبير عن رؤية غامضة بعض الشيء، وفي اللوحة تخلق الصور المذهلة ديناميكيات فريدة، لدرجة أن بإمكان المشاهد التقاط أصوات موسيقى الجاز الرائعة المتدفقة من اللوحة، وكأن الناظر يقف أمام مشهد تمثيلي أو مسرحي. والملاحظ أن اللوحة تضم أشكالاً ومشاهد بطريقة غير متسقة على العموم، وذلك من أجل توليد غموض يخدع العين، وتتميز اللوحة، كما هو حال النسق التكعيبي بكل أنماطه، باستخدام دائرة صغيرة من الألوان هي الأحمر والأصفر والأسود والأزرق والأبيض.

ويعتقد كثير من النقاد والفنانين أن الشخصيات المرسومة في اللوحة حقيقية، حيث إن الراهب الذي يلعب على «الأكورديون» هو ماكس جاكوب؛ ذلك الشاعر والفنان الفرنسي الذي سيموت بشكل مأساوي في عام 1944، أما الفنان الذي يلعب على «الكمان» فهو بابلو بيكاسو نفسه.
ضجة

أحدثت اللوحة الموجودة الآن في متحف نيويورك للفن الحديث، ضجة كبيرة عقب ظهورها عندما عرضت على الجمهور، فقد أكد الكاتب والناقد الفرنسي موريس راينال أن عمل بيكاسو هو «تحفة من الذكاء»، كما عرّفها كنوع من النتائج الناجحة لجميع عمليات البحث الفنية في إطار التكعيبية.