التقنية: زيت على قماش
المقاس:200× 120 سم
تاريخ الإنتاج: 1999
العائدية: رئاسة الوزراء-اليمن
حمود الضبياني*
في هذا العمل الغني استطاع الفنان حكيم أن يوهم العمق بدلالة المسح الضوئي، مجسداً النزعة بماهية الموضوع والمضمون واستعارة كينونة الأشياء باختزال العلاقات والعلامات بمضمونها وجوهرها، فأنشى موضوعه حسب فكرة الجوهر وعمق المضمون ناسجاً خيالة في عمق التعبير والتشخيص للإنسان والمكان والذي يأتي بسر أبعاد العمل في قالب مليء بتنوع أجواء عناصر العمل الفني ليصبح شريد الذهن بعقلانية الخيال الواسع، حيث جعل من خياله المختزل روضةً لأعماله بصفة عامة وهذا العمل بصفة خاصة تصول وتجول حسب أوهامه وأحلامه.
تحمل حقيقة اللوحة سر ومكنونة الفنان بمرجعيات مختلفة شكلت السند العام لموضوعه من ضمنها مرجعيات المرأة بأزيائها وآفاق تطلعاتها وأيضاً السكون العام ليس في الوجوه ولكن باستكمالية كبيرة جداً بين الزى والحالة المجتمعية، منها المرأة بوجهٍ خاص التي أوجدها في هذا المناخ بأعمارها المختلفة، وبين ضوء حقيقة الشمس وبمرجعيات أحلام الجبال والأودية والمدرجات الريفية بطقسها وبيئتها، فتعلوا في أفاقها تلك القرى القابعة في أعالي وتلال وشعاب الريف المعمور بالإنسان والمتمثل هنا بالمرأة اليمنية، والخضرة في مدرجاتها المنحنيات، وأتساع المكان فتتناثر المنازل والقلاع والجبال والمدرجات، وكشلالات من الضوء المتدفق فيحضن النساء اللاتي شاركن في تنسيق العمل أو المشهد الفردوسي حيث التداخل والتمازج بين المرأة والأرض بتجدد من البذل والعطاء بحب للمكان، مقسم العمل إلى قسمين، فجعل في وسط العمل شبكة متدلية من الأعلى إلى الأسفل وفيها النساء القاعدات والواقفات وأطفالهن في أحضانهن وفي تمثيل أمامي حيث النظرة المتعددة للوجه.
أما القسم الثاني فيتمثل بالمدرجات الزراعية يغطيها في أمام اللوحة بضبابية في الثلث الأول من العمل، وينتهي ذلك الضباب اللوني المزرق بالمدرجات الزراعية ببعد لوني وفضائي محكم إلى أن تنتهي تلك المدرجات بشقين في يمين وشمال العمل ط مع سماء خلف المنظر لتلك القرى .
في وسط العمل جسد شبكة متدلية حيث برع الفنان في إيجاد المركز المحوري للعمل والمتمثل بالمرأة الواقفة وأبنها الطفل في حضنها وأبنتها الأخرى بجانبها تنظر بنفس نظرة أمها، أما أعلى اللوحة فقد وزع ثلاث نساء لسد الفراغ ولحصر الموضوع منتهي بطفل في أعلى اللوحة ليوازي به الكتلة التي تقع في أمام اللوحة للمرأة والرجل.
بناء التكوين في هذا العمل جاء مبنياً على الخطوط اللينة والمتعرجة والسلسة في تلك الشبكة، وكذلك الكتل من أجل تحقيق الوحدة والفراغ والانسجام والتوازن اللوني والخطي. فقد أحكم التناسب لونياً وخطياً وأجاد صياغة الفضاء المتسع بالحيوية من خلال الدلالة للأرض والإنسان ومن خلال الحركة والسكون، وتلك الحركة تجعل من السكون بريقاً يلمع في انسجام مليء بفيض التنوع التشخيصي والتعبيري في الجو العام بما فيه من السرد والذي يجعل من ذلك عامل أساسي وهي سرد الرمز، والدلالة هنا متنوعة برمز الإشارة التي تندرج عبر علاقات التضاد والتوافق.
هنا الفنان لازم التعبير ومثله مع الواقع سواء واقع المكان أو تعبير الموقف وما يمثله من حضور مادي وروحي للعمل مختفية بسر المكان المعتق بالتاريخ والمرصع بأحاسيس وروح الفنان العاشق لروح الحقائق الروحية والنفسية والذهنية. منجزاً هذا العمل بالألوان الزيتية وبمسحة وضربات للفرشاة متمكن في قولبة الجو العام ليسيطر على زمان ومكان العمل الفني.
فالألوان هنا يحققها الفنان وفق رؤية وفلسفة ذهنية خالصة تاركاً القواعد الأكاديمية أو قواعد التيارات الفنية ليمزج بذلك عملآ فنيآ كعادته وفق أسالبية المختزلة من تشبيه وتعبير ورمز ساعيآ بذلك إلى التوافق والانسجام من حيث المضمون والجوهر، فالألوان هنا تنطوي على نحو خاص وفق معطيات الدلالة وتوليفاتها من حيث المساحات والخطوط والعلائق الحيوية بإيقاع شمولي يحقق تجاور المشهد من واقع الإنسان وبيئته ومسكنه الجغرافي. كما اتسم اللون هنا طابع ذهني وفلسفة خاصة من حيث التوظيف والتوليف، ففي أمام اللوحة نجد اللون الأحمر للمرأة وخلفية الرجل ولون وجهيهما لإبراز مكان القوة من سكون واستقرار لوني.
أما المرأة القاعدة والتي لونت باللون النيلي والوجه واليدين باللون البرتقالي واللون الأسود على الرأس ليدل على عمق تفكير وموضع المرأة محاطة بجانبها لون الضباب بالأبيض والمتدرج بالأزرق السماوي الباهت والبرتقالي المشبع باللون الأبيض ليعطي متسع وفضاء لوني قاعدي عكس هرمية اللون، أما اللون المحوري فقد صاغه بمهارة شديدة وجعله في منتصف اللوحة من أجل حركة العين وشد الانتباه لاستقرار النظر في الموضوع الأصلي دون حركة النظر إلى المدرجات والقرى برغم كثرة وتنوع خطوط المدرجات ولونها جاعلاً من لون النساء الثلاث في أعلى العمل باللون البارد الأزرق بدرجاته بحيث يعطي انسجام وتوافق مع المدرجات واستقرار للمشاهد بأن يستقر تمركز النظر على المرأة ذات اللون الأحمر.
كما عمل على التدرج اللوني في المنظر الطبيعي من المدرجات والقرى والذي يتمثل باللون الأزرق الفاتح والمتوسط والأخضر والأوكر المصفر لخلق جو تناغمي لمعطيات الأرض، وكذا وألوان الأوكر والبني والبرتقالي في القرى الدال على مقاومة المكان للعوامل المناخية وكذا لدلالة البعد والملي بذرات الغبار محققاً جو متحد يعكس حقيقية واقعية بشكل خيالي وبنظام لوني متكون من تفاصيل متناهية في البعد والدقة، وفي الحركة والسكون والتباين في الأجزاء وسكونها ومساحاتها وفق بصرية تحمل شحنة لونية وعاطفية، وهنا فقد جسد الفنان الموضوع بقدسية احتواء على التأمل والحزن والترقب وهو ما يشير إلى الصمت المحدق بحركة الفراغ والمنظور وفق تشبع لسر المجتمع أرضاً وإنساناً في بعد عاطفي وجداني متمثلاً في علاقته بالمشهد والحياة ومصير الإنسان وفق ظروف ذاتية وروحية المكان والإنسان.
ولعل الجانب الدلالي والنفسي من خلال اختيار الفنان في هذا العمل لأشكال البشر والطبيعة والواقع أشبه ما تكون جداريه، منتظمة تطوف أطرافها الفضاء وفي وسط العمل يسوده والازدحام للإشكال والخطوط .وتستقر تارةً أخرى على الأرض بضبابيتها وفضائها فنلمس وجود العامل النفسي المبني على أسس وإرهاصات ذاتية للفنان، تدور مجملها ضمن أبعاد دلالية مبنية على معاني الشعور بالكبت والقهر و الاستسلام والخضوع. فنجد الفنان في وسط اللوحة، يطلق أشكاله المستسلمة لديهم بشكل أنسيابي الى خارج حدود اللوحة، وكأنها أنقاض بشرية مجردة أطلق لها العنان لتعيش في ترقب وتأمل وسكون، وفي جانبي اللوحة نجد الطبيعة الهادئة بمدرجاتها وحشائشها الخضراء، وملاذها الآمن أنه الحلم الذي لطالما هم في ترقبهم المنتظر.
الهوامش:
(1)من كتاب حكيم العاقل- الأعمال الفنية من(2012-1982م.) عمان، الإردن، 2012 م
(2) حمود الضبياني: التفرد الأسلوبي وجمالية اللون ( الفنان التشكيلي حكيم العاقل أنموذجآ)، رسالة ماجستير، قسم الفنون البصرية، كلية الآداب والفنون، جامعة عبد الحميظ بن باديس، مستغانم، 2016-2017م، ص100.
(3)نفس المرجع، ص. 125 _ 128
*فنان تشكيلي يمني