يمتلك الفنان العظيم فينسينت فان جوخ «1853 1890»، حساً مرهفاً، ينعكس على أعماله، بحيث يستطيع المشاهد من خلال توظيف الألوان والخطوط والضوء أن يكتشف الحالة الفنية التي قادته إلى رسم العمل، فكل أعمال فان جوخ هي انعكاس لدواخله، وتعبير عن موقفه المتأمل في الطبيعة، لذلك تحتشد لوحاته بالرؤى والأفكار خاصة تلك التي رسمها أثناء عيشه في الجزء الجنوبي من فرنسا في بلدة «آرل»، إذا إن جميع أعماله في تلك الفترة هي نتاج تأمله المتعمق في الطبيعة، فقد كان الفنان يراقب عن كثب الفلاحين أثناء نشاطهم في عمليتي الزراعة والحصاد، وفي حركتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وكان يقضي وقتاً طويلاً متأملاً تلك العوالم وكان تأثيرها فيه كبيراً، وهو الأمر الذي أدى إلى إنتاجه الكثير من اللوحات، حيث كانت المرحلة التي قضاها في ذلك الجزء من فرنسا قد شهدت أفضل رسوماته وأعماله الفنية.
رسم فان جوخ لوحة «مزرعة العنب في آرل»، أو «كروم العنب الحمراء»، أو «الأعناب الحمراء»، عام 1888، أثناء فترة تواجده في الريف الفرنسي وهي نتاج تلك العلاقة الغريبة المتأمل والصامتة مع الطبيعة، حيث تصور اللوحة العمال والفلاحين أثناء عملهم في مزرعة عنب على هامش مدينة «آرل»، التي تخصص أهلها في زراعة الكروم، خاصة أن الطبيعة المشرقة وخصوبة الأراضي قد ساعدتاهم في ذلك الأمر، والحقيقة أن اللوحة لا تطل فقط على لحظة الفلاحين أثناء عملهم، بل على تاريخ ممتد من زراعة العنب في تلك المنطقة، حيث كان الفنان يتمشى في ظهر أحد أيام أكتوبر بالقرب من «دير مونتمازور»، وهناك شاهد السكان المحليين يمارسون عملية حصاد العنب الأحمر القاني، وقد أثار شغب ألوان الخريف الجنوبي ورمزية الحصاد إعجاب جوخ لدرجة أنه في غضون شهر كان قد أكمل عمل اللوحة التي صارت من أشهر رسوماته، وقد كتب إلى شقيقه ثيو يصف فيها جمال تلك المزارع الحمراء: «آه، لماذا لم تكن معنا يوم الأحد! رأينا كرماً أحمر، أحمر تماماً، والأرض قد اكتست برونق خاص بعد الأمطار، وهناك الانعكاسات الصفراء لغروب الشمس».
وصف
رسمت اللوحة بألوان زيتية، وتم تنفيذها على قطعة من القماش المعد بصورة خاصة، ويعبر الفنان عن عدة مفاهيم داخل العمل، فالحصاد هو رمز للطبيعة الدورية للحياة، وللوجود، كما أن الشمس ترمز لازدهار تلك الحياة وإشراقها المستمر، وقام جوخ بتقسيم تركيبة الصورة إلى خطتين يكمل كل منهما الآخر، ففي المقدمة يشاهد الناظر الفلاحين والعمال وهم يقومون بعملية جمع وحصد العنب، وفي الخلف يمكن للمرء أن يرى شخصية رجل على عربة وأشجار، وقد استخدم الفنان عدة ألوان يحمل كل لون منها دلالة خاصة، كما يستطيع المشاهد أن يلاحظ تلك الحوارية بين الضوء والألوان المختلفة من أحمر وأصفر وأخضر وأزرق وغير ذلك، ونرى في اللوحة أشعة خطوط الشمس، واللون الأخضر المناسب للأفق وخليط من اللون الأرجواني الذي يعبر عن لحظة غروب الشمس، ويقوم الفنان عبر توظيف الألوان بصورة ساحرة إلى إنشاء طيف مذهل وخلاب يتناغم مع الضوء، ويستخدم في هذا العمل وبصورة أساسية تناغم الألوان مما يترك ظلالاً باردة للرسم. فترة رسم اللوحة شهدت وصول الفنان الشهير جوجان، إلى آرل عام 1888 للعيش مع جوخ، حيث كان يحلم جوخ بجمع كل الفنانين العالميين في مكان واحد، وقد أعجب جوجان نفسه بمشاهد مزارع العنب في وقت الخريف في آرل، وقام برسم لوحة عن ذات الموضوع.
تفرد
تتفرد تلك اللوحة بعدة مزايا، ولكن سبب شهرتها الأساسية، إلى جانب جمالها وقيمتها الإبداعية، أن تلك اللوحة هي الوحيدة التي بيعت في حياة الرسام، والطريف أنها برزت بقوة في سيرته الذاتية فدائماً ما يشار إلى جوخ بأنه الفنان الذي باع لوحة واحدة في حياته، ولذلك الأمر قصة فقد قامت بشراء اللوحة آنا بوخ من معرض في بروكسل بمبلغ 400 فرنك، وهي فتاة بلجيكية وفنانة تنتمي إلى التيار الانطباعي، ذات المجال الذي برع وتفرد فيه فان جوخ حتى اعتبر أميز رواده، وكانت تلك الفتاة كذلك من أسرة فنية معروفة فهي شقيقة الفنان المعروف أوجين بوخ، كما كان والدها خبيراً في فن الفخار، وكان الدافع الأساسي الذي جعل تلك الشابة المبدعة تشتري اللوحة أنها كانت داعمة للفنانين والمبدعين الفقراء فتقوم باقتناء لوحاتهم من أجل إعانتهم واستمرارهم في العمل الفني، لذلك لم يكن المبلغ الذي دفع في اللوحة كبيراً، وعلى الرغم من أن فان جوخ كان سعيداً بشراء تلك اللوحة إلا أنه في ذات الوقت، كما قال لشقيقه ثيو في رسالة: كان يشعر بنوع من الإحراج، ومرة أخرى تم شراء اللوحة لاحقاً، في عام 1909، من معرض باريس الفني بواسطة الروسي إيفان موروزوف، وفي وقت لاحق، تم وضعها في مجموعة رائعة لسيرجي شتشوكين، في منزل تروبيتسكوي في موسكو، وبعد الثورة الروسية، قام البلاشفة بتأميم اللوحة ونقلها في النهاية إلى متحف بوشكين الحكومي للفنون الجميلة، عام 1948، ولم تغادر اللوحة جدران المتحف، وهي الآن قيد الدراسة.
ترميم
ولأن اللوحة ارتبطت بكونها العمل الفني الوحيد الذي بيع لفان جوخ أثناء حياته، وكان وقتها فقيراً، فإن الحديث عن اللوحة تجدد مرة أخرى العام الماضي، بعد الإعلان عن أن متحف بوشكين الروسي للفنون الجميلة بالتعاون مع أحد الشركات المتخصصة في مجال الفنون، يعمل على دراسة وترميم اللوحة الشهيرة، وكان من نتائج تلك العملية أن عدداً من الباحثين قد حققوا الكثير من الاكتشافات المتعلقة بهذا العمل الفني، ووجدوا أن فان جوخ، لم يترك لوحته تجف بعد أن أنجزها، حيث قام بلفها ووضعها في أنبوب وأرسلها لأخيه ثيو في باريس، ليجهزها للبيع، حيث ألحق شقيقه بعض الأضرار باللوحة أثناء تجهيزها.
المصدر/صحيفة الخليج