خالد جهاد
العطر يدل على صاحبه وإن تعثرت إليه الطرق، ومهما رأى أحدنا من جمال هذا الكون سيفاجأ بأنه لا زال يحاول أن يعرف أبجدياته، ذلك الجمال الذي يسمو فوق التسميات، وتضيق به الأوصاف، وتتململ الحروف أمامه، وتغار اللغات منه لأنه لا يحكى ولا يتجلى إلا لمن يشعر به لا لمن يراه، وكذلك الأرض تغدق على عشاقها من كنوزها وخباياها فتعطيهم مفاتيحها وأسرارها وبعضاً من فتنتها لتترجم فنوناً لا حدود لسطوعها، فتشرق الشمس ألواناً وتمطر السماء ألحاناً لتنبت لوحاتٍ من الأرض الطيبة التي احتضنت الحكمة والحضارة فعانقت التاريخ ورأينا ملامحها في أعمال ابنها الفنان التشكيلي اليمني وسام العنسي.
تبدو أعماله الفنية بمثابة تذكرة سفر إلى عوالم التراث اليمني الثري والعريق على أكثر من صعيد، حيث نرى طقوس الحياة اليومية في اليمن بين الريف والجبل مع الحفاظ على الهوية وخصائص البيئة المحلية التي تميزها عن البلاد الأخرى وتجعلها تشكل حالةً قائمة بحد ذاتها، فنلحظ أن البيوت التقليدية متواجدة بكثرة وإن كانت كخلفيةٍ لمشهدٍ واقعي أو لحظةٍ مستوحاة من الفولكلور تعزز الحضور اليمني في كل مشهدٍ يحمل توقيعه، ويخلق حالةً من الألفة والتلاحم بين الإنسان البسيط وبين الطبيعة المحيطة به والأرض التي ينتمي إليها في علاقةٍ عصية على الشرح والتي تعكس مدى شفافيتها وصفائها وتخلق لها معنىً وجدانياً تم توارثه عبر الأجيال، فنراه جزءًا من تكوين الرقص الشعبي والشعر والموسيقى على اختلاف أنواعهم ومدارسهم التي تمتاز بخصوصيةٍ شديدة تشبه روح هذا البلد، كونها تحمل مسحةً صوفية وصوراً تأملية تشكلت عبر آلاف السنين واستطاعت أن تغلف مختلف أنواع الفن اليمني واستمدت وجودها من الحضارات المتتالية والأساطير القديمة والحكايات الشعبية حتى اليوم والتي جسدها الفنان وسام العنسي في العديد من لوحاته كجزءٍ من اعتزازه بثقافته الأم.
كما أن علاقة الفنان بالمواطن البسيط الكادح تتجلى في رسمه له على تنوع حالاته في أجواءٍ تحفها السكينة والسلام سواءاً كان مزارعاً أو راعياً للأغنام أو صياداً للأسماك بحيث يتماهى معه كما يتماهى اليمني مع الأرض والطبيعة، وهي النقطة التي يؤكد عليها وسام العنسي ويسعى لعرضها برقيٍ وجمال حتى من خلال رسمه للمرأة التي تحظى بحضورٍ هام وبارز ومتنوع عبر أعماله، حيث تتناغم مع جذورها وارثها فتتزين بالأزياء التراثية والمصوغات والحلي التي تحمل أهميةً وجمالية في الثقافة اليمنية التي تمثل الأنثى أحد أوجهها المميزة، كما نراها في لوحاته مقترنةً بالتفاصيل الفنية التي تكرسها كبطلةٍ أو واحدةٍ من الملكات اللواتي حكمن اليمن على مدار التاريخ، عدا عن صورتها كأم والتي اتخذت أكثر من أسلوبٍ ومعنى وطريقة في تجسيدها.
ونلحظ من خلال عددٍ لا بأس به من أعمال الفنان وسام العنسي محاولته للإبداع والتجديد في موضوعات لوحاته بعيداً عن البيئة اليمنية في الكثير من الأعمال المميزة التي ترسم مختلف مكونات الطبيعة بشكلٍ مجرد وموهبةٍ قادرة على التنوع، والتي أهلته لنيل العديد من الجوائز والتكريمات والمشاركة في الكثير من المعارض الفنية العربية والدولية، والتي جعلت من أعماله واجهةً مشرفة للثقافة والفنون اليمنية وصورةً مشرقة ومعبرة عن ارثه وتاريخه العريق وخير سفيرٍ له في مختلف بلاد العالم.
*كاتب فلسطيني
تنبيه Pingback: مرض الفنان التشكيلي اليمني وسام ناصر العنسي .. أهم أعماله وقصة صموده | السابعة الإخبارية
التعليقات مغلقة.