مارس الفن منذ القدم دوراً مهماً في رصد ما يجري في المجتمعات من تحولات ومتغيرات، وما يسود من عادات وتقاليد، ليرفع من شأن الجيد منها، ويحاكم ما هو خلاف ذلك ويدعو لمحاربته؛ وذلك الأمر يشير إلى التصاق الفنانين بمجتمعاتهم، وعملهم المستمر من أجل رفعة هذه المجتمعات وتطورها.
الفنان الروسي فاسيلي جريجوريفيتش بيروف «1833 1882»، يعد من أبرز الرسامين الذين ابتكروا أفكاراً جديدة، فهو من المؤسسين لمدرسة «الهائمون»، تلك الحركة الفنية التي تتميز وتتصف بالواقعية والتي اهتمت بالموضوعات التي تجري في الواقع؛ حيث ثارت الواقعية ضد الموضوعات الفنية زاهية الألوان والعاطفية المبالغ فيها والدرامية التي تبنتها الحركة الرومانسية، وبدلاً من ذلك، سعت إلى تصوير شخوص ومواقف حقيقية نموذجية بصدق ودقة، وعدم تجنب جوانب الحياة غير السارة أو المخزية، وتهدف الحركة إلى التركيز على الموضوعات والأحداث غير المثالية التي لم تحظَ سابقاً بقبول في الأعمال الفنية؛ حيث إن الأعمال الواقعية تصور أشخاصاً من جميع الفئات في مواقف تحدث في الحياة العادية، وفي الأغلب تعكس التغيرات التي أحدثتها الثورات الصناعية والتجارية. كانت الواقعية مهتمة بشكل أساسي بالأشياء كما تبدو عياناً، بدلاً من اهتمامها بالإغراق في تصوير العالم المثالي.
لوحة «زواج غير متكافئ»، رسمها بيروف عام 1862، تنتمي إلى موضوعاته الواقعية والاجتماعية، فقد عُرف عنه اهتمامه بالطبقات المهمشة التي تعاني جراء التفاوت الاجتماعي؛ فهو نفسه كان ينتمي لعائلة تعمل بالفلاحة، وكان يعرف الكثير عن حياة الناس العاديين بصورة مباشرة، لذلك كان قلقًا بشأن مشاكل المجتمع، وهذه اللوحة هي ذروة النشاط الاجتماعي للفنان، فقد نتجت من خلال تأمله في الواقع والتقاليد البالية، وكان جل اهتمامه منصباً على تأمل ما يجري، وانعكاس ذلك على مشاهد الحياة اليومية، ولعل الفريد في هذه اللوحة هو وجود الفنان نفسه داخل مشهد الزواج؛ ذلك الواقف خلف العروس؛ فبعض النقاد اعتبروا العمل سيرة ذاتية، وأن صورة الشاب هي صورة الفنان ذاته، وهو يتأمل في تلك اللحظة العجيبة المحتشدة بالتناقضات.
وصف
في هذه اللوحة يصور الفنان مشهداً لحفل مراسم زواج، في كنيسة تبدو مظلمة، بين رجل مسن وفتاة تبدو غير سعيدة على الإطلاق، ويظهر الرسام نفسه خلف العروس في أقصى اليمين، مكتوف اليدين وشارد الذّهن، أمامه تقف العروس حزينة يائسة، ويُعتقد أنّ بوريف قد رسمَ نفسَه وسط الحضور، ما يدل على أنّ القصة تصور قصة حُبٍّ مؤلم في حياته الشخصية؛ أي قد تكون العروس هي حبيبته هو، إلا أن شخصاً ثرياً وكبيراً في السن قد خطفها منه، وهو الرجل الذي يقف على يمين العروس، ويتطلع إليها بوجهٍ بارد وبلا مبالاة، بينما يجتمع عدد صغير من الحضور كبار السن.
اللوحة محتشدة بالمشاعر المتناقضة، والمواقف الغريبة، فالعروس تمد يدها بلا حول ولا قوة للكاهن الذي سيعلنها زوجة لرجل غني لكنه عجوز، فيما تبدو القسوة واضحة في ملامح العريس المسن الذي يحمل شمعة، ويبدو بمظهر مزعج فوجهه مليء يالتجاعيد، ولا يبدو مهتما بدموع العروس التي تشيح بوجهها عنه، والواضح أن الفنان برع في جعل العروس تظهر عجزها وضعفها، فهي في اللوحة وكأنها طفلة بدأت للتو في التحول إلى فتاة، مظهرها مملوء بسحر الشباب، وتظهر مطلية بخطوط ناعمة عند مستوى الوجه والكتفين، أما فستانها الأبيض فيبدو وكأنه أكثر العناصر إشراقاً في هذا المشهد الحزين. فبينما ترمز هي للشباب والعنفوان، فإن العريس هو رمز للكهولة والذبول، وأمام ذلك الواقع يجد المشاهد نفسه أمام عقد للبيع يشارك فيه الحاضرون، وأمام جريمة صريحة بحق هذه الفتاة اليانعة.
أسئلة
تثير اللوحة في ذهن المشاهد الكثير من الأسئلة مثل: من تلك الفتاة؟ ومن ذلك الرجل الوسيم الكئيب الذي يقف خلفها ويرمق العجوز بنظرة مملوءة بالكراهية؟ ومن تلك المرأة العجوز، أو حتى غير المرئية للوهلة الأولى على يسار العريس، لماذا هي بذلك المظهر الغريب؟ أيضاً ماذا عن كون معظم الحضور من كبار السن؟ كما أن اللوحة تنتزع تعاطف المشاهد الذي يجد نفسه أمام لحظة كئيبة تماماً.
مهارة
تتجلى مهارة الرسم في التصوير الدقيق لبراءة الفتاة، بإظهار عينيها المتورمتين من كثرة البكاء، فهي لا تنظر إلى الكاهن الذي يستعد لإلباسها خاتم الزواج، وتبدو كما لو أنها تفقد قوتها ببطء، حتى الشمعة في يدها اليسرى يخيل للناظر أنها على وشك السقوط، كما أن الفنان برع في إظهار الدهشة على الوجوه، كذلك العبوس الواضح في وجه المرأة المسنة التي تظهر بصورة شبحية، وقد أجادَ بوريف رسم تفاصيل فُستان الزفاف، ومدّ الظلّ والنور، وأحسن تفاصيل سجادة الصلاة على كتف الكاهن، ووظف الألوان الداكنة بقصدية لإظهار الحالة المأساوية؛ من زواج غير متكافىء، وهو الأمر الذي توج بلوحة ناضجة ومكتملة، ذات رسالة واضحة ومباشرة.