عجت أوروبا في عصور النهضة والأنوار وما تلاها بعشرات الفنانين التشكيليين، وعشرات المدارس الفنية التشكيلية، ما بين انطباعية وسريالية ودادية وتكعيبية، وغيرها.
بعض هؤلاء الفنانين حالفهم الحظ ذيوعًا وانتشارًا واشتهارًا في حياتهم، وبعد مماتهم أيضًا، والبعض الآخر عانى من قسوة الحياة، وشظف الظروف، ليفرض سطوته الفنية بعد ذلك في سوق الفن التشكيلي كعبقرية استثنائية، والمثال الصارخ على ذلك هو العبقري التشكيلي الهولندي “فان كوخ”.
صوّر “شندل” حياة الباعة الجائلين والطبقتين الفقيرة والمتوسطة بواقعية ورومانسية؛ تجعلها أشبه بالواقعية السحرية في عالم الكتابة الأدبية
على أنه في منطقة رمادية تموضع بعض الفنانين التشكيليين؛ فلم يعانوا من إهمال في حياتهم، ولا انعدام تام لشهرتهم، ولكن كذلك أيضًا لم ترَ الدوائر الفنية الأوروبية فيهم عبقرية فنية فذة تستحق الإشادة، لذا لم يبرحوا منطقة “العادي” للأسف في حياتهم، ليُعاد بعد ذلك اكتشاف عبقريتهم، بعد ما يزيد عن قرن على رحليهم.
من هؤلاء الفنان التشكيلي “بتروس فان شندل”، الذي يحيط باسمه شحّ معلوماتي في عالمنا العربي.. تعرّفه الموسوعات العربية: بـ”فنان هولندي بلجيكي، مهتم بزوايا الضوء الليلية في الأسواق الأوروبية، وتصوير الحياة العادية، ولد عام 1806 ورحل عام 1870”.
لكن ما أغفلته هذه المصادر أن “شندل” نفسه صدق أقوال النقاد عنه، بأنه مجرد رسام بورتريهات ملونة، تحاكي لوحاته الصور الفوتوغرافية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، والتي كانت حتى ذاك الوقت بالأبيض والأسود.
لذا؛ انصرف لمتابعة عمله كمهندس ميكانيكي، وجعل من الفن هواية ثانوية غير متفرغ لها كليًا، كعادة الفنانين في هذا التوقيت، وذلك تحت وطأة النقد التشكيلي القاسي، الذي لم يبذل عناءً في نفيه، كما لم يبذل عناءً في إثبات ذاته فنيًا أمام نقاد عصره.
أما فرادته الفنية، فقد اكتُشفت بعد ذلك، من ساحرية ضربات فرشاته، واستخدام الضوء في لوحاته بما يجعلها سيمفونية ليلية رومانسية نابضة، تصور الحياة العادية في أسواق أوروبا الليلية، التي لم تكن قد أضيئت بالكهرباء بعد.
في تلك الفترة من تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، كانت ذروة الثورية والتمرد على المدارس التشكيلية التي تبنت الشكل التقليدي للوحة، والتي رأت أن مقياس الفن الحقيقي ليس في تجسيد حرفي للواقع، بقدر ما هو محاكاة لهذا الواقع تجريديًا وسرياليًا
في ليل البسطاء حين يصبح الضوء هو بطل الحكاية
لوحة “كشك الدواجن” (الحياة بين عالمين متناقضين)
في هذه اللوحة لعب “فان شندل” بالضوء لصنع تباين بين عالمين مختلفين؛ البائعة التي يوحي مظهرها بالفقر، والتي يبدو أنها لم تبع شيئًا طوال الليل، من خلال الضوء الممتقع على وجهها، وفي المقابل إحدى المشترِيات التي عكس الضوء نضارة بشرتها، ليوحي بأنها على درجة من اليسر، ومع ذلك تفاصل البائعة المسكينة في صفقة، يتبين من خلال لغة الجسد بينهما أنها لن تتم.
الخلفية الداكنة توحي بالليل الأوروبي الشتائي الداكن المبتهج، بفعل ظلال قمرية تُطل من بين السحب، وتشيع جوًا من السرور، على العكس مما هو متوقع من التوتر المشاع في فضاء اللوحة، وكأنه تبشير بآتٍ أفضل.
لوحة “سوق اليهود” (الثبات إزاء القلق)
وهي على النقيض من اللوحة الأولى.. يجري “شندل” زوايا الضوء في اللوحة، التي استخدم ظلال الشموع فيها لتعكس حدة ملامح البائع، وثقته في نفسه، كما أن وضعية جسده الممتد خلال اللوحة بأريحية توحي بأنه على يقين من إتمام صفقته بالسعر الذي يريده، فيما بدت الفتاة الواقفة بملامح باهتة، والتي ترتدي ملابس الخادمات، أنها على وشك الاقتناع بالشراء، رغم يقينها بعدم جودة السلعة.
لوحة “الطريق إلى الكنيسة” (العذراء وابنها/ طريق الآلام)
في لوحته “الطريق إلى الكنيسة” تبدو الظلال قاتمة، ففي أحد أرجاء اللوحة سيدة تخاطب رجلًا جالسًا على الدرج، وكأنها تسأله عن الطريق إلى شيء مجهول، فيما يتضح من خلال التكوين الفني في النظرة المتأملة لوجه المرأة ووقفتها، والطفل الممسك بيدها، وكأنها السيدة العذراء وابنها (الصورة الأيقونية الأوروبية للمسيح وأمه).
تسأل السيدة الرجل الجالس على الدرج عن شيء، وكأنها متوجسة من مصير مأساوي متوقع، في استلهام للمقدس، لكن بتوظيف دنيوي، متحرر من أيقونات الرسم الكنسي، التي مارسها معظم فناني أوروبا في عصورها المختلفة.
لماذا لم يشتهر فان شندل في عصره؟
في تلك الفترة من تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، كانت ذروة الثورية والتمرد على المدارس التشكيلية التي تبنت الشكل التقليدي للوحة، والتي رأت أن مقياس الفن الحقيقي ليس في تجسيد حرفي للواقع، بقدر ما هو محاكاة لهذا الواقع تجريديًا وسرياليًا.
وعلى هذا الأساس سارت معظم المدارس الأوروبية في القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، والتي نظرت لـ”شندل” وغيره كمجرد رسامين لصور فوتوغرافية بالألوان الطبيعية ليس أكثر، متناسين أن الفن لا إطار عامًا يحكمه، ولا قواعد صارمة له سوى ما يشاع في فضاء اللوحة نفسها، أو العمل الفني عمومًا.
لذا استعادت الدوائر الأوروبية “بتروس شندل” ورسوماته كساحر تشكيلي، يتلاعب بكتلة الضوء لإظهار تباين أدق المشاعر الإنسانية، وتمازجها مع الطبيعة الليلية في لوحاته، ليصنع رؤية تشبه الرؤى السينمائية لاحقًا في استخدام الإضاءة.
وإذا كان شندل لم يحظَ بالتقدير اللائق في حياته، فإن عبقريته قد استعادها بعد عشرات السنوات من رحيله، ما يؤكد أن البقاء للمواهب الحقيقية، وإن تقادم الزمن.
