جمال حسن
لعل كرامة مرسال هو المغني الأقل حظًا بين أقرانه اليمنيين، فهناك نوع من الإجماع حول صوته وفنه إلا أنه لم يحظَ بذلك القدر من الانتشار. لكن كرامة مرسال كرس نفسه لفنه بصرف النظر عن العائد، وحين داهمه الموت تجرع مرارة النكران، رغم أعماله التي غنّت لليمن ولمدينته المكلا.
في ذكرى رحيله السادس المتزامن مع الثالث من أغسطس الجاري، يحملنا إليه ذلك الموروث الذي تركه من الأغاني الجميلة، وصورة حسرته قبل وداعه الدنيا بثلاثة أيام؛ كان حزنًا لم يُخفْه هياج عينيه وهو يشكو نكران أوصل حاله إلى “البهذلة” كما وصفها.
يمتاز صوت كرامة مرسال بشجى أخّاذ، تلك البحة التي احتوت غنائية الساحل؛ المسحة الحميمية لمدينة المكلا بمبانيها البيضاء المنعكسة بزرقة البحر. على الأرجح كان كرامة مرسال آخر الكبار الذي مثّل هذا النمط الغنائي، مواصلًا ما شقه سلفه محمد جمعة خان. فما قدمه مرسال كان مشتقًا من منبع الدان والإيقاعات الشعبية التي استوطنت حضرموت منذ فترة طويلة. وكان مشبعًا بروح الغناء الحضرمي، ولذلك حين قدم بعض أغاني خان المقتبسة من ألحان هندية جعلها مشبعة بروح محلية أكثر، على الرغم من أنه حافظ على التلوين اللحني الهندي المنقول.
احتوى عندليب المكلا تلك العناصر اللحنية التي تم جلبها بروح ابن المكلا، وأعاد هضمها بما يتمتع به من قدرة على التكييف الذي يبدو روتينًا للوهلة الأولى، بيد أن ما فرضه غناء مرسال هو نوع من الألفة فتصبح الاستعارة أكثر قدرة على الاندماج. وهي ربما الشكل الذي يصبح فيه العنصر الخارجي يستوطن ويتجاور مع الشكل المحلي، ثم يصبح جزءًا منه. غير أن كرامة مرسال يمتلك تلك الشخصية المشبعة بالألفة فتذوب البحة بالطابع الغنائي لوجه المكلا، إذ إنها مدينة غنائية تنعكس بضربات الموج على النتوءات الجبلية قليلة الارتفاع.
وكرامة مرسال هو المغني الذي عبّر عن ولعه بمدينته، ليس فقط في أغنيته شديدة العذوبة “بعد المكلا شاق”، بل في كل ما غنّاه. وربما هذا الارتباط جعله يتشبث بالبقاء فيها دون أن تغريه إغراءات المهجر، خصوصا وأن المهجر ظل ثيمة النجاح لكثير من أبناء حضرموت. وعلى رغم ما حظي به من تقدير في الخليج، وتحديدًا بين الأوساط الفنية، بدت بالنسبة له مشقة البعد عن المكلا أكثر من مشقة العيش فيها.
ففي أغنيته “الهند فيها الهنا” -وهي من كلمات وألحان المحضار- يبدأ بمطلع “حسك تغرك نيودلهي وتلهي.. عزك بلادك بها تأمر وتنهي”، ويتغنى بجمال الهند وسعة صدرها للمهاجرين ويستدرك “لكن بلادي أجمل يشتاق قلبي لها من يوم يرحل”.
التقى كرامة مرسال مع صديقه المحضار الشاعر والملحن الكبير في عدم قدرتهما على احتمال ترك وطنهما. وكما يُقال “ومن الحب ما قتل”، دفع مرسال ثمن تعلقه بوطنه، فالمهجر كان سيوفر له حياة أفضل.
وعلى خلاف أبو بكر سالم صاحب الحنجرة العظيمة في الغناء اليمني، والذي ساهم المهجر في تطوير شكله الغنائي من حيث الموسيقى واللحن، انحصر كرامة مرسال في الإمكانيات الموسيقية المحدودة المُتاحة في اليمن. فلم تكن هناك فرقة موسيقية متطورة ومتنوعة الآلات، وكثيرًا ما قدم أغانيه في جلسات تطريب حضرمية معتمدا على العود وعازف أورج وعازف كمان، مع وجود الإيقاعات. في الغناء الحضرمي تلعب الإيقاعات دورًا مهمًا، ويُلاحظ وجود العديد منها، إضافة إلى استخدام تصفيقات اليد القوية، بشكلها الحضرمي.
لكن كرامة مرسال تخلى عن كل تلك الإغراءات، سواء المادية وحتى من حيث تطوير الشكل الموسيقي. وفي حفلاته التي قدمها في الخليج يمكن ملاحظة الفرق مقارنة بما هو في اليمن، من حيث المصاحبة الموسيقية، وكان يمكنه تطعيم ألحانه ببعض الأشكال الموسيقية المصرية والشامية كما حدث مع أبو بكر سالم وفناني الخليج. بينما كان كرامة مرسال يدرك أن مضمونه اللحني مرتبط بأرضه، فالتخت الصغير في الجلسات الطربية الحضرمية يحمل خصائص تسفكها الفرق الموسيقية الكبيرة، وإن تم استحضارها في كثير من ألحان أبو بكر ذات الأسلوب الحضرمي البحت مثل “ليالي سيئون” عبر التصفيقات، والمقدمة الترحيبية بطابع عرب البوادي في وادي حضرموت.
على صعيد آخر يمكن ملاحظة الفرق الذي مثله كرامة مرسال في إصراره على البقاء في المكلا حيث ساهم في الحفاظ على الغناء الحضرمي محليًا. وعبر مراحل سياسية مختلفة عاشها، في وقت السلطنة القعيطية في العهد الاستعماري، ثم عهد الاستقلال ضمن الشطر الجنوبي، ثم سنوات الوحدة، حمل مشعل الحفاظ على الغناء الحضرمي، وتحديدًا غناء الساحل، كما حافظ على بقائه في ألفة مدينته ووطنه. فأبو بكر على سبيل المثل أو عبد الرب إدريس قدما الغناء الحضرمي وأشكال أخرى من الغناء؛ فألحانهما تم تطعيمها بعناصر عربية مختلفة وخليجية، وهذا ساهم في انتشارهما في خارطة عربية أوسع. بينما كرامة مرسال كان ابن المكلا وعندليبها الذي إن طلبته غنّى لها في الحال.
ولعل محافظته على الطابع الغنائي الخاص بمدينته، طابع الغناء الحضرمي وتحديدًا غناء الساحل، جعله أقل حضورًا على الساحة المحلية مقارنة بآخرين لا يتمتعون بجمال صوته أو عطائه. وربما لأنه أصر على البقاء في مدينة أصبحت ثانوية بعد أن كانت مركز سلطنة خلال حياة سلفه محمد جمعة خان، كما أنه لم يحظَ بتسليط الضوء عليه بالقدر الذي يستحقه. ومع ذلك لم تكن ألحانه كما تبدو ذات طابع واحد، حيث نلمح حين يغني “يا طائرة شلي فؤادي إلى ربوع القاهرة” مزيجًا لحنيًا مصريًا خصوصا في مقاطع الأغصان.. هناك الكثير مما يُقال ويكتب عن كرامة مرسال أو عندليب المكلا، فهو من رثى صديقه المحضار “صبني يا دموع الحزن”، وحين رحل وحيدًا لم يجد من يرثيه. وهو من غنى لبلده “رغم الظروف القاسية رغم المحن، حبي لها سقتني إياه أمي في وسط اللبن” (وهي من كلمات المحضار)، ورحل دون أن يجد تكريمًا يليق به في ظروف مرضه. لكن صوته وألحانه تركت أثرًا بعيدًا في تكوين عاطفتنا، فمن الوهلة الأولى لسماعه تعرف أن ذلك الصوت لا يُنسى. وداعًا لكرامة مرسال مجددًا بعد ست سنوات، وأيضًا وداعًا بعد مئة عام.
المصدر/منصة خيوط