تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » بين موزارت وبيتهوفن: من الارتهان للحلم إلى فهم العالم

بين موزارت وبيتهوفن: من الارتهان للحلم إلى فهم العالم

بين موزارت وبيتهوفن: من الارتهان للحلم إلى فهم العالم

 

نضال جمهور*

لعل أهم ما تتسم به الموسيقى هو عدم ارتهانها بنسق تأويلي محدد، وهذا ما يضمن تموضعها في أفق غير محدود الدلالة، وهو ما يجعلها أكثر تحرراً من اللغة التي تقع غالباً في حالة من التحيّز؛ ففي حين تتورط اللغة بتحيّزات وعظية متعالية، مثل تقرير الأفكار أو الأيديولوجيا أو الارتهان بالنظر إلى الحياة وتشكيلاتها من زاوية واحدة، تنفتح الموسيقى على نسق أكثر رحابة لتبدو أكثر صلة بالحياة وبتمثيلاتها، كما أن الصلة الأكثر متانة بين الموسيقى والحياة تتشكل من الغموض الذي يكتنف المفهومين (الحياة والموسيقى)؛ فكما تتمظهر الحياة أو العالم كوسط مغطى بالشعارات والرموز والكلمات الغامضة حسب ميشيل فوكو، تأتي الموسيقى كوسيط لا يقل غموضاً عن العالم، لكن من أجل تفسيره، بمعنى آخر تأتي الموسيقى كوسيط ذي صلة حقيقية مع تعقيدات الحياة، هذه الصلة التي تتيح لها أن تكون أشد شبهاً بالحياة، وأكثر مقدرةً من ثَمّ على فهمها وتفسيرها؛ وهي ما تنقلها من مجرد إشارة سيميائية إلى منظومة تأويلية متكاملة.

يَتحدث هايدغر عن الحياة بوصفها عالماً يمتلئ بالظواهر غير المُنجزة، ومن هذه الزاوية نستطيع أن نتبين أهمية علم التأويل (هيرمينوتيكا) بوصفه حسب فوكو «مجموعة العلوم والتقنيات التي تسمح للإشارات بأن تتكلم» وفي السياق ذاته نستطيع أن نبلور ما مفاده أن فهم العالم مرتبط بدقة تموضع وتسلسل الإشارات والرموز التي تُشكله، وبمدى دقة التوصيف الذي يَحمله الخطاب عندما يُعاين هذه الرموز، وهذا ما تفعله الموسيقى تماماً؛ ففي حين ترتبك اللغة في استحضار خطاب مُحدد وواضح لتوصيف هذه الرموز، حيث إنها ستعلق بشكل لانهائي في توليد خطابات متراكمة وهو ما يسميه فوكو «خطاب الخطاب» ستبدو الموسيقى أكثر فاعلية وجدوى في وصف هذه الرموز وموضعتها في سياقاتها الأكثر دقة، عدا عن مقدرتها على خلق رموز جديدة أكثر حساسية من الرموز والإشارات المتداولة أو المألوفة، ولبيان ذلك قد ترتبك اللغة بتوصيف ومعاينة الرموز التي تختبئ بين كلمتي (الحب والرغبة) أو (الحزن والفقد) – حيث يختبئ بينهما الكثير من المترادفات ذات الدلالات الغائمة والمنحازة لإحدى الكلمتين ـ في حين تستطيع الموسيقى بغموضها البلاغي الآسر أن تشرح وتعاين هذه الفجوات التي تقع بين الكلمتين، كما أنها تستطيع الذهاب لما هو أبعد لتكون قادرة على تخليق أنماط جديدة من الرموز والتصنيفات، لتضمن تموضعها كلبِنة مفقودة في الجدار الكلي للمعنى، ومما لا شك فيه أن فهم هذه الفجوات وطمرها سيتيح خلق رؤية أكثر اكتمالاً وعمقاً لقراءة الحياة وفهمها بتشكيلاتها المتعددة.

موزارت.. حالم عظيم ومكتشف سيئ

يمثل موزارت حالة من العبقرية في ذاكرة الموسيقى الكلاسيكية، بيد أن هذا التوصيف ينبع من زاوية ترتبط ببعد جماهيري، أو شكلاني في أغلب الأحيان، حيث ينهض وصفه بالعبقرية على مقدرته التأليف في سن مُبكرة، وعلى حياته القصيرة التي ترك خلالها أكثر من 626 مؤلفا موسيقيا، وأيضاً على مقدرته الاستثنائية في خلق جُمل وثيمات لحنية ذات مسار هارموني بالغ الانسجام والتوافق. لا شك في أن موزارت يشكل تمثيلاً واضحاً للفترة الكلاسيكية، لكن هذا التمثيل بدا شديد التوافق لدرجة تثير الكثير من الأسئلة حول مقدرته على الاكتشاف والمُغايرة، بمعنى أن رؤيته الموسيقية كانت مرتهنة في أغلبها بتمثيلات ورؤى العصر الذي يحياه. يشرح ثيودور أدورنو في سياق مقارب عما يعنيه ارتهان النظرة والأسلوبية الموسيقية بروح العصر بما يُسميه «الظواهر المُعطاة سَلفاً» حيث يتم قبول التجربة قبل تلقيها، ونلمح هذا في الكثير من أعمال موزارت؛ حيث يشكل البناء الموسيقي وحالة التراكيب النغمية المألوفة التي يسهل التنبؤ بها نوعاً من المساحة الآمنة على مستوى الوعي والتلقي، حيث يُستبدل القلق بوصفه خروجاً عن التنميط بما هو مُعّد ومقبول سلفاً.

تناول أدورنو مسألة التموضع في الزمان والارتهان بمحددات العصر بتحليلاته لموسيقى شتراوس، وكيف شكّلت موسيقاه علامة فارقة في مقاومة هذا الارتهان بوصفها تحمل رؤية مقاومة لكل حالات الانضباطية والجمود، وكيف أنه «تمرّد بذلك على نطاق العقل الألماني الذي كان يمنح نفسه حينها ما يُشبه المَنعة الأخلاقية والهوية الجوهرية، مُقيماً بذلك معنىً غائياً لوجوده الذي لا يقوى على العيش تحت حطام الواقع». وفي الإطار ذاته يُشير إدوارد سعيد لتجربة بيتهوفن في مرحلتها الأخيرة، بوصفها خروجاً عن النمط، وكيف أن مؤلفاته الأخيرة التي كانت تمتلئ بالفجوات والفراغات، وبرهات الصمت غير المبررة موسيقياً -والتي يصفها أدورنو أيضاً «بالمادة غير المسيطر عليها» ونستطيع أن نتبين هذا في أغلب مؤلفات بيتهوفن الأخيرة مثل (Sonata 32 – C minor)- كانت بمثابة نظرة تجاوزية خارج الزمان، وكيف أن موسيقاه القلقة في مرحلته الأخيرة التي توحي إلى حد بعيد بأنها غير مكتملة، إنما هي تمثيل لرغبته في إحداث معنى طِباقي، وتمثيل لتطلعاته النزقة بأن ينتزع نفسه من الزمن ومُحدداته، لهذا بدا «غامضاً بلا ندم» وبدت أعماله شديدة الارتباك على مستوى الانسجام.

في هذا الإطار تبدو مؤلفات موزارت أعمالاً توافقية تنأى بنفسها عن هذا القلق – رغم محاولاته المحدودة في كسر حالة النمط السائد، كما حصل في مقطوعة الرباعي الوتري المتنافر Dissonance quartet – فهي لم تكن محمّلة بالتناقض الذي يتيح لها خلق رؤية جديدة ومُفارقة، بمنأى عن تجربة بيتهوفن في مرحلته الأخيرة – التي استطاعت أن تُسهم لاحقاً باكتشافات أرنولد شونبيرغ الفريدة في البناء الموسيقي المتنافر، حيث يصف أدورنو موسيقى شونبيرغ بأنها الحل لكل القيود التي كَبّلت بيتهوفن ـ نستطيع الإشارة إلى تجربة باخ بوصفه متأخراً زمنياً عن موزارت، وكيف أن موسيقى باخ كانت أكثر قلقاً بتشكيلاتها الداخلية وأكثر تجاوزية. لقد استطاع باخ أن يُشكل حالة لا تضاهى من الوعي والرغبة بالاكتشاف، حيث إن موسيقاه كلها تنفلت من إطارها الزمني؛ فهي لم تكتفِ بتجاوز مفاهيم عصر الباروك بالغة التنميط والتكرارية حسب، بل تنزع إلى اجتراح معانٍ وعلامات جديدة تضمن لها التموضع الدئم والحي في فعل التأويل والرغبة بالاكتشاف.

ربما تكون موسيقى موزارت بالغة الانسجام والتوافق مع الحياة، لكن هذا التوافق الذي يكاد أن يكون تاماً يقوّض من قيمتها كفعل قادر على استحضار معان جديدة، أو تخليق أنماط جديدة من الرموز، ومن هنا تبرز قيمة المحاولات الدائمة لاجتراح طرق جديدة في التعبير والفهم، لأن هذه المحاولات ستفضي حتماً لخلق تصورات مغايرة مهما بدت شديدة الارتباك، كما أنها ستحدث انزياحاً في فعل معاينة العالم وتأويله. يستطيع المستمع المتمرس عند الاستماع لموسيقى موزارت أن يلحظ بسهولة عجز موزارت عن انتزاع نفسه من موسيقاه؛ فلو أسقطنا كل ما يمكن الاستغناء عنه من ترسيمات ونغمات مصاحبة للجملة المركزية، سنلمح هيمنة واضحة لجملة أو ثيمة واحدة تتكرر بشكل يوحي بالعجز والملل، وفي السياق نفسه يعرض العازف والمنظر الموسيقي الكبير غلين غولد حالة التمرد والتجاوز، التي تهيمن على موسيقى بيتهوفن، ويشرح بشكل تطبيقي ـ من خلال السوناتا رقم 17 ـ كيف يُصر على الخروج من الجملة اللحنية بمجرد أن تستقر، وكيف يخلق تنويعات مفاجئة في الثيمة النغمية وكأنه يتقصد إحباط المحاولات الأولى لفهمها، ويذهب غولد في تحليله لأهمية بيتهوفن بأنه استطاع بتنويعاته المفاجئة والمرتبكة أن يخلق حالة من المعاينة والرصد لفعل التشكل والنزاع الداخلي، الذي يتملك لحظة الإبداع، حيث يتيح لنا بيتهوفن رصد كل التناقضات بين التقليدي والمتمرد في داخله. ويتيح لنا غلين غولد بهذا الشرح أيضاً فهم الطريقة التي تتشكل فيها موسيقى موزارت، وفهم عدم رغبته أو فشله في انتزاع نفسه مما هو مقبول ومعطى سلفاً.

كاتب أردني*

المصدر/صحيفة القدس العربي