في منطقة بريك لين بشرق لندن تنتشر روح إبداعية شقية تعبر عن نفسها برسومات الغرافيتي على أي حائط وباب ونافذة، تختلط الكلمات والشعارات بالرسوم الخيالية أو الواقعية حتى. هنا الإبداع ينبض بالحياة، ولا حدود له، وهو ما يجعل المنطقة جاذبة للشباب والكبار، الشوارع مزدحمة، ومحال شطائر البيغل التي تشتهر بها المنطقة تجذب المارة، وتمنح زوار المعارض الفنية المتناثرة مكاناً لالتهام الشطائر والحديث.
في وسط هذا الزخم يقام حالياً معرض جماعي في «بريك لين غاليري» يضم مجموعة من الفنانين غير المعروفين، تنقصهم الشهرة، ولكنهم يعوضونها بالموهبة والإبداع. المعرض يقدم أعمال ثمانية فنانين تتنوع أعمالهم ما بين رسم المناظر الطبيعية وبين التصوير واللوحات. بعض الأعمال تبدو بمستوى الهواة، ولكن البعض الآخر ينضح بمواهب فنية قوية وأساليب مميزة. بالنسبة إلى الغاليري فالعرض يستكشف الطرق المختلفة التي يعبر بها الفنانون عن رؤى تختلط فيها الطبيعة المجردة والمناظر الطبيعية والخيالات التي تشبه الأحلام، كل ذلك عبر أساليب فنية متنوعة تجرب الانفلات من الواقع نحو عوالم أخرى.
نمر بأعمال الفنانة شيلي هورديوك التي اختارت أن تعرض لوحاتها القماشية من دون وضعها في إطارات لتطارد فكرة التحرر من القيود، تحمل لوحاتها عنوان «منجذب للضوء»، وتصور عالم من الأشجار والأغصان، تختار أن تصور أشجارها بمنظور الشخص الواقف أسفل شبكة الأغصان والأوراق، وتختار خلفية لونية موحدة لكل لوحة، فهنا لوحة بخلفية خضراء تبدو فيها الأشجار شبه مجردة من الأوراق ثم لوحة بأرضية صفراء مختلطة ببقع لونية بتدرجات اللون البني تعكس إحساساً أكثر دفئاً. تقول عن لوحاتها: «أشعر بحب تجاه الشجرة المستحيل وجودها أو السماء الملونة بألوان غير واقعية. أحب أيضاً أن أبالغ في الألوان والخطوط لآخذ الأشكال من واقعها، وأحولها بالتدريج إلى لوحة تجريدية».
على جدار منفصل تتابع لوحات الفنان البريطاني برين هاورث مميزة بريشة هادئة وواثقة وألوان تجذب زوار العرض للوقوف أمامها والحديث مع الفنان أو حتى مع بعضهم حول الموضوعات التي تطرحها. يقول أحد الواقفين مشيراً للوحات: «أرى نزعة ساخرة في اللوحات، تبدو جادة وتقليدية، ولكن الفنان لديه حس فكاهة يميزها، ويثير النقاش حول ما يصوره».
في مقدمته لأعماله يتحدث هاورث عن لوحتين بعنوان «ليزا النادمة» و«شيء متعفن»؛ الأولى تأخذ من ليوناردو دافنشي السيدة المبتسمة موناليزا لينزع ابتسامتها، ويحولها لسيدة ممتعضة بشفتين ملويتين، وخلفها بدلاً من المنظر الطبيعي لمنطقة توسكاني، يختار أن يصور واقعاً تعيشه بريطانيا بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي «بريكسيت». فخلف الموناليزا نرى نفق قطار يورو ستار، وقد أغلق مدخلها، ونرى مرتفعات مدينة دوفر مكتوب عليها «غودباي» (الوداع) وهو إشارة إلى غلاف من صحيفة «ذا صن» الداعمة للبريكست. اللوحة تجمع ما بين الجدية والسخرية المرة. يشير إلى أن اللوحة قدمت في معرض بباريس يعبر عن موقف الفنانين البريطانيين من «بريكسيت». يضيف أنه حرص على أن تحمل الموناليزا شبهاً من رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون الذي يلومه كثيرون على إجراء الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
البعد السياسي يمتد للوحة أخرى مستوحاة من لوحة الفنان الفرنسي شاردان «راي»، وفيها تظهر سمكة من فصيلة «راي» معلقة أعلى مائدة مطبخ، غير أنها تبدو رمادية اللون، وكأن العفن قد بدأ يغزوها، استخدم الفنان ملامح رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون ليعبر عن حالة التخبط التي ميزت فترة حكمه خلال جائحة كورونا. اللوحتان بداية لمشروع فني يعمل عليه الفنان، وهي تخيل لمعرض صور بديلة لرؤساء الوزراء في بريطانيا لوضعها على جانب الدرج في 10 داونينغ ستريت.
من دافنشي وشاردان يأخذنا العمل الثالث لفنان عصر النهضة ساندرو بوتتشيلي وعمله الأيقوني «مولد فينوس» التي خرجت من عمق البحر تزهو بجمال أخاذ واقفة على صدفة، بينما تتطاير خصل شعرها. هنا نرى فينوس كما تخيلها هاورث تجلس على محارتها، وتعطينا ظهرها بينما تتابع مشهداً يحدث بالقرب من متحف يوفيزي حيث تقطن. تراقب فينوس هنا مشهداً من تاريخ إيطاليا لمحاكمة القس المتشدد سافونارولا. من موقعها في أعلى اللوحة تبدو فينوس كشاهد على نهاية مرحلة من التطرف الديني وقع ضحيته ساندرو بوتتشيلي نفسه لدرجة أنه أحرق عدداً من لوحاته.
أما لوحته المعنونة «ثمن الموز» فتعد تعليقاً ساخراً على السوق الفنية وأسعارها المبالغ فيها أحياناً، وعلى بيع عمل الموزة المعلقة أو «كوميدي» للفنان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان بأكثر من 6 ملايين دولار في المزاد. هنا نرى استعارة من الفنان آندي وارهول في تصويره لأربع ثمرات موز على خلفيات ملونة، ولكن هاورث يختار أن يضع أسفل كل موزة السعر الحقيقي للموز في مراكز البيع المختلفة من السوبر ماركت والسوق الأسبوعية، وفي بقال الحي وأخيراً في السوق الفنية، العمل جذب الزوار بلمحة السخرية، وأيضاً ببراعته اللونية.
في ركن مجاور يعرض المصور الروسي من أصل تركي دانيال بيوكوتسون عدداً من الصور الفوتوغرافية بعنوان «طبقات الشارع»، وهي سلسلة بالأبيض والأسود يجرب من خلالها المصور تجربة وضع طبقات مختلفة من المشاهد فوق بعضها من دون اللجوء لتقنية الديجيتال، يرتب لقطات مشاهد مختلفة من شوارع لندن فوق بعضها؛ حيث نرى منظراً لشارع يتبين في أعلاه منظر لعربات من شارع مختلف، وهكذا. في الصور يرتب المصور البنايات والمارة والعربات داخل إطار واحد، وهو ما يمنح الصور طابعاً تجريبياً، ولكنه أيضاً يمثل تسجيلاً مفعماً بالمشاعر لشوارع العاصمة. يشير إلى أنه عمد إلى خلق تتابع معين للقطات، ولكن في صور أخرى كانت ترتيب الطبقات بالمصادفة، ويقول: «هدفي ليس تسجيل حياة المدينة كما هي، ولكن استكشاف كيف يمكن أن تشعر بالحياة داخل تلك الطبقات».