عبداللطيف الزبيدي*
هل يمكن الحكم على أمّة من خلال مستوى فنونها؟ هل يكفي أن تتبرّأ الشعوب من هبوط الإنتاج الفني منذ أربعة عقود؟ مأساة ألاّ تنشأ الأجيال في فراديس الفنون الجادّة الرفيعة. تفشي الانهيار الجماليّ يشبه انتشار الآفات الاجتماعية. ذلك فيه تعرية لغياب الموازين.
منذ أربعين سنة لم تنعم البلاد العربية بأيّ ريادة ثقافية. الأوساط الثقافية لا تثير هذه القضايا حتى لا توقف نفسها بنفسها في قفص الاتهام. المريب هو أننا لا نرى مراكز البحوث تحقق في هذه القضايا وتثيرها في وسائط الإعلام. تلك المؤسسات أبعد استقصاء وأعمق ممّا يمكن أن يقال في أعمدة الصحافة ومقالاتها، في حين أن البلدان المتقدّمة توليها اهتماماً كبيراً، لكونها ذات أبعاد في صميم السياسة، بل ذات علاقة وطيدة بالشؤون الاستراتيجيّة. ربما يحتاج العالم العربي إلى عشرات السنين ليدرك هذه الأمور.
لتوضيح المقاصد يجب التذكير بمقولة تقض مضاجع العقول الواعية، قالها أفلاطون قبل أربعة وعشرين قرناً: «إذا أردت التحكّم في شعب، فابدأ بالتحكم في موسيقاه». ما الذي دفع هذا الفيلسوف إلى هذه النظرية الاستراتيجية الفتّاكة قبل أكثر من ألفي سنة؟ في ذلك التاريخ الغابر لم يكن ثمّة برجنسكي ولا كيسنجر. حتى الجنرال الصيني صن تزو، لم تخطر على باله هذه الفكرة الجهنميّة في كتاب «فن الحرب».
أغرب الأغرب أن الأشكال والأجناس الموسيقية في عصر صاحب كتاب «الجمهورية»، كانت متواضعة. يقيناً، كانت الموسيقى اليونانية متطورة قياساً على ألوان من موسيقى الشعوب، إلى جانب موسيقى مصر وبلاد الرافدين، والصين ولو أن الأخيرة كانت بعيدة. لمن يا تُرى قال المقولة إذاً؟ هل يمكن أن نتصوّر يونان الإسكندر المقدوني تخطط للسيطرة على الموسيقى الإيرانية قبل غزو إيران واحتلالها، أو موسيقى ما بين النهرين؟
هذه المخططات لم تعرفها الإمبراطوريات البريطانية والبرتغالية والفرنسية. نفّذتها وكالة المخابرات المركزية في الحرب الباردة، في الموسيقى والفنون التشكيلية. من أين أتى أفلاطون بهذه الأشواك الفكرية المزعجة، ليجعل أذهاننا تتقلب عليها متسائلة: هل يمكن أن يكون للهبوط الفني العربي من تفسير أفلاطوني؟
الفيلسوف أخرجنا أصلاً من مسرح النغم إلى كواليس السياسة، من أحلام الفن إلى كوابيس المخططات الجيواستراتيجية. الضرورة القصوى تكرار مقولته، لعل وربما وحتى وعسى أن تحاول أكثرية أهل الطرب العرب فهم ما هي الموسيقى؟ ما طبيعتها؟ ما أبعادها وآمادها وآثارها؟ هم يتوهمون أن الموسيقى «دق عود» وبِدل وفساتين وحركات رياضية راقصة.
ثمة أمور مهمة يجب أن تدركها المؤسسات المسؤولة عن مصير الثقافة، فإحساسها بالمسؤولية رسالة وأمانة. سيكون القلم في منتهى الصراحة والوضوح ومن دون مجاملات:
* الموسيقى الجادة العارفة العالمة، ليست موضة فنية تظهر وتختفي، يعلو سعرها ثم تنهار قيمتها. هي كالحجارة الكريمة والمعادن النفيسة، التي لا تقوّم بسعرها وإنما بقيمتها. روائع باخ، موتزارت وبيتهوفن ليست موضة. هي اليوم أوسع انتشاراً من أوج تألق هؤلاء العمالقة. قس على ذلك بدائع السنباطي، عبدالوهاب، زكريا أحمد، الرحباني.
* يجب الانتهاء من الخداع الذهني: المطربات والمطربون لا يشكلون بيئة موسيقية جادة عارفة عالمة. لا غرابة ولا تجنّي، فأغلبيتهم يؤدون كلمات ملحنة وليسوا موسيقيين. الأغنية في حد ذاتها لا تستطيع أن تمثل الموسيقى. لا يوجد عاقل أو حتى شبه عاقل، يمكن أن يدعو الأغنية إلى استوديو فضائية ويعلّق لها ميكروفوناً لتتحدث باسم الموسيقى. الأغنية أساساً ليست موسيقى مستقلة حتى تتكلم باسم الموسيقى ككل.
* يدرك القلم جيداً أنه يشير بوضوح إلى المأساة المؤلمة في الموسيقى العربية، وهي أننا نفتقر فقراً مدقعاً إلى جوهر الموسيقى، الموسيقى المستقلة عن الكلام. لا يكفي أن لدينا مكتبة كلثومية وفيروزية ووو… مترامية الأطراف. لكن الموسيقى لدينا لا تعبّر بنفسها عن نفسها، لا قدرة لها على البوح بمكنونات روحها ومهجتها بسحر بيانها هي. ذلك كأن تأتي بشخص وتقول للناس: إنه يحس بكذا، يختلج في نفسه كذا، تتلاطم في أعماقه أمواج كذا وكذا، والشخص لا يبين.
*الآلات الموسيقية عندنا مهمّشة، هي لدينا أدوات إنتاج، وليست ذات لغات تعبير عن نفسها. كم عدد مؤلفاتنا الموسيقية للعود، الكمان، الناي، التشيللو، القانون…؟
لزوم ما يلزم: النتيجة التحليلية: الأعجوبة هي أنه مع كل تلك المشكلات الجدية، كانت الموسيقى العربية قبل سبعين سنة في القمة، ثم حدث الانهيار. فكروا ملياً في مقولة أفلاطون، يا أولي الأنغام.
*إعلامي وأديب تونسي