لا يتعدى الخبر الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” أخيراً، كونه نبأ عن فوز آخر يحققه الذكاء الاصطناعي في مجال الفن. وتحديداً ينقل الخبر أن لوحة مرسومة بواسطة تطبيق رقمي ذكي فازت بجائزة أولى في مسابقة في الرسم أجراها “متحف كولورادو”، وهي تأخذ بعين الاعتبار الأعمال الفنية التي يستخدم فيها الكمبيوتر، إضافة بالطبع إلى تلك التي تصنعها أيدي البشر وأدمغتهم وحدها.
في المقابل، أثار ذلك الفوز ضجة كبرى، حرصت “نيويورك تايمز” على تقصي أصداءها، إذ إنها شكلت صرخة أخرى في الحقل الشائك والمتوسع باستمرار عن العلاقة بين الإنسان وحضارته من جهة، وذكاء الآلات الذي اصطنعه البشر لأنفسهم بأيديهم وعقولهم، لكنهم يظهرون كثيراً كأنهم يوجسون خيفة، بل يصرخون خوفاً وذعراً وقلقاً، مما صنعوا وحققوا وأنجزوا!
إن “ميد جورني” Midjourney تطبيق الرقمي يقرأ خيال كلمات الإنسان، ويحولها إلى صور. تشكل الكلمات السابقة الوصف المختصر الذي قدمه الأميركي جاسون آلن، وهو هاو للرسم والفن الرقمي، للتطبيق الذي صنعه واستخدمه في صنع لوحة “مسرح أوبرا الفضاء” Théâtre D”opéra Spatial، ثم طبعها على القماش بواسطة طابعة رقمية. وبصورة صريحة، قدمت تلك اللوحة مذيلة بتوقيع آلن، مع توضيح أنه صنعها باستخدام تطبيق “ميد جورني”. وقد أشارت “نيويورك تايمز” إلى أن مسابقة “متحف كولورادو” للرسم، درجت منذ سنوات على قبول مشاركة الأعمال التي يصنعها ذكاء الآلات. وقد أفردت مسابقته قسماً لـ”الفن الرقمي/ التصوير المعزز بالتقنية الرقمية”. وأوضحت أن “ميد جورني” لم يكن التطبيق الوحيد الذي استعمل في صنع أعمال شاركت في تلك المسابقة هذه السنة التي شهدت “مشاركة” تطبيقات مماثلة كـ”دال أي 2″ DALL-E 2 و”ستايبل دفيوجن” Stable Diffusion. ويعمل ذلك النوع من التطبيقات عبر الاستفادة من المخزونات الرقمية الهائلة من الصور والرسوم، ويستحضر منها ما يتلاءم مع ما يطلب منها استخراجه، ثم يتولى مستخدم التطبيق توليف تلك الصور كي يصنع لوحة فنية.
قراءة أخيلة الكلمات أم انتحال واسع؟
واستطراداً، يتميز تطبيق “ميد جورني” بأنه يتولى أمر التوليف بصورة مؤتمتة بشكل كامل تقريباً. وقد صنعه آلن، وهو خبير في برمجة ألعاب الفيديو ويعمل على تطويرها في أستوديو إلكتروني سماه “إنكانت غايمز” Incarnate Games، مع تركيز خاص على الصور الرقمية المجسمة بطريقة “هولوغرام”. ونقلت “نيويورك تايمز” عن آلن، أنه قد “فوجئ” بقدرة التطبيق الذي صنعه وطوره بنفسه، على استحضار صور رائجة بالاستجابة إلى كلمات تصف فكرة معينة. ووفق كلمات آلن، “أحسست أن هنالك شيئاً ما شيطاني في الأمر”، لكن الأمر فعلياً حدث بفضل تحسينات متواصلة على برمجة تطبيق “ميد جورني”، استناداً إلى برمجيات مستخدمة في الألعاب الإلكترونية وتقنيات صنع الغرافيكس ومجسمات الـ”هولوغرام”، وفق توضيح آلن.
في المقابل، نقلت “نيويورك تايمز” الصرخات الانتقادية والاحتجاجية التي تصاعدت ضد فوز إعطاء شخص صنع لوحة بواسطة تطبيق رقمي يعمل على تجميع صور صنعها آخرون، جائزة فنية في الرسم. ولم يتردد البعض في وصف ذلك بالانتحال الموسع، بل استعاد البعض صرخة الشاعر الفرنسي شارل بودلير، صاحب الديوان الشهير “أزهار الشر”، حينما وصف اختراع التصوير في القرن التاسع عشر، بأنه “العدو القاتل للفن”. وفي نفس مماثل، وصفت تغريدة لأحد المحتجين على فوز آلن بجائزة رسم بأنها “مشهد لنهاية الفن تحدث أمام أعيننا”.
الأرجح أنها إشكالية مفارقة باتت جديرة بالتقصي بشكل دائم، بل ربما يومي، خصوصاً أن الحياة اليومية للبشر لم يعد ممكناً فصل نسيجها عن الحضور المتعدد لذكاء الآلات الذكية، ويشمل ذلك الأبعاد الافتراضية والرقمية والتواصلية والاتصالية وغيرها. واستطراداً، الأرجح أن ذلك الحقل الشائك كرس نفسه، أو أنه ظهر بشكل لم يعد قابلاً للتغاضي عنه منذ أن فاز الكمبيوتر “ديب بلو” على أسطورة الشطرنج غاري كاسباروف، وهو أحد أعظم أساطين تلك اللعبة الفكرية تاريخياً، في عام 1997.
بعد ذلك، تعددت أشكال القلق البشري من التطور الذي يصنعه الإنسان بنفسه، مع بروز تفوق الذكاء الاصطناعي في ألعاب متنوعة كـ”غو” الصينية، وتقدمه في مجالات الطب والهندسة والتصميم المعماري.
وبوضوح، تبدو بعض أشكال ذلك القلق مبررة تماماً، على غرار الاحتجاج المتوسع عالمياً على الروبوتات القاتلة التي يتوسع استخدامها في الجيوش الحديثة.
واستكمالاً، الأرجح أن النقاش عن العلاقة الفائقة التعقيد بين البشر والذكاء الاصطناعي، يستلزم مساحات واسعة تفوق كلمات مقال عنها.