محمد الحمامصي*
كان القرن العشرون قرنا مؤسسا على مستوى الحداثة الفنية، فظهرت العديد من مدارس الفن، وإن كان كل منها يحاول النأي بنفسه عن غيره، فإنها تتمازج في النهاية، وخاصة بين الفنون المختلفة، وهو ما شاهدناه وتأكد في تجارب الرسامين مع الفن السينمائي الذي كانت حياة الرسامين وأعمالهم مواد دسمة لمخرجيه ومنتجيه، الذين مازالوا إلى اليوم ينجزون أفلامهم استنادا إلى عالم الفن التشكيلي وفنانيه ورموزه.
تتداخل العلاقة بين الفنين التشكيلي والسينمائي بشكل لافت في العديد من الرؤى، وكان اكتشاف السينما لأفلام الفن التشكيلي حدثاً فنياً فريدا، حيث نجد مع انطلاق السينما وانتشارها في العشرينات من القرن العشرين، أن العديد من التشكيليين السورياليين كانوا يرون في السينما وسطاً مثالياً لسبر عوالم أخرى واستكشافها. فكان مان راي وهانز ريختر وفرانسس بيكابيا ضمن الفنانين الذين قاموا بمحاولات تجريبية مع الفيلم لغايات سوريالية. بيكابيا كتب سيناريو فيلم “استراحة” من إخراج رينيه كلير. وسلفادور دالي شارك بونويل في كتابة “كلب أندلسي” وإخراجه.
وهذا الكتاب “صورة الفنان التشكيلي في السينما” للناقد السينمائي السوري محمد عبيدو، الصادر عن دار نينوى بدمشق، ضمن سلسلة الفنون البصرية، يلقي الضوء على تلك العلاقة بين الفنين والتأثير المتبادل بينهما.
الرسم والسينما
يرى عبيدو أن الانتقال من الوسط التشكيلي إلى الوسط السينمائي يجعل هؤلاء الفنانين، وعلى نحو محتوم، يوجهون اهتماماً وعناية أكبر بتكوين الصورة. فعندما يأتي الرسام إلى الفيلم فإنه بالضرورة يأتي حاملا معه نظرة التشكيلي إلى التكوين واللون. ولا بد أن وظائف الرسام والمخرج السينمائي يغذي بعضها بعضا. والشاشة كحامل أو فضاء مشترك بين السينمائي والتشكيلي ترمي الجميع نحو آفاق تشكيلية لامتناهية تطرح حزمة من الأسئلة النظرية والجمالية.
وقد قدمت السينما، طوال تاريخها، العديد من الأفلام عن الفنانين التشكيليين، وكانت بداية علاقة جديدة بين السينما والفن التشكيلي، وبعض هذه الأفلام يحتفي بالفنان بوصفه عبقرياً معذباً، رائياً، والذي يتخطى الظروف الاجتماعية المباشرة.
وتابع عبيدو أنه في سنة 1936 صور المخرج ألكسندر كوردا الجمال الأخاذ والثراء الآثر للوحات رامبرانت ـ قام بالدور تشارلز لوتون ـ وهو على حافة الشيخوخة، بينما تأسره ساسيكا، فينتقل تأثيرها إلى اللوحات، وفي سنة 1940 أخرج كيرت إيرتل في سويسرا فيلما عن مايكل أنجلو، وفي فرنسا بعث جان ليكو الحركة في تماثيل رودان، وأنجز المخرج دوغلاس هيكوكس الفيلم الأميركي “ابنة ميسترال” في العام 1944 عن حياة الرسام كيتش وهو مقتبس عن رواية لجوديث كرانتس، واستطاع فرانسوا كامبو في سنة 1945 أن يسجل في فيلمه “ماتيس” أصابع الفنان وهي تمسك بالفرشاة وتضع الألوان على لوحة قماش كان يشتغل فيها.
ولفت عبيدو إلى أن هذا النوع الجديد من الأفلام لم يكتسب أهميته إلا سنة 1948 عندما فكر مخرجان إيطاليان، هما لوسيانو إيمر وأنركو غاس في تصوير أعمال جيوتو وكاريشيو وجيروم بوسن، وكانت أفلامهما بحق بداية علاقة جديدة بين السينما والفن التشكيلي.
وما لبث أن اتجه عدد من السينمائيين إلى أعمال مصوري وفناني الماضي والحاضر. وبدأت صالات السينما بعرض أفلام الفن التشكيلي، فأخرج آلان رينيه ثلاثة أفلام عن فان جوخ وبول جوجان وغورنيكا لوحة بيكاسو الشهيرة، وتبوأ رينيه بهذه الأفلام مكانة رفيعة باعتباره أستاذا في هذا النوع من الأفلام.
وأنجز جان أوريل فيلم “الأعياد المجيدة”، و”قصة مانيه” وأخرج لودوكا فيلما عن الفنان هنري روسو، وقدم بيير غاسار فيلم “الحياة الدرامية لموريس أرتيللو” وبيير كاست فيلم “نساء اللوفر”. وتتابعت الأفلام عن الفنانين التشكليين وأعمالهم، فظهرت أفلام عن رامبرانت وكورييه وديلاكروا وسيزان ومودلياني وفلامينك وليجيه وجورج براك وغوستاف دوريه وأندريه ماسون ومارك شاغال، وغيرهم من كبار الفنانين التشكليين، ثم توجت هذه الأفلام بفيلم هنري ـ جورج كلوز “لغز بيكاسو” وفيه تتبع عمل الفنان الكبير خلال جميع مراحل الإبداع.
رصد عبيدو الأعمال السينمائية التي صورت أعمال كبار الفنانين التشكيليين وتوقف مع عدد من الأفلام التي تناولت حياتهم منها الفيلم الوثائقي “فيلاسكيز: رسام الرسامين” و”فريدا كاهلو” الرسامة المكسيكية الشهيرة، وفيلم “الفتاة ذات القرط اللؤلؤي” عن علاقة الفنان الهولندي يوهانس فرمير بخادمة ألهمته إبداعا لتصبح موديله في لوحة بنفس اسم الفيلم، والفيلم البولوني “نيكيفور الخاص بي” الذي يستند إلى قصة الفنان الرسام نيكيفور كرينسكي، وفيلم تاركوفسكي عن رسام الأيقونات الروسي أندريه روبليف (1966)، حيث سعى تاركوفسكي إلى عرض المرحلة التاريخية والاجتماعية التي عاش فيها الفنان، ليشكل الفيلم رؤية أندريه روبليف الذي ولد في أواخر القرن الخامس عشر وكان راهبا، ولكنه اصطدم مع الكنيسة ومع الدولة في زمن كانت روسيا القيصرية تعاني من الاضطرابات الداخلية والغزوات التترية.
وتوقف عبيدو مع فيلم المخرج بيتر واتكينز عن الرسام النرويجي الشهير إدوارد مانش “إن الفيلم غرائبي وجريء في آن واحد، وجاءت لغته ثورية وفوضوية ومخربة، تصف بالكلام ما صوّره الفنان في لوحاته”، ولذا تحفظت دولة النرويج على محتواه، لأنه قد يمس بسيرة فنانها الشهير الذي يعتبر اليوم ثروة وطنية بأعماله التشكيلية التي تملأ متاحف البلاد.
والمخرج واتكينز أراد أن يصور الفنان مانش في أصدق صورة له: الشاب الفنان الموهوب والعبقري الذي عاش حياة صاخبة عاطفيا واجتماعيا، وعرض بعض العلاقات الجنسية الفضائحية والمتطرفة.
وواتكينز صوّر هذه العلاقات الطبيعية والمثلية بحرية تامة وأضاء على عبقرية الفنان التي انطوت على إيجابيات وسلبيات على محيطه. وكل ذلك صُوّر بأسلوب صارخ وعبثي وفوضوي إلى حدا ما. فليس الفيلم في إطار الإيقاع التقليدي الذي يروي سيرة فنان في كل مراحل حياته، بل على عكس ذلك، فالتصوير بحد ذاته جاء صاخبا متقطعا، فدمج المخرج مشاهد من حياته الواقعية بلوحات تشكيلية منجزة أو في إطار الإنجاز.
ورأى أن هذا الفيلم كما كل الأفلام التي تتعاطى مع السيرة الذاتية للفنانين والعظماء مشكلة ربط عالم الفنان بواقعه وحقيقته، من دون أي تزوير قد يؤثر على شهرته بمزاجية المخرج الذي يبحث أيضا عن لغته الخاصة.
وهناك أفلام مثل “كارافاجيو” للمخرج ديريك جارمان (1986) التي تعيد بناء أو تركيب علاقة الفنان بواقعه من خلال مزيج من الحقائق والتخيلات، وبالتالي فإن هذه الأفلام لا تحرص على تصوير التجربة الحياتية للفنان، ولا تقدم بورتريها واقعيا أو مسيرة ذاتية للفنان، بقدر ما تهتم بإيجاد عوالم بديلة، وبتقديم رؤية شخصية، وهناك أفلام تتيح لنا أن ننفذ إلى عملية الإبداع وسر الإيجاد الفني، دون أن يكون الفيلم درسا في الفن أو في تاريخ الفن. إن التركيز يكون على فعل الإيجاد والبحث عن عناصر إدارك الفنان التي رافقت تحقيق اللوحات، وهي محاولة لكشف الصلة بين حياة الفنان وتعبيره الجمالي، أي أن يكون الفنان نموذجا لسبر واستكشاف مسألة سيكولوجية الإبداع الفني.
أشار عبيدو إلى أن المخرج الإسباني كارلوس ساورا يقدم في فيلمه “غويا في بوردو” عالم أبرز رموز الفن الإسباني فرانشيسكو دي غويا، ويتناول الفيلم السنوات الأخيرة من حياة “غويا” التي قضاها بمدينة بوردو الفرنسية بعيدا عن وطنه وشعبه، الذي كان يعاني من ويلات الفقر والجهل والاستبداد، وبالكثير من الشاعرية والجمال البصري وبأسلوب جديد دمج فيه المخرج في تناسق بين جمالية السينما وسحرها وعمق الإبداع التشكيلي وغموضه، طوقت الكاميرا لحظات مصيرية من حياة الرسام الذي جسد في لوحات خالدة جانبا من حياة عصره وآلام الناس ومعاناة شعبه، إلى جانب مشاهد من الحب والجمال من خلال علاقته الحميمة بالدوقة “دي ألبا” التي استولت على قلبه وملكت كل حواسه حيث بقي حبها حيا في قلبه حتى آخر نبضة.
أفلام عربية
السينما العربية كان لها نصيب في رصد وتتبع عبيدو لعلاقة الفن التشكيلي بالسينما، وأوضح أن المخرج عاطف الطيب قدم فيلما عن رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي أدى دوره الفنان الكبير نور الشريف، وقدم المخرج السوري محمد قارصلي فيلمين تسجيليين عن الفنان عبداللطيف الصمودي والنحات عاصم الباشا.
أيضا فيلم “جميل شفيق” لعلية البيلي وفيه عرض لأعمال الفنان جميل شفيق ليس من منطق التتابع الزمني والتاريخي بل من خلال رؤيته الخاصة وطرحه لمواقف حياته وتناوله للموضوعات المختلفة التي تعكس فكره وأسلوبه الخاص في حس شاعري يسمو فوق دائرة الأحلام الذاتية، ورؤيته تعكس مخزونا مصريا قديما وتفرز شعرا وفكرا وعاطفة.
ويتساءل الفنان جميل شفيق خلال الفيلم عن طبيعة العمل الفني وعن حرية الفنان. وقد عبرت فيه المخرجة عن فهم عميق للعالم الفني للرسام والنحات المبدع. وقدمت للمتفرج في إيقاع محكم من دون تعليق عبر الصمت والموسيقى وإضاءة المصورة الموهوبة نانسي عبدالفتاح. واختارت من اللقطات التي صورته فيها لقطة واحدة تتكرر مرات محسوبة من البداية إلى النهاية، مصورة بعدسة الـ”فيش أي” أو عين السمكة، فكانت ركائز الإيقاع، وتعبيرا عن الدور الجوهري للسمكة في عالم جميل شفيق في نفس الوقت.
وأشار إلى فيلم المخرجة عرب لطفي “غرفة مظلمة.. حياة مضيئة” الذي يتابع رحلة حياة الفنان التشكيلي وفنان الفوتوغرافيا محمد صبري حيث نتحرك داخل مدينة القاهرة منذ الأربعينات حتى الآن في عالم متنوع ما بين عالم الصورة الفوتوغرافية وعالم الصحافة وتجارب الفن التشكيلي التي كلها عناصر شكلت حياته وشكل هو بها عالمه.
وهناك فيلم “حلم المياه” لحسن السوداني وهو تجربة بصرية تحاول الخروج من دائرة الفيلم التسجيلي التقليدي إلى الدراما التشكيلية معتمدة في ذلك على رحابة الصورة التشكيلية وكرنفال الألوان المنتشرة في لوحات الفنان التشكيلي علي النجار الذي عرف عنه جرأته العالية في استخدام اللون داخل اللوحة مما يمنحه تميزا أسلوبيا متفردا.
ولفت عبيدو إلى موضوع الفيلم العراقي “جبر علوان: ألوان زمن الحرب” للمخرج كاظم صالح حيث نجد لوحات الفنان العراقي العالمي جبر علوان، الذي يعيش في المنفى بين أوروبا والدول العربية منذ سنوات طويلة، وقد تمكن المخرج من الربط بين اللوحات التجريدية ذات الألوان النارية الصريحة ولقطات تسجيلية من زمن الحرب، على نحو خلاق ومبتكر مستخدما المونتاج والجرافيك والعلاقات اللونية بين الواقع والخيال من دون تعليق ولا حوار ولا كتابات على الشاشة، فتحولت الحرب إلى لوحات.
وبدت اللوحات في حالة حرب، وينتهي الفيلم بأغنية إيطالية عنوانها “وداعا يا روما” في إشارة موحية إلى قرب نهاية المنفى والعودة إلى الوطن. وهذا الفيلم ربما يكون أول محاولة عربية لصنع الجماليات الخاصة للجرافيك، أو جماليات الصورة المرتبطة بالثورة التكنولوجية.
ثلاثة أقسام
جاء الكتاب في ثلاثة أقسام الأول يشكل قراءة نقدية مطولة تضيء جل الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة والتسجيلية التي تطرقت لحياة الفنانين التشكيليين في الإنتاج السينمائي العربي والعالمي. والثاني يضيء رؤى وحيوات فنانين وأفلام كان لهم حضور بارز عبر أفلمة سيرهم سينمائيا ومن عناوينه “فان غوغ أفلام سينمائية رصدت تاريخه ومعاناته”، “غويا في فيلمين سينمائيين لكارلوس ساورا وميلوش فورمان”، و”بيكاسو والسينما” وفيلم “فريدا إعادة إنتاج الصورة الذاتية للرسامة المكسيكية المعذبة” و”سيرافين بين الفن والجنون”.
كما يتوقف عبيدو عند اكتشاف فيلم وثائقي يظهر فيه فان جوخ عام 1890، وفيلم “سيرافين” الذي يحكي قصة شخصية واقعية لفنانة تشكيلية تلقائية اسمها “سيرافين دوسينليس”، وفيلم “قلب يسمّى ألم” للمخرج الإسباني لوس إدواردو أوت، وهو فيلم رسوم متحركة يتخيل بجرأة علاقة ثمانية رسامين كبار بفنهم وجمهورهم وسياقهم الثقافي والتاريخي وحياتهم العاطفية، هم غويا، فيلازكيز، بيكاسو، دالي، جواكين سورولا، وجوليو روميرو دي تورس، ومرسيل دتشامب، وفريدا كاهلو.
وفي القسم الثالث يقدم إضاءات تحليلية لمخرجين قدموا تشكيليين سينمائيا مثل المخرج الياباني أكيرا كيروساوا، والمخرج الأميركي روبرت ألتمان، والمخرج آلان رينيه، والمخرج الفرنسي موريس بيالا.
*كاتب مصري
نقلاً عن صحيفة العرب