تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الموسيقى العربية: العجز في استحضار البلاغة

الموسيقى العربية: العجز في استحضار البلاغة

الموسيقى العربية: العجز في استحضار البلاغة

 

نضال جمهور*
تُستحضر الموسيقى كقيمة حضارية بوصفها تشكيلاً بالغ التركيب والتداخل، حيث ينطوى هذا التشكيل على العديد من الأنساق؛ فثمة نسق متعالٍ ينهمك بتحليل تطلعات الإنسان ومعناه وتشكيلاته الداخلية، ويتقصد خلق انزياحات جوهرية في طريقة النظر إلى العالم وتَناوله، وثمة أيضاً أبعادٌ هوياتية تتصل بسياقات الإنسان الثقافية والاجتماعية، وبشكلٍ ما يتصل النسق الاجتماعي بما يمكن ربطه بالمستوى الإجرائي والوظيفي للموسيقى؛ حيث تضطلع الموسيقى في هذا الإطار بمهمة التعبير عما هو مُتداول ومألوف ويومي، لا شك في أن تمظهر أي نسق من هذه الأنساق ـ المتعالية أو الاجتماعية – يعتمد في جوهره على فعل الإدراك الذي تحاول الذات أن تتقصده للإحاطة بسياقاتها الكلية، في هذا الإطار تبدو الموسيقى العربية المعاصرة رهينة سياقاتها الاجتماعية؛ حيث نلحظ عجزها في المجمل عن خلق نسق متعالٍ ينهمك في تأمل ما هو حقيقي وقيَمي، مقابل انشغالها في التعبير عن قيم شكلانية تبدو في جوهرها شديدة التنميط والتكرار، إن المقاربة الأشد تمثيلاً لهذه القيمة تكمن في هيمنة مفهوم الأغنية على المفهوم الموسيقي الكلي، حيث تتموضع الموسيقى على هامش اللغة في محاولاتها للتعبيرعن كل ما هو يومي وطارئ ومُنجز كقيمة اجتماعية.

تجسد الأغنية بكونها التمثيل الأبرز لحضور اللغة في الموسيقى، نوعاً من العجز في البناء الموسيقى وفي مستوياته الجمالية والدلالية، وفقاً لأدورنو تنبع خصوصية الفكر الموسيقى بأنه «التركيب الخالي من الأحكام» أي أنها تعمل كلغة دون أن تقع في اشتراطاتها، فهي تُعبر عن شيء ما أو تعطي الفهم دون الإدلاء ببيان أو محاولة تحقيق الاستيعاب التام والمحكم، وتقود مقاربة أدورنو لخلق رؤى وأفكار عن التحرر الذي يُحدثه فهم الموسيقى كوسيلة للنظر إلى هذا العالم، أي أن تحقيق الاستيعاب التام ليس الطريقة الوحيدة التي يُمكن أن نبتغيها لإدراك هذا الوجود، يشي هذا بطروحات فيلهلم دلتاي، حول قيمة التأمل كوسيلة لإدارك العالم واستيعابه، ويشي أيضاً بقدرة الصمت على استنهاض أكبر قدر ممكن من الخيال من أجل استحضار قيمٍ لا تُدرَك باللغة، يمكننا القول إن الغائية المُنضبطة التي تَتبعها اللغة في إدراك معنى مُحدد تجعلها أقل مقدرة على التقاط التفاصيل التي تختبئ في النسيج الكلي للمعنى.

الوعي المُتشكل ضمن نطاقات يشوبها الكثير من التشوه، هو وعي خارج السياق؛ فالاحتفاء بالهامشي – مهما بدا جادا ـ هو في جوهره تعبير عن العجز في الوعي والاكتشاف، هذا ما تخلقهُ الأغنية حين تنحصر الأبعاد الكلية والدلالية للموسيقى في انشغالات ثانوية كالكلمات، وجودة الصوت، وطبيعة الخطاب الذي يبدو مُرتهنا في كليته لتطلعات الذاكرة الجمعية المهيمنة، لتبدو الموسيقى في النهاية إدراكاً شديد الهشاشة والهامشية، وتمثيلاً للعجز عن إحداث أي انزياح في طريقة النظر إلى العالم ومُعاينته، وقد تبدو مقاربات ثيودور أدورنو وهوركهايمر، شديدة التقاطع في هذا الإطار، حيث يشيران في كتابهما «جدل التنوير» إلى حقيقة أن السمة الأساسية لصناعة الثقافة هي التكرار، يوضح أدورنو هذا من خلال مقاربته عن الموسيقى والأغاني الشعبية «أن الهيكل الكامل لهذه الموسيقى مُوحد ويقبل التبادل» بمعنى أن إحداث أي تبديل في الأجزاء لن يُحدث خللاً في السياق الكلي، على النقيض من ذلك، فإن الموسيقى الجادة هي بناء كلي لا يقبل التبادل، حيث تستمد كل تفصيلة موسيقية معناها من الوحدة الكلية الملموسة للقطعة.

ثمة الكثير من العوامل التي أدت إلى إحداث هذا التشوه في الوعي الموسيقي العربي وبتمظهر الأغنية كقيمة عليا في الموسيقى، ابتداءً من الإشكاليات العميقة المُتصلة بقداسة اللغة في الذاكرة العربية وانتهاءً بآليات الإنتاج الثقافي في ظل قيم الرأسمالية المتأخرة، حيث لا تتجاوز الموسيقى الحدود المفروضة على السلعة؛ بصفتها مُنتجاً يلبي تطلعات الإنسان بالدرجة الأولى، ولا يتجه لإحداث أي تصادم في منظومته الاجتماعية والمعرفية، لهذا تقع الأغاني العربية المعاصرة في نطاق ما يُمكن تسميته بالنمط السلوكي، الذي ينشأ من خلال التكرار والتعود، فهي بالمجمل نمطٌ يضمن التموضع العميق للإنسان في ذاتيته، ويحيل الفعل النقدي بالمحصلة إلى فعل هامشي وبلا طائل، نستطيع أن نَخلص لرؤية مفادها أن الأغاني المعاصرة في معظمها هي منجز غير حقيقي ويفتقر للفردانية التي يتمحور عليها بناء العمل الموسيقي الجاد.

تنشأ حالة التأمل كفعل لا يمكن إدراكه إلا بالكثير من التحرر، فبمقدار ما نستطيع التحرر من قيود الأفهام المسبقة، سنكون أكثر مقدرةً على تلقي أفهام جديدة وقيم مُغايرة للسائد، ضمن هذا الإطار نستطيع أن نَستحضر الكثير من الأسئلة حول جدوى ما تُحققه الأغاني العربية المعاصرة، من استجلاب للروح النقدية التي من شأنها أن تخلق آفاقاً مُتجددة للمعنى، بيد أن ما يحصل مختلف تماماً وأكثر إشكالية على مستوى التجديد، حيث ينحصر فعل الاكتشاف في الأغاني العربية بأفعال يشوبها الكثير من التشوه والاغتراب، كاستنساخ تجارب مُتشكلة في وسط ثقافي مغاير، أو اللجوء لاستحضار التراث بوصفه دليلاً على المُغايرة، ما يجعل فعل الاكتشاف مشوباً بالكثير من القلق والنكوص.

يصف الناقد الموسيقي مايكل. ب. ستاينبرغ الموسيقى، بأنها (منفى اللغة) ويتمثلُ هذا النفي لدى ستاينبرغ بعجز اللغة عن التعبير عن فائض المعنى الذي تحققه الموسيقى، وباستحالة ترجمة هذا الفائض إلى كلمات، يوضح هذا الإطار الفاعلية الحقيقية التي ينبغي أن تتحرك فيها الموسيقى الجادة، حيث تعكس هذه الرؤية أن الموسيقى تضطلع بإنشاء اللغة وتوليدها لا الدوران في ظلالها، التي تبدو في الكثير من الأحيان باهتة وشديدة الصلافة، نستطيع القول إن تحقق فعل الإدراك الموسيقي مرتبط بكم المقدرة على إدراك ما يحصل خلف الصخب الذي تصدره هذه الأغاني، وبإدراك أن ثَمة الكثير من الفراغ خلف الثرثرة، وثمة الكثير من الموت خلف ما يفترض به أن يكون احتفاءً بالحياة.

كاتب أردني