تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » شاعر سوري يؤرخ لتاريخ العبور بواسطة الكاميرا

شاعر سوري يؤرخ لتاريخ العبور بواسطة الكاميرا

شاعر سوري يؤرخ لتاريخ العبور بواسطة الكاميرا

 

محمد الحمامصي*

التقاطعات كثيرة بين عوالم الشعر وعوالم التصوير الفوتوغرافي، حتى وإن اختلفت الأدوات بشكل جذري، فإن العالمين متداخلان، إذ كلاهما مادته الصورة، القصيدة تقاربها من خلال اللغة والتصوير من خلال الالتقاط الملموس. وفي النهاية تتطلب كتابة الشعر عين مصور بارع بينما يحتاج التصوير إلى التقاطات شاعر، وهذا ما يتحقق مع الشاعر والمترجم السوري أسامة إسبر.

تشكل لوحات معرض التصوير الضوئي الفردي الأول للمصور والشاعر والمترجم السوري أسامة إسبر “طقوس العبور: الشعر البصري للروح” رؤى التجلي البصري للجماليات العابرة، في محاولة لتأريخ طقوس عبور الأشكال وتبدلاتها من حال إلى حال، حيث تلتقط اللحظة الجمالية حين تنبثق مضيئة في الزمان والمكان، وبالتالي فإن التقاطها نوع من الانخراط الجمالي في عملية العبور، والتي تطال الجسد البشري أيضا في تحوله من طور إلى طور إلى أن يطوى في مجاهيل الكون.

لوحات المعرض ـ الذي افتتح أخيرا ويستمر حتى 21 أكتوبر القادم ـ تعد محاولة لكشف علاقة التواطؤ الحميمية بين الشعر والتصوير الضوئي لتكون النتيجة صورة هي أقرب للفن التجريدي منه إلى التصويرالتقليدي وهو ما يميز أعمال إسبر، كما أن المعرض يعتبر محاولة لاكتشاف الطاقة التحريرية للتصوير وقدرة الصورة على فتح آفاق جديدة للكتابة الشعرية.

افتتح المعرض في صالة هيلتون آسموس كونتمبرري للفنون، وهي واحدة من أهم صالات الفن في مدينة شيكاغو والتي أسستها وتديرها الفنانة التشكيلية آريكا هيلتون، وحضرت الافتتاح مجموعة من مقتني الأعمال الفنية وعدد من الفنانين، ونظمت خلاله أمسية شعرية لإسبر شاركه فيها عدد من الشعراء الأميركيين.

يقول إسبر “لقد ألهمتني الصورة للبحث عن القصيدة التي أنسجها كلمة كلمة، استعارة استعارة كي أصنع البساط السحري الذي يطير بالقارىء إلى فضاءات مجهولة”. وهو يرى أن “للقصيدة عالمها الخاص كما للصورة عالمها الخاص، وكلاهما ينفتح للقارئ والمشاهد، ويفتح لديه طريقا للأسئلة”.

ويشير إلى أن تسمية المعرض “طقوس العبور، الشعر البصري للروح” تأتي من آراء خاصة كونها أثناء عملية التصوير، ويقول “أنا هنا لا أتحدث عن تقنيات أو دور التكنولوجيا في العملية، بل عن الفلسفة الخاصة بالأمر والكامنة خلف مفهوم التصوير نفسه، على الأقل من وجهة نظري. وكما تعلم تتصف حياتنا بالعبور، بالمرور السريع للزمن، وبتحول الأشكال وتبدلها واختفائها في النهاية، حتى أن ثقافتنا نفسها، بالمعنى الديني، قائمة على مفهوم الزوال: زوال هذا العالم، وتحوله إلى جسر إلى عالم آخر. غير أن المسألة في التصوير، هي محاولة للإيقاع بالأشكال العابرة في شراك الصورة، وأقصد بالشكل العابر، ما يتشكل داخل إطار الصورة عبر علاقة العين بالعدسة والعوامل الخارجية المتدخلة في العملية، وهنا يلعب الضوء دورا كبيرا”.

ويضيف “كنت أصور على الشاطئ وحين أدير ظهري يختفي شكل كنت قد قمت بتصويره ويحل مكانه شكل آخر كما لو أن ممحاة تمحو وقلما يخط مغمسا في حبر اللامرئي، وحتى المنظر الجميل في هذا التصور عابر، لأنك لن تراه ثانية كما رأيته حين صورته، حين تجلى أمامك كي يصنع كمال الصورة. بالتالي التصوير هو نوع من الدخول في طقوس العبور، عبر التأريخ للأشكال العابرة، في سياق جمالي مختلف، تتدخل فيه عوامل كثيرة كي تصنع له هوية فنية”.

شاعر سوري يؤرخ لتاريخ العبور بواسطة الكاميرا

صورة وقصيدة
حول بداية علاقته بالتصوير، يؤكد إسبر “كنت أحب الرسم في طفولتي، وكنت أخربش كثيرا، غير أنني لم أفلح في تعلمه، بسبب طبيعة المدراس التي درست فيها في طفولتي، لم تكن هناك عناية بالأطفال، وفي إطار العائلة لم أحظ بمن يوجهني، فلم يكن أحد يمتلك وقتا للآخر، وكنت دوما أتخيل بأنني سأصبح رساما يوما ما لكنني لم أفلح في هذا، ويبدو أنني لا أمتلك هذه الموهبة، لكن هذا الحب للرسم ولد بطريقة أخرى. ولقد كتبت وقتها قصيدة غاضبة قلت فيها ‘لم نتعلم في مدارسهم سوى الشرود‘. في البداية لم أشعر بميل إلى التصوير، وحتى لم أفكر به، إلى أن التقيت في أحد الأيام بالفنان الإيطالي الشهير ماركو نيريو روتيللي، في شيكاغو، الذي وبينما كنا نتحدث نظر إلي وقال: أنت تمتلك عين مصور، تحرك كي تكتشف نفسك”.

ويتابع “كنت وقتها مدعوا ضمن عدد من الشعراء للمشاركة في مشروع فني حول الكوميديا الإلهية لمتحف كبير في شيكاغو يسمى متحف الفيلد، طلب ماركو من كل شاعر أن يقرأ الكوميديا الإلهية ويستلهم منها قصيدة، حين قرأتها، كان وقتها جحيم الحرب السورية على أشده، فخرجت قصيدتي من عباءة دانتي إلى جحيم ومرارة الواقع السوري المؤسف. وكان النص جزءا من مشروع فني يتمثل في إضاءة واجهة المتحف عبر مزج بين روح الشعر وروح الفن في الأشكال المضاءة. في أعقاب هذا اللقاء، بدأت بالتصوير، وكانت النتائج ممتازة، من ناحية التلقي، ومن ناحية المتعة الخاصة، كما لو أنني اكتشفت سحرا مفقودا في حياتي”.

ويلفت إسبر إلى أنه لا يصور كعالم طبيعي أو جغرافي أو موثق، فهو لا يميل إلى البعد الوظيفي في التصوير، بل يصور كباحث عن الجمال كما يتجلى في مرئيات الوجود، يقول “يسحرني غروب الشمس وشروقها، الانعكاسات في المياه، الأشكال البشرية العابرة في لقطات خارجة عن المألوف، والتقلبات البحرية وصعود الأمواج الغاضب، والأعشاب والأصداف المرمية وأجنحة الطيور حين يسكنها الضوء والأحجار حين توحي بأشكال تتجاوز حجريتها وجذوع الأشجار التي تروي قصصا ولمعان أجنحة الغربان التي تحاكي أصوات البشر وأجنحة النسور التي تصنع سماءها الخاصة داخل السماء”.

ويضيف “كل ما يخلق صورة جميلة وغير مألوفة يشغلني، بالتالي ما أبحث عنه في الصورة هو قدرتها على أن تقول نفسها، ولهذا العلاقة بين الشعر والصورة متداخلة نوعا ما، فكما أن الصورة قادرة على أن تلهمك قصيدة فإن القصيدة قادرة على أن تخلق صورا في خيالك رغم أن لكل منهما قوانينه وقواعده الخاصة، فكي تكون شاعرا بالمعنى الإبداعي للكلمة يجب أن تبتكر لغتك الخاصة وتشحنها برؤيتك الخاصة وتلونها بلونك الخاص، بالتالي حين يقرأ القارئ القصيدة فإنها تتوهج وتضيء له في ظلمة الواقع. الصورة لها طقوسها وقواعدها وتقنياتها أيضا. إن الصورة نص بصري مكتف بذاته، وهي تفصح عن نفسها للمشاهد، وهو يقرأها بطريقته ووفق مركبه الثقافي”.

ويتابع “يجمع معرضي بين الصورة والقصيدة، وترافق كل صورة قصيدة تمثل تعريفا لها بطريقة ما، مرتبطة بلحظة التقاطها والإلهامات التي ولدتها، وأصدقك القول إنني أكتب أحيانا قصائد وأنا أصور، وأتوقف كي أسجلها على الموبايل مدندنا بها ثم أعود إليها بعد ذلك، ولهذا اخترت لكل صورة قصيد تتعلق بها، رغم قناعتي بأن لكل جنس عناصره ومكوناته وبنيته الخاصة، المنفصلة بالمعنى الفني، إلا أن الصورة تتوهج بجمال شعري من نوع خاص كما تحفل القصيدة بروح بصرية”.

الكاميرا حررتني
حول الصور التي يضمها المعرض وتبدو كما لو أنها مرسومة، يقول إسبر “صحيح، الكاميرا تمنحك فرصة هائلة كي تكتشف الطبقات الأخرى للأجساد والأشكال، فتبدو الصور كلوحات تجريدية، فمثلا رأيت مرة شكلا بشريا لامرأة منعكسا على الرمال الصقيلة بعد تراجع المد وكانت ترتدي ألوانا مختلفة انعكست في تموجات وتداخلات بدت كما لو أن ريشة رسمتها على كانفاس الشاطئ الرملي”.

ويتابع “أصور بعين الرسام، وأشعر أحيانا بأنني أرسم صوري بريشة العدسة إن صح التعبير، وهناك صور أخرى تنطق بقوة بصرية خاصة، تتجاوز الرسم إلى التجسد الفوتوغرافي في أبهى حضور له. تتشكل الصورة، تبرز نفسها لعينيك، ثم سرعان ما تختفي، كأن يغيب الضوء بعد أن تمر غيمة كي تحجبه، أو كما حين يضاء جناح النسر وتتوهج ريشاته كلها كأنها عرس ضوئي ثم سرعان ما يغيب هذا التوهج، وكذلك حين ترى وجها بشريا مليئا بفرح خاص أو حزن خاص، أو يأس ما، يعيد رسم الملامح البشرية من جديد فتلتقط العدسة ملامح لا تكف عن التغير”.

ويكشف إسبر أن صوره التي كان ينشرها أحيانا على الإنستغرام جذبت القائمين على صالة هيلتون / آزموس للفن المعاصر فاتصلوا به ودعوه إلى إقامة معرض في مدينة شيكاغو، يقول “لقد شعرت بسعادة غامرة لأن هذا أول معرض فني لي، ونظم بسبب الإعجاب بالأعمال، حتى أن صاحبة الصالة آريكا هيلتون وهي فنانة تشكيلية مهمة أقامت معارض كثيرة في الولايات المتحدة والعالم قالت إن صوري هي نوع من العودة إلى سحر الصورة وشعريتها في وقت يتميز فيه التصوير في الولايات المتحدة بالتجريب والصدم والإدهاش وهدم الصورة واللعب عليها وتركيبها وإدخال التطور التكنولوجي الهائل في العملية بهدف الإبهار لكن صوري تمثل عودة إلى اكتشاف العين لسحر العالم المرئي وبالتالي التقاط جماله الهارب أبدا”.

ويضيف “عدت بالصورة إلى عفويتها، إلى تلقائيتها ودفئها المفقود، إلى الشكل في جماليته التي تتجلى للعين عبر العدسة دون إيغال أو شطح في التجريب، ثمة شيء يحدث هنا، هو تجسد للصورة بعناصرها في مزيج عوامل تصنع هويتها، وتحافظ على جسدها البصري كله، دون هدمه، كما يحدث عادة من أجل البحث عن شكل كامل خلف الشكل. أريد للشكل أن يؤكد نفسه، ناصعا في نضج حضوره البصري، كعنقود عنب يتدلى على دالية الحضور”.

عودة بالصورة إلى عفويتها

ويؤكد إسبر أن الكاميرا عبر توحدها بالعين وبالطاقة الخلاقة التي يمتلكها المصور، والتي أسميها الآليات السارية في الدم والتي تكتشف تجلي الصورة في الأفق المرئي، تلعب دورا مغيرا بحسب كل حامل لها. وبالنسبة إليه يقول “أولا حررتني من الانشغال بتفاصيل الذاكرة، ومن الغرق في ذاكرة الثقافة، ما أقصده هنا معقد قليلا، ويحتاج إلى تفسير دقيق، أعني به أنني في تأملي للأشياء المرئية كونت مفردات جديدة مولودة من سياقها البصري، بالتالي تحررت من إملاءات اللغة التي تحتفي بجمهرات ألفاظها وانتقلت إلى لغة أخرى أكثر إنسانية، أي أنها لغة متحررة من أنا محورية مركزية تصهر كل شيء في أتونها وتصنع جملا تتقدم كالسيول جارفة كل شيء في طريقها”.

شاعر سوري يؤرخ لتاريخ العبور بواسطة الكاميرا

ويتابع “ساعدتني الكاميرا على اكتشاف لغة تعرف كي تصغي إلى بوح الأشياء، إلى بوح جسد أو حصاة أو ريشة ساقطة من طائر أو صدفة أو عشبة بحرية أو أوراق شجرة يتوهج فيها الضوء أو انعكاسات في الماء أو ملامح وأطوار لملامح الوجه وحركة الجسد في الواقع المرئي. جعلتني الكاميرا أكثر إنسانية عبر دفعي إلى عناق أكثر حميمية مع الأشياء، بالتالي تتحول الأنا إلى أذن مصغية قبل أن تعيد صياغة تجربتها لغويا. أشعر بأنني في بداية الطريق وأن هناك صورا كثيرة تنتظرني وأن عالما لانهائيا من السحر ما يزال هناك يحتاج إلى اكتشاف دائم”.

يذكر أن إسبر فنان وشاعر ومترجم سوري صدرت له عشرات الكتب المترجمة والمؤلفة وكان آخرها دواوينه الشعرية الثلاثة التي صدرت في الأعوام الثلاثة الأخيرة تباعا عن دار خطوط وظلال في الأردن، وهي “على طرقي البحرية” (2020)، “على ضفة نهر الأشياء” (2021) و “قال لي جسدي” (2022). كما صدرت له ترجمات عن أهم دور النشر العربية كدار روايات، منشورات الجمل، فصول، والمنظمة العربية للترجمة، وغيرها من الدور الأخرى. كما يعمل محررا مشاركا في القسم العربي في مجلة ”جدلية“، ومحررا ومقدم برامج في مجلة الوضع الصوتية / ستاتوس، وهو من طاقم مؤسسة الدراسات العربية في واشنطن.

*كاتب مصري
عن صحيفة العرب