مروة صلاح متولي*
لا يقترب المرء من موسيقى بيتهوفن الجليلة، إلا وقد أعد نفسه لسماع لا يشبه كثيراً أي سماع آخر، وهيأ فكره لاستقبال ما هو كامن وراء هذه الموسيقى، والحق أنه على الرغم من صعوبة أعمال بيتهوفن، وتعقيدها الفني البالغ، وإعجازها العظيم، إلا أنها تتسم بالوضوح وتكاد تخلو من الغموض والإبهام، ولها من التلقي مستويات عدة، لن يشقى المستمع ولن يبذل جهداً مضنياً من أجل أن ينضم إلى أحد هذه المستويات، ولن يصيبه الإحباط من فشل محاولات الفهم المتكررة، كما أنه لن يجاهد نفسه لكي يظل منتبهاً للأنغام، فإن بيتهوفن سوف يحمل هذا العبء عنه، وسيبقيه يقظاً حاضر الذهن أراد أم لم يرد، وكذلك يعد هذا الموسيقار العبقري من أكثر الذين تتوفر الشروح والتحليلات لمؤلفاتهم ذائعة الصيت، والمشهورة بشدة إلى درجة أن من لم يسمعها قط، قد سمع عنها، ولبيتهوفن الكثير من المؤلفات التي جاءت في قوالب موسيقية مختلفة، لكن لا شك في أن للسيمفونيات تحديداً شأن عظيم، لا في تاريخه الموسيقي الشخصي وحسب، لكن في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية بشكل عام، بما فيه من عظماء أبدعوا سيمفونياتهم الخاصة أيضاً التي لا ينقصها الجمال والشهرة والقوة الفنية، إلا أن بيتهوفن تفوق على الجميع في إبداع هذا القالب الموسيقي بالذات، الذي ارتبط به إلى الأبد، فلا يكاد يطاوله أحد في البناء، والبناء هو أهم جماليات وتقنيات هذا النوع الفني، وهو الذي يكشف مدى قوة السيمفونية وتمكن واقتدار مؤلفها.
وسيمفونيات بيتهوفن هي صروح ضخمة شامخة، كأقدم القلاع الأثرية العريقة، أو القمم الشاهقة، وبعضها يعد من أعاجيب الدنيا وغرائب الزمان، كالسيمفونية التاسعة، التي كانت خاتمة أعماله في هذا الميدان، وربما رسالته الأخيرة للبشرية التي أهدى إليها موسيقى جبارة كان هو محروماً من سماعها، وتمنى لها السعادة والإخاء والسلام، من خلال قصيدة شيللر “أنشودة الفرح” التي ضمها إلى سيمفونيته، ومن أجلها أدخل الصوت البشري على قالب موسيقي لا يقبل بوجود الغناء، وكذلك تعد السيمفونية الخامسة من هذه الأعاجيب الخارقة، لا من حيث فكرتها ورسالتها ومعركتها، إذا أمكن القول بذلك، أو جمالياتها الفنية وحسب، لكن من ناحية التعبير، الذي هو الغاية الأسمى للفن، وربما يكون الغاية الوحيدة، كيف يعبر بيتهوفن بالموسيقى، بمجموعة من النغمات المعروفة والمتاحة أمام الجميع، كيف يطورها ويجعل كل نغمة تؤدي إلى الأخرى، أو تنبع منها وتنتهي إليها، كيف يصنع الجملة اللحنية، ويخلق الترابط القوي المتين دائماً، والمعقد المتشابك أحياناً، إلى درجة قد تعجز من يرغب في تحليل هذه العلاقات النغمية، فإن هذه العلاقات هي التي تمنح السامع ذلك الشعور بالرهبة والجلال والخطورة، وبأنه ليس أمام موسيقى عظيمة وحسب، وأن الأمر أكبر من هذا بكثير، سيتحقق لديه هذا الإحساس بلا شك، وإن لم يدرك الأسباب الفعلية وراء حدوثه وطبيعة تكونه، وهذا ما يؤكد حقيقة وجود أكثر من مستوى ودرجة من درجات تلقي هذه الموسيقى.
السيمفونية الخامسة
ألف بيتهوفن سيمفونيته الخامسة عندما كان في الثلاثينيات من عمره، وكان بدأ يصيبه بعض من الصمم، واستمر في تدوينها وتنقيحها وإعادة كتابتها لأربع سنوات متتالية، على الرغم من أنها سيمفونية قصيرة لا يستغرق عزفها أكثر من 35 دقيقة، على العكس من السيمفونية التاسعة التي تزيد مدتها عن الساعة، وكم كان متمهلاً غير متعجل في تآليفه، يمنح العمل الواحد عدة سنوات من عمره بلا قلق أو تسرع، وكان يقوم بالكثير من التعديلات والحذف والإلغاء، وترك مجموعة كبيرة من المسودات التي تشهد على ذلك، وهذا يعني أن وراء الجهد المبذول في القطعة الواحدة التي وصلت إلى الجمهور في شكلها النهائي، جهداً مضاعفاً وتعباً إضافياً، وكأنما ألف عشر قطع أخرى في سبيل الوصول إلى العمل الذي يريده حقاً، وهذا يتطلب طاقة جبارة، وإنهاك للروح والبدن ربما لا يقدر عليه السليم المعافى، فما بال الضعيف الذي اجتمعت عليه الأسقام، وأضنته الآلام الجسمانية والنفسية.
يبدأ كل شيء في السيمفونية وينطلق من أربع نغمات، أو أربع ضربات هي ضربات القدر، وتتكون السيمفونية من أربع حركات كالمعتاد، وفي هذه الحالة تحديداً يمكن تسميتها بأربع جولات، فالسيمفونية الخامسة عبارة عن معركة بين الإنسان والقدر، ومن أول دروس الدراما التي يتلقاها أي طالب هو القدر، فلا دراما دون قدر، ووجود القدر يحتم وجود الصراع، سواء كان صراعاً بين البشر والآلهة، أو بين الآلهة والآلهة، أو بين البشر والبشر، وللقدر الكلمة الأخيرة دائماً، والنتيجة معروفة مسبقاً، لا أحد يهزم القدر والقدر يهزم الجميع، كما في الدراما الإغريقية، والدراما في العصور كافة، ودراما الواقع التي يعايشها الجميع في كل يوم وحتى نهاية الدنيا، ومن يظن أنه يستطيع أن ينتصر على القدر أو حتى أن يهرب منه، يكون واهماً غارقاً في أحلامه إلى أن يفيق على الحقيقة المروعة، والويل كل الويل لمن يحاول أن يتحدى القدر، وعلى الرغم من هذه النهاية الثابتة المستقرة المحسومة، ظل مؤلفو الدراما يخلقون الصراعات مع القدر ومن حوله، وظل الجمهور متشوقاً لهذه الدراما وكأنه يجهل النهاية، أو يأمل في نهاية أخرى غير المتوقعة، أو يبحث عن انتصار ما لعله يتحقق في مرة من المرات، فإن هذه المعركة الخاسرة ومحاولات الانتصار الفاشلة، لا تفقد جاذبيتها أبداً، في أي دراما، والسيمفونية الخامسة لبيتهوفن يمكن اعتبارها دراما من ذلك النوع الذي يصور معركة من المعارك مع القدر، لكن بيتهوفن يخالف ثوابت الواقع، وقواعد الحقيقة، وأصول الدراما منذ عهد الإغريق، ويحقق الانتصار على القدر موسيقياً على الأقل، أو لعله يريد أن يقول أنه من الممكن أن ينتصر الإنسان على القدر بصورة أو بأخرى، ربما كما فعل هو عندما تغلب على قدر الصمم، بأن استمر في التأليف الموسيقي، لكن هل يعد هذا انتصاراً بالفعل؟ أم أنه شبه انتصار منقوص غير كامل؟ فقد ظل يتألم بشدة لحرمانه من سماع الموسيقى، وأخذ يدرب نفسه على أن يسمع بعقله لا بأذنيه، وسبب له ذلك أسقاماً نفسية، ثم هزمه المرض في النهاية.
الصراع مع القدر
كان بيتهوفن إنساناً معترفاً ببشريته، ولم يكن يحاول أن يصور نفسه كإله، كان يشعر وتفيض نفسه بالمشاعر، لكن العقل والشعور لديه لا ينفصلان، فهما شيء واحد، وهذا الأمر يفرض نفسه على السامع، الذي لن يقدر على الأرجح أن يصغي إلى موسيقاه بمشاعره فقط، ولا يخجل بيتهوفن من مشاعره ولا ينكرها، لكنه يعبر عن إدراكه لها، لا عنها هي بذاتها، رافضاً أن يعترف بضعفه البشري، على العكس تماماً من تشايكوفسكي الذي كان يقول حقيقةً ويصرح علناً: “أنا من زجاج، وأعلم أني عاجلاً أو آجلاً سوف أنكسر وأتهشم”، وكانت كلمات تشايكوفسكي وأفكاره ومشاعره هذه تنعكس على مؤلفاته وتعبيره الموسيقي، أما بيتهوفن فإن موسيقاه توحي بأنه كان يقول أنا من فولاذ، وأعلم أني عاجلاً أو آجلاً سأهزم كل شيء.
فكرة السيمفونية الخامسة معروفة للجميع وهي الصراع مع القدر، ولا يوجد أشهر من افتتاحيتها، حيث تسمع ضربات القدر العنيفة التي تعلن عن مجيئه، فتخلع القلوب وتحقق الصدمة، والغريب في هذا العمل أن الأوركسترا التي كونها بيتهوفن، ليست ضخمة كما في غيرها من الأعمال، لكنها متوسطة تميل إلى الاكتمال أكثر من النقص، ومن الآلات الإيقاعية التي تبدو مهمة في عمل كهذا، لم يعتمد بيتهوفن إلا على آلة التيمباني فقط ووظفها بمهارة عجيبة، من أجل خلق التوتر والإحساس بالخوف والفزع، ففي أعمال أخرى لمؤلفين آخرين يسمع صوت هذه الآلة ربما في تصاعدات صوتية أعلى مما يوجد في السيمفونية الخامسة، لكنها مع بيتهوفن يكون لها أقوى الأثر في نفس المستمع، واعتمد كذلك على النحاسيات الهوائية كالترومبون والترومبيت والبوق الفرنسي، من أجل خلق بعض اللمسات العنيفة، ومجموعة الوتريات (الفيولينة والفيولا والتشيللو والكونترباص) للقيام بأكثر من دور، ووظف الهوائيات الخشبية للتعبير عن درجات مختلفة من المشاعر، كان أقواها الباصون بطبيعة الحال، ثم الكلارينيت الشاعري الذي تعد لحظات انفراده التام القليلة من اللحظات الموسيقية الساحرة في هذا العمل، والأوبوا الحزينة، وبعد ذلك يأتي الفلوت الذي هو أرق الأصوات وأضعفها، وأكثرها حساسية ورهافة، ويعبر عن لحظات اليأس والحزن والاقتراب من الاعتراف بالهزيمة، وكل ما لن يسمح بيتهوفن بحدوثه بالطبع.
الأحاسيس والحركات
تتداخل كل هذه الآلات وتتقاطع ويلاحق بعضها بعضاً، ويتعاقب استنباط النغمات، ويتبدل الحال ما بين السرعة والبطء، والقوة والضعف، وسورة الغضب ثم الهدوء المتعب، والهجوم الحاد القاسي، ومبادلة الحس والشعور من آلة لأخرى، وبعض الشجن الذي يدل على التعاطف مع المأساة القائمة، وهو ما يذكر بثنائية الخوف والشفقة في الدراما، الشفقة على من تقع عليه المأساة والخوف من التعرض لمصير مشابه، تجتمع الأصوات المتآلفة أو المتشاحنة، وتتفرق ثم تعود لتمتزج وتختلط من جديد، فهناك معركة بالفعل، ومن يشاهد العازفين أثناء السماع، يلاحظ حركة أجسادهم غير العادية وما يبذلونه من جهد يجعل المسرح يموج وكأنه يغلي، على الرغم من جلوسهم في أماكنهم الثابتة، وفي الجولة الأولى من هذه المعركة أو الحركة الأولى من السيمفونية، تقع الصدمة ومحاولات لملمة التشتت الحاصل وضبط الهلع، وربما محاولات الهروب والفرار، ويبدو أحياناً أن الأمر يدور ما بين الضرب والتلقي وتكرر الضرب وتكرر التلقي وهكذا، وفي الحركة الثانية يكون هناك الشعور باليأس وتبدو الوتريات والهوائيات الخشبية هادئة ومتعبة إلى حد ما، والحركة الثانية أطول من الحركة الأولى، لكن الأولى هي الأشهر بكل تأكيد، وثنائي الكلارينيت والفلوت يكون رائعاً في الحركة الثانية، من خلال النغمات المتقطعة الضعيفة التي تتلاقى مع خفوت الوتريات، والنبر عليها بالأصابع بشكل متقطع، أما الحركة الثالثة فتبدو كمزيج من الخوف واليأس ومحاولة النهوض والتصدي والتخطيط في سرية، وهي حركة قصيرة، تعقبها الحركة الرابعة والأخيرة والأطول أيضاً، وفيها المقاومة والهجوم وشحذ الهمة وجمع النفس، وإعلان الحرب على القدر، وتبدو الآلات أكثر نشاطاً وقوة، وكما تبدأ السيمفونية بضربات القدر العنيفة، تنتهي بتوجيه الضربات المتتالية للقدر 6 ثم 8 التي تتوإلى حتى بعد التأكد من الانتصار، لكنها تأتي على سبيل الاحتياط والاطمئنان.
*كاتبة مصرية
نقلاً عن القدس العربي