تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الفن والهوية الجمعيّة.. ارتباطٌ تاريخيّ تحكمه أزمات

الفن والهوية الجمعيّة.. ارتباطٌ تاريخيّ تحكمه أزمات

الفن والهوية الجمعيّة.. ارتباطٌ تاريخيّ تحكمه أزمات

 

مليحة مسلماني*

“ثمة ارتباط وثيق بين روح الأمّة وفنّها. فمن خلال الفن نستطيع معرفة المفاهيم الأولى لكل قومية في كل أمّة، ونستطيع متابعة التطور الذهني والذوقي والاجتماعي لكل أمّة. إن تاريخ الفن هو تاريخ القوميات”
(عفيف بهنسي)

ارتبط الفن تاريخيًا بالهويات القومية والوطنية للشعوب، بما ينطوي عليه مفهوم القومية من شعور بالانتماء للأمّة الواحدة التي يشترك أفرادها في عناصر عدة، أهمها اللغة والتاريخ المشترك. والحديث عن علاقة الفن بالقومية يقود بالضرورة إلى بحث العلاقة بين الفن والسياسة، والدور الذي يلعبه الفن في الأزمات السياسية، سواء في حالات الاستعمار، أو في سياق أزمات داخلية، سياسية واقتصادية واجتماعية، تستدعي تغيير ما هو قائم والتمرد عليه؛ يقول ثروت عكاشة في كتابه “الفن والحياة”: “إن الفنان كان على مرّ التاريخ ’فيلسوفًا سياسيًا’، فالفن.. من مقتضياته التمرّد والعصيان والاحتجاج على ما هو متراكم”.
يتعرض المقال لفترات تاريخية، من حروب وثورات وأزمات سياسية، في الغرب وفي البلاد العربية، والتي لعب فيها الفن دورًا مميزًا في التعبير عن الأمم والشعوب.

الفنون القديمة
يُعد الفن المصري القديم من أبرز الأمثلة التاريخية على الارتباط الوثيق بين الفن والشعب، فتاريخ مصر مسجّل بأدق تفاصليه في الآثار الفنية. وعلى الرغم من أن الفن المصري القديم ظلّ يحمل طابعًا موحدًا في مختلف العهود، إلا أنه كان يتأثر بالتحولات السياسية والفكرية والاجتماعية، وبطبيعة نظام الحكم؛ ففي عهود الإقطاع سيطر فن السادة، في حين سيطر الفن الشعبي في الفترات التي شهدت فيها مصر حكمًا ديمقراطيًا.

“في الفن الإغريقي، تبرز مجموعة شهيرة محفوظة في متحف أثينا القومي تعرف باسم “مصرع الطاغية”، نحتها مثّالان إغريقيان هما كريسيوس، ونيسياتيز، ليخلّدا بها الصدّيقيْن هارموديوس، وأريستوجيتون، اللذيْن اغتالهما هيباركوس، طاغية أثينا”

 

عقب كل فترة انقطاع سياسي، أو نكسة سياسية، كانت مصر القديمة تمر بانبعاث حضاري ناجم عن شعور قومي كرد فعل على الاحتلال الأجنبي. وتعد آثار الإمبراطورية الحديثة التي عقبت فترة سيطرة الهكسوس في القرن الحادي عشر (ق.م)، والتي اكتشفت في طيبة عام 1922، من أبرز الأمثلة على هذا الانبعاث القومي، وتَمَثُّلِه في الفنون، عقب الاحتلال.
وفي الفن الإغريقي، تبرز مجموعة شهيرة محفوظة في متحف أثينا القومي تعرف باسم “مصرع الطاغية”، نحتها مثّالان إغريقيان هما كريسيوس، ونيسياتيز، ليخلّدا بها الصدّيقيْن هارموديوس، وأريستوجيتون، اللذيْن اغتالهما هيباركوس، طاغية أثينا. وتوصف تلك المجموعة بأنها: “عظةٌ وعبرة أمام الملوك والحكام حتى لا يتمادوا في الصلف والاستبداد”.

عصر النهضة والشعور القومي
في عصر النهضة، حمل الفن في إيطاليا في جوهره الأصول الإغريقية العريقة، وكانت أعمال مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشي، وغيرهما من رواد عصر النهضة الإيطاليين، تعبيرًا عن الشعور القومي للأمة الإيطالية. يبرز أيضًا من بين فناني عصر النهضة في أوروبا الفنان الهولندي بيتر بروغل الأكبر، الذي سمّي بـ”بروغل الفلاحين”، إذ حضرت معاناة الفلاحين في أعماله في زمن الثورة ضد السيادة الإسبانية التي أدت إلى قيام الجمهورية الهولندية. ومن بين أهم أعمال الفنان لوحة “ميج المجنون”، التي تصور الحرب والدمار، ولوحة “مذبحة الأبرياء”، التي تصور رجالًا مسلّحين يذبحون شعب قرية فلمنكة.
ويعدُّ الفنان الإسباني بارتولومي موريللو أيضًا من أشهر فناني عصر النهضة؛ تحول موريللو من رسم المواضيع الدينية للكاتدرائيات الإسبانية إلى تصوير الطبقات الفقيرة في المجتمع الإسباني، وبرع في تصوير الأطفال المشردين في لوحات مثل “الشحاّذ الصغير”، و”الضائعون في المدينة”، و”البائعة الصغيرة”، ومثلت هذه النزعة في معالجة موضوعاته ولجوئه إلى رسم الطبقات الكادحة اتجاهًا جديدًا وظاهرة فريدة في القرن السابع عشر.

غويا.. ديلاكروا.. وبيكاسو
بعد أن عانى الشعب الإسباني أزمة النكسة منذ عام 1808، ومحاولات الاحتلال تحويل دينه وتقاليده، تجمّع المثقفون في حركات سرية للمقاومة والتحرر، وتأثر الفنان فرانسيسكو غويا بمشاهد القتلى عندما اندلعت الثورة، وجاءت أعماله في مجموعتيْ “كوارث الحرب”، و”فظائع الحرب”، لتصوّر القتلى والمحكومين وثورة الشعب الإسباني. لقد عبّرت أعمال غويا عن الشعور القومي في إسبانيا في ذلك الوقت. وتعد لوحتاه “الثاني من مايو”، و”الثالث من مايو”، إشارة إلى البعث القومي الحقيقي في إسبانيا.

ويُعدُّ أوجين ديلاكروا من رواد الحركة الرومانتيكية التي جاءت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كرد فعل على جمود المدرسة الكلاسيكية ومثالياتها المستمدة من الميثولوجيات القديمة. ركز المذهب الرومانتيكي على حرية التعبير عن الوجدان والانفعالية، وبدأ فنانو هذه المدرسة يستلهمون مواضيعهم من أحداث العصر وحروب التاريخ. ومن أشهر لوحات ديلاكروا “مذبحة شيوز”، التي يصور فيها المذابح التي اقترفها الأتراك في أثناء حرب الاستقلال اليونانية.
تُذكر أيضًا في السياق ذاته، لوحة “غيرنيكا” للفنان الإسباني بابلو بيكاسو، رائد الحركة التكعيبية في النصف الأول من القرن العشرين، والتي تصوّر الحرب الأهلية في إسبانيا، حيث رسمها الفنان احتجاجًا على قصف طائرات ألمانيا النازية لبلدة غيرنيكا خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وتعتبر اللوحة من أهم الأعمال الفنية العالمية.

روسيا ـ الفنانون الجوّالون
قبل اندلاع الثورة عام 1917، شهد الفن في روسيا تحولات ظهرت بوادرها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث ظهر في تلك الفترة تجمّع “الفنانون الجوّالون”، الذي ضم الفنانين الرافضين للفن البورجوازي السائد، والداعين إلى فنٍّ يخدم الشعب. كما تطور النحت الروسي بتأثير مباشر من هؤلاء الفنانين الذي استلهموا موضوعاتهم من واقع الحياة المعاصرة. ومع اندلاع الثورة الروسية عام 1917، تطورت حركة الفن، وظهرت بعض التجمعات الطليعية، بهدف خلق فن ثوري، ومن بين هذه التجمعات جماعة “اليساريين”.
حتى الخمسينيات من القرن العشرين، طغت على الساحة الفنية الروسية موضوعات البطولة والانتصارات وبناء الاشتراكية، وهيمنت على المعارض، في حين سيطر الطابع الثوري على فنّ النحت. وقد ساهم النقد الفني في تلك الفترة في تعزيز الرؤية الواقعية للفن الروسي من خلال تأكيده عليها، ومناداته الفنانين بتصوير الحياة كما هي، من دون تجميل، أو تحوير، أو تفخيم.

 

الفنون العربية ـ بين الأصالة والحداثة
في المشهد الفني العربي المعاصر، وبرغم وصول الفن بمعناه الحديث إلى البلاد العربية متأخرًا ومتأثرًا بمجموعات فنية غربية، شكلت مراكز لها، في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، في كل من مصر، وتونس، والمغرب، وسورية، ولبنان، والعراق، إلا أنه سرعان ما بدأت الحركة التشكيلية العربية في البحث عن ذاتها، والاستقلال عن الوصاية الغربية على الفنون، ومحاولة شقّ طريقها في صياغة هوية للفن تتناغم والروح العربية.
لقد وقع الفن التشكيلي العربي في بداياته في إشكالية كبيرة فرضها النقد الغربي الذي أطلق مصطلح “الفنون التطبيقية” على الفنون العربية والإسلامية، كمحاولة لفرض التصنيفات، وإخراج الإبداع التشكيلي العربي من دائرة الفن التشكيلي، أو “الفن الحديث”. أدت تلك الإشكالية إلى أن يخوض الفنان العربي مجال الفن الحديث في أكثر من اتجاه، رافضًا توجّه الآخر نفيَ الإبداع عن تاريخه من جهة، وباحثًا في مجال اللوحة البصرية الغربية من جهة أخرى.

هذا التناقض يُعدُّ بداية بلورة أزمة الفن التشكيلي في البلاد العربية. فبالرغم من تشكّل مدارس في البلاد العربية ارتبطت بالفن الأيقوني، مثل “مدرسة حلب”، وعلى الرغم من أن العثمانيين طمحوا إلى تقليد الغرب باستخدام الرسامين الغربيين، إلا أن جيل الرواد كان واعيًا بأن في ذلك ابتعادًا بالفن عن روحه العربية، وعن ثقافة الإنسان العربي. لكن التأثر الواضح بالغرب من قبل جيل الرواد الأوائل في الفن التشكيلي العربي، وخاصة أولئك الذين درسوا على أيدي الغربيين، كان ميزة هذا الجيل. يقول أحد الباحثين: “إن نظرة شاملة للطريقة التي أسس من خلالها الغرب لتبعية تشكيلية، بدأها منذ دخوله المنطقة العربية، يؤكد تمامًا التوجيه والتفاهم بين أقطاب الاستعمار على الغزو الفكري المنظّم، والعمل على استلاب روح المفاهيم التي تكوّن الشخصية العربية”.
في المقابل، بدأت مجموعات من الفنانين، وبشكل متزامن، ومن بلدان عربية مختلفة، بمواجهة تلك الأزمات بالعودة إلى الأصالة والاستلهام من التراث العربي. ويعد كل من الخطّ العربي، أو ما يعرف بالحروفية والكتابية، والفن الإسلامي والفنون الشعبية، روافد مهمة للفن التشكيلي العربي، ساعدت على تعريب العمل الفني الحديث في البلاد العربية، واكتسابه لغة محلية تنسجم والثقافة العربية.

النهضة الفنية العربية
لقد شقّت الفنون العربية المعاصرة طريقها خلال القرن العشرين متفاعلةً بشكل كبير مع الأحداث التاريخية التي تمر بها البلاد العربية. ففي مصر، كانت ثورة 1919، وما رافقها من أحداث، وما أحاط بها من مشاعر وطنية، عاملًا مؤثرًا في الفنون التي جسدت الهوية المصرية آنذاك، وحصلت على تقدير الشعب المصري. وكان تمثال “نهضة مصر”، الذي أنجزه محمود مختار عام 1928، بما يحمله من دلالات ومعانٍ ورموز، بمثابة تجسيد حيّ للشعور القومي وللهوية المصرية. فهو يمثل من ناحية تعبيرًا عن يقظة الروح الوطنية في المبدعين، ورغبتهم في التعبير بوسائل الفن عن الانتماء للهوية المصرية، بما تشمله من تاريخ يتمثل في حضارة عريقة، ومن تقاليد وتراث، وتحدٍّ للاستعمار، وحلمٍ بالاستقلال.

تفاعل الفنانون العرب بشكل عام مع القضايا والأحداث السياسية التي مرّ بها العالم العربي خلال القرن العشرين، وحتى الوقت الراهن، ونالت القضية الفلسطينية الاهتمام الكبير من قبل الفنانين الفلسطينيين خاصة، والفنانين العرب عامة. وإبّان العدوان الثلاثي، كانت معركة بورسعيد عام 1956 نقطة تحوّل في تاريخ الفن في مصر، فقد أقيم لأول مرة معرض في حي شعبي في “صيوان” كان الغرض منه أن يشارك الفنانون الشعبَ في مظاهرة لدعم المقاومة. ثم أقامت “جمعية خريجي الفنون الجميلة” معرض الكفاح الشعبي بالتعاون مع الشؤون العامة للقوات المسلحة في محطة بور سعيد، ومعارض أخرى.
وفي الجزائر، ومع اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954 بهدف التحرر من الاستعمار الفرنسي، استلهم الفنانون الجزائريون والعرب مواضيعهم من أحداث الثورة، ومنهم الفنان فارس بوخاتم، الملقّب بفنان الثورة، كونه أشهر الفنانين الملتزمين بقضايا الثورة آنذاك. وبعد إنشاء “الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب”، أقيم في دمشق عام 1972 “المهرجان العربي الأول”، الذي كان موضوعه الفن التشكيلي القومي، وكانت موضوعات الفنانين العرب في المهرجان مستلهمة من القضية الفلسطينية، وحرب التحرير الجزائرية، والعدوان والصمود، ومن موضوعات حول الاستعمار والعنصرية. كما يعد الفن الفلسطيني المعاصر مثالًا بارزًا على ارتباط الفن بالهوية الوطنية، إذ لعب دورًا فعّالًا في إبراز وتمثيل الهوية والقضية الفلسطينيتيْن عربيًا وعالميًا، وفي صياغة خطاب ثقافي ـ سياسي فلسطيني متمايز.

أخيرًا، شغل الفن تاريخيًا دورًا مهمًا في تمثيل الهوية الجمعية للشعوب على اختلاف أزمنته وأمكنته، فهو يعبّر عن الثقافي والديني والسياسي والذاتي والاجتماعي في هوية الفرد والجماعة، ويسعى فوق ذلك إلى الانطلاق من المحلية الضيقة للهوية إلى عالميته وعالميتها، عبر استمرار تأثيره في مختلف الأماكن والعصور. وقد عبّرت رسوم ومنحوتات المصريين القدماء عن مصر القديمة بمجتمعها ومعتقداتها ونظامها السياسي، ولكن ما زال لهذا الفن القديم سحر يتجاوز مصر عبر الأزمنة إلى العالمية. يُساق على ذلك العديد من الأمثلة القديمة والحديثة، من الفنون التي مثلت هوية الشعوب والمجتمعات التي نشأت فيها، لكنها حققت العالمية في ذات الوقت. كما أن ارتباط الفنون بالروح القومية للشعوب، لم يجعل منها أسيرة الموضوع السياسي، أو الوطني، غير أن العلاقة بين الفن والسياسة تبقى ارتباطًا حتميًّا، تولّده الأزمات التاريخية على أنواعها، سياسية كانت، أو اقتصادية، أو اجتماعية.

*أديبة وفنانة فلسطينية

المصدر/ العربي الجديد