بشرى الجرادي
تعد اليمن غنية بمختلف الفنون الشعبية التي تعددت فيها ألوان الغناء بين الصنعاني والتهامي والحضرمي والعدني واللحجي واليافعي والتعزي والمهري والمأربي.
لكل لون ما يميزه ويميز محافظته التي يرتبط بها، سواء بالكلمات التي تغنى بنفس لهجة المحافظة، أو بالفنان الذي تعود أصوله في غالب الأحيان إلى المحافظة ذاتها، أو حتى الآلات الموسيقية المستخدمة، والتي تعبر عن هوية وثقافة البيئة المحيطة، الأمر الذي يجعل من كل ذلك تعبيرًا واضحًا عن ثقافة وموروث محتوى يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأرض.
لكن اسم مأرب دائمًا ما يذكر في وسائل الإعلام المحلية والخارجية مقرونًا بمستجدات المواجهات بين القوات الحكومية ومسلحي جماعة الحوثي (أنصار الله) أو اختلالات أمنية أخرى، وقليلًا ما يتم التعريف بالفن المأربي كموروث شعبي حي.
حسين أحمد قُرَان الممعروف بـ”أبو عسكر”، أحد فناني مأرب، الذي يحاول إبراز الفن المأربي للجمهور، وبجهوده الخاصة استطاع أن يَعبر بالأغنية المأربية من المستويين المحلي والوطني إلى المستوى العربي، ولاسيما الخليجي، على الرغم من قلة الدعم الرسمي.
مبخوت السيفي، مدير البرامج في إذاعة مأرب، يقول: “الأغنية المأربية والفن المأربي مفردة من مفردات الخصوصية المأربية، وهو جزء من الهوية الثقافية لمحافظة مأرب، ويندرج في إطار الهوية الوطنية والفن الغنائي اليمني بشكل عام”.
ويضيف السيفي، أن الأغنية المأربية صورة معبرة عن هوية الإنسان المأربي في أوضح دلالاتها وأوضح معانيها”.
ويتابع: “الفن المأربي يتميز بخصائص مختلفة تميزه عن غيره من أنواع الفنون الأخرى، لأنه يؤدى بأدوات وآلات تعكس الأغنية المأربية، والتي تجعل منه متميزًا ومتفردًا بآلاته وأدائه”.
آلات موسيقية متفردة
الباحث والشاعر مسعد عكيزان، من أبناء محافظة مأرب، يقول: “تتعدد ألوان وأطياف الفنون المأربية، وربما يكون أبرزها الزامل والبالة والمهيد والهجرعة وأغاني الأعراس، وكذلك أغاني العمل كالفلاحين والعمال وأغاني النساء بأنواعها”.
والبالة نوع من أنواع الغناء المأربي، ولها عروض في أدائها بشكل جماعي، حيث يكون هناك صفان متقابلان يرددون البالة، ويتم تبادل الشعر بشكل ارتجالي ليتم الغناء به من قبل الصفين بالتناوب.
بدوره، يقول نصر الأغبس، من أبناء محافظة مأرب، وباحث في الموروث الشعبي، ”: “الفن المأربي يتميز بتنوعه وتعدد أشكاله، فمنه ما يؤدى بصحبة الآلات الموسيقية المعروفة كالعود والإيقاع والدفوف أو الربابة أو المزمار بدرجة أقل، ومنه ما يؤدى بطريقة منفردة كالمسحوب أو ما يعرف محليًا بالهجراع أو المسحوب، بالإضافة إلى “البالة” التي يتم التغني بها بأصوات جماعية كما يحدث في الأعراس”.
ويوضح الأغبس: “هذا الفن ذو طابع بسيط بعيد عن التعقيد، يمكنه أن يصل للمتلقي بشكل مباشر، وعادة ما تمتاز ألحانه بإيقاع خفيف تنطرب له الأسماع، وتصغي له بكل إعجاب”.
ويؤكد أن لمأرب فنها ونغمها الخاص الذي قد يرتبط بطقوس معينة أحيانًا، ما يجعل هذه الطقوس شواهد فنية ملموسة عليه، فتجده يحضر في جوانب ونشاطات الحياة المأربية، كأوقات العمل، وذلك للتحفيز والترويح عن النفس كأعمال البناء والزراعة.
“المهاجل”
تعود بعض أنواع الأغاني في مأرب إلى زمن بعيد. وقد وثقت الذاكرة الكثير من المهاجل والأصوات الغنائية المرتبطة بالأعمال اليومية، ومازالت متداولة حتى اليوم. والمهاجل جمع مهجل، وهي أغنية تؤدى أثناء ممارسة المهام الزراعية أو أي أعمال أخرى. وليس ذلك فقط، وإنما يحضر الفن الغنائي المأربي أيضًا في الكثير من المناسبات الأخرى كالزواج والأعياد والمناسبات الوطنية، للتعبير عن الفرحة والسعادة التي تغمر النفوس، ويرافق تلك الألوان الغنائية الاحتفال والرقص الشعبي المأربي في مختلف مناطق المحافظة، حسب الأغبس.
ويضيف: “لا تخلو أية مناسبة قبلية من حضور لون من الألوان الغنائية فيها كدلالة ثقافية وعادة وتقليد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بأبناء هذه المحافظة”.
حضور وطني وعربي
ينفتح الفنان المأربي على مختلف الألوان الغنائية الأخرى، وتلك من أبرز الصفات التي تميزه، فنجد الكثير من فناني مأرب لديهم جماهيرية ممتدة من اليمن إلى دول الخليج العربي، بسبب مرونتهم الفنية وتوازنهم في تأدية الألوان الغنائية المتنوعة، أمثال علي بن علي فرج المشهور بـ”فتى البوادي” وأبو عكسر.
يتميز الفنان المأربي بقدرته على تأدية مجموعة من الألوان الغنائية، يقول الأغبس، ويضيف: ينبغي على المؤسسات سواء كانت حكومية أو خاصة، أن تتبنى مثل هذه الأعمال الفنية، وتدعم الفنان المأربي حتى يستطيع أن ينقل للآخرين هذا الموروث الفني بشكل أكبر.
قصور في التعريف
الشاعرة المأربية، ريم بحيبح، تحمل أبناء مأرب مسؤولية قصور التعريف بهذا الفن والاهتمام به، فتقول: “إن هذا الغياب للتعريف بالفن المأربي يقع بالدرجة الأولى على عاتق أبناء مأرب أنفسهم الذين لم يعرّفوا الآخرين بهذا الفن وأنواعه وجذوره”.
مدير إذاعة مأرب علي الحواني، يقول إن “الفنان المأربي ظهر في بيئة محافظة، حيث إن المجتمع كان ينظر للغناء كهواية غير محببة، وأن من يمتهنها ينظر إليه بنظرة ازدراء، وهذا ما جعل الكثير من الفنانين يظهرون بأسماء مستعارة، وليس بأسمائهم الحقيقية، خوفًا من استخدام لقب القبيله الذي سيسبب لهم مشاكل”.
ويضيف الحواني: “في الثمانينيات أسهمت بعض التيارات الدينية المتشددة في محاربة الفن والفنانين، إذ إن الفنان كان يمارس هوايته في ظروف وأماكن سرية خوفًا من ردة فعل بعض التيارات المتشددة آنذاك”.
ويوضح أن السبب الرئيسي أيضًا لغياب الفن المأربي، هو أن أشهر الفنانين المأربيين ظهروا في فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك اهتمام بالتوثيق، إضافة إلى أن الإنترنت لم يكن موجودًا في قرى وأرياف محافظة مأرب، بل في المحافظة بشكل عام، وكان الفنان يعتمد في نشر أعماله الفنية بواسطة الكاسيت، إذ كان الكاسيت هو الوسيلة الوحيدة للتوثيق، والكاسيت له عمر افتراضي محدد، فخلال سنوات تنتهي المواد وتضيع.
توثيق الفن المأربي
يقول السيفي إن إذاعة مأرب عملت على حفظ وتوثيق الكثير من أعمال الفنانين المأربيين، وتقوم ببثها بشكل دائم. فمن خلال جدول البث لها برامج منها على سبيل المثال برنامج “وقفة مع فنان” الذي يتحدث عن فنانين مأربيين وبعض أعمالهم. مؤكدًا أن الإذاعة جمعت أغلب الأغاني القديمة من أحد الاستديوهات العريقة، وتقوم ببثها بشكل دائم.
ويشير إلى إنتاج الإذاعة برنامجًا يسمى “الفن المأربي”، كان هدفه إعطاء صورة عن مصادر ومراجع الفن المأربي، بيئته، سماته، ارتباطه بالبيئة، وأثره في الحياة بمختلف مجالاتها، ويسهم في توثيق أدبيات الفن في مأرب كمفردة من مفردات الثقافة المحلية والخصوصية الثقافية، ولتتبع الحركة الفنية في مأرب وربط الماضي منها بالحاضر.
ويقول إن “البرنامج توقف لأسباب أمنية نتيجة هجمات مسلحي جماعة الحوثي على مأرب، ما أجبرنا على توقيفه للاهتمام بقضايا أكثر أهمية”.
وتنوه بحيبح إلى أن الحفاظ على هذا الموروث يكون بإعداد برنامج لإحياء التراث المأربي، وعمل أنشطة وفعاليات ليس في مأرب فقط، بل في مختلف المحافظات اليمنية، يشارك فيها الفنان المأربي، سواء بالغناء أو الشيلات، أو ما يسمى البرع المأربي أو البالة.
نقلاً عن “المشاهد نت”