أمين الزاوي*
بعد 15 قرناً لا يزال بعض المتعصبين يخافون على سلطة الإسلام من سلطة المنحوتات الفنية، يخافون على “الله” من “الأصنام”، كما يطلقون عليهم التي تنتصب في الشوارع والساحات العمومية وأشهر المتاحف العالمية وأروقة الفنون الجميلة! يخافون من أن تزاحم دهشة هذه “التماثيل” الفنية دهشة إيمان الله الذي في قلوبهم!
في الجزائر، أقدم قبل أيام شاب على تخريب تمثال امرأة منصوب وسط مدينة سطيف، 300 كلم شرق الجزائر العاصمة، وهي ليست المرة الأولى التي تتعرض لها هذه المنحوتة الجميلة لاعتداء، فقد حدث ذلك قبل أقل من أربع سنوات وتم ترميمها من قبل المتخصصين.
تم نصب هذه المنحوتة المصنوعة من الرخام وسط ساحة مدنية سطيف نهاية عام 1898 وهي للفنان فرانسيس دو سان فيدال (1840-1900) Francis de Saint-Vidal، ومنذ نصبها وخلال قرن وربع القرن أصبح تمثال المرأة مزار ملايين البشر من كل الأعمار ومن كل المدن الجزائرية ومن الخارج أيضاً، فهو يحمل كثيراً من التفاؤل والسعادة لساكنة المدينة ولزائريها، كل من يدخل مدينة سطيف الجميلة لا يغادرها إلا إذا زار تمثال امرأة عين الفوارة في وسط المدينة وأخذ صورة إلى جانبها.
ومع كل اعتداء على تمثال المرأة يوصف ويقدم المعتدي للعامة على أنه مريض نفسياً أو مختل، ومهما تكن طبيعة خلفية نعت القائم بالاعتداء بمثل ذلك إلا أن كل معتد يرتكب مثل هذا العمل الشنيع هو بالفعل مريض نفسياً حتى لو كان يبدو ظاهرياً بكامل قوته العقلية والإيمانية.
أمام مثل هذا التخريب الشنيع، نتساءل ما الأسباب التي أنتجت مثل هذا المرض النفسي المركب والجماعي الذي يتحول فيه الفرد والجماعة إلى قوة سلبية عنيفة ضد الفن والجمال وضد حضور المرأة بالأساس؟
المدرسة فضاء لتفريخ فيروس معاداة الفن
إن ما تعرفه البرامج المدرسية من فراغ في التربية الفنية الحرة والمحررة من الفن التشكيلي والموسيقى والمسرح والغناء والرقص، بل ما تعرفه المدرسة من عداء واضح وعلني لمثل هذه النشاطات الأساسية التي تنتج إنساناً مستقبلياً سوياً، هو الذي يجعل المجتمع عنيفاً يكره الجمال ويحاربه، ولا يفرق بين القطعة الجمالية والواقع بحرفيته. فهذا الشاب الذي قام بهذا العمل التخريبي ضد تمثال امرأة عين الفوارة هو عينة من نتاج المدرسة الجزائرية، ففعله العنيف دليل على أن الشباب يعاني فقراً ثقافياً وفنياً وغياب الحس النقدي الذي يفرق بين امرأة من رخام وامرأة من لحم ودم.
إن المدرسة التي لا تعلم الفن والنقد، الجمال والعقل، هي مدرسة لتخريج أعداء الحياة، وأعداء فلسفة العيش المشترك مع الآخر الذي نتقاسم وإياه هذا الكوكب العامر بالثقافات والمعتقدات واللغات والحساسيات والتوجهات المختلفة والمتكاملة.
الفن والنقد، العقل والجمال هي الثنائية التي تحمي الإنسان من التوحش والتعصب والانتحار المتعدد. وكل مدرسة تخلو من تربية فنية وعقلية تصبح خطراً على المجتمع والعالم برمته، هي عبارة عن مصنع لإنتاج قنابل بشرية موقوتة قابلة للانفجار في أي مكان وفي أي زمان.
إن الجمال مزروع في كل مكان وفي كل الأشياء التي تحيط بنا من شجر وطير وأصوات وعمارة وبشر وليل ونهار ونجوم، لكن لا يرى هذا الجمال إلا من كانت عينه وداخله قد تربيا على قيم الجميل.
التفسير الديني للإبداع
قال القاضي الجرجاني (933-1001) في كتابه “الوساطة بين المتنبي وخصومه”، “إذا دخل الشعر في الدين فسد”، فالدين، أي دين كان، هو قوة روحية إيجابية وهو لا يشكل أي خلل في حياة الفرد أو الجماعة حين يظل في إطاره القيمي الروحي المرتبط بالحرية الشخصية للفرد التي هي قيمة كبرى وأساسية في الحياة، والدين، أي دين كان، يظل إيجابياً حين لا يتدخل في مجالات الحياة الأخرى كالسياسة والأدب والفنون، فلو أنزلنا أحكام الفقه على الأدب والفنون لأعدمنا كنوزاً إنسانية كثيرة من رسومات بيكاسو ومايكل أنجلو وسلفادور دالي والسيوطي والنفزاوي وهنري ميللر وموسيقى الراي وغيرها، وكلما دخل الدين في السياسة برزت ظاهرة التكفير وانقسم المجتمع فرقاً متصارعة وتناحر المؤمنون بالدين نفسه لا لشيء إلا لأن بعضهم قد يختلف عن الآخر في طريقة إدارة الشأن العام.
والشاب الذي أقدم على فعل تخريب تمثال امرأة عين الفوارة بمدينة سطيف ضحية دخول وتدخل الدين في الفن، وضحية مدرسة لا تحترم في برامجها تدريس التربية الفنية بل تحاربها في كثير من الأحيان.
ظل هذا التمثال منصوباً ما يزيد على نصف قرن من الاستقلال في هذه الساحة العمومية البديعة مقابل المسجد العتيق الذي أسس عام 1848 الذي هو أيضاً فخر أهل سطيف وواحد من علامات المدينة المقاومة للاستعمار، المدينة التي عرفت تظاهرات 8 مايو (أيار) 1945 التاريخية التي تعد الانطلاقة الفعلية لثورة التحرير التي اندلعت في فاتح نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، وعلى مدى أزيد من نصف قرن كان الجزائريون جميعاً بأسرهم يزورون تمثال المرأة ويتنزهون في ساحته ويرتوون من ماء العين ويلتقطون صوراً عائلية جماعية الأب والابن والأم والزوجة والأخت ولا أحد ينظر إلى المرأة التمثال كحالة خارجة عن إطارها الفني والثقافي، يؤدي المؤمن صلاته في الجامع العتيق ثم يخرج ليجلس قبالة المرأة التمثال من دون حرج أو مرض نفسي أو سوء تفسير، وظل السطايفيون يفتخرون بجامعهم العتيق كما يفتخرون بتمثال امرأة عين الفوارة على حد سواء، وكل واحد في مقامه، إلى أن هبت ريح الإسلام السياسي المتطرف وكثر الدعاة وعلت أصوات التعصب فولد جراء هذه الحملة جيل يعاني أمراض العنف ومعاداة الجمال الفني وأصبح تمثال المرأة مثار الجدل والفتاوى والتخريب.
الهوس الجنسي
على المستوى الاجتماعي، فقراءة معمقة لآثار ظاهرة الاعتداء على التمثال من خلال تفحص وتفكيك آلاف التعليقات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي تعقيباً على خبر حدث التخريب الذي تعرض له جسد تمثال المرأة ومس بالأساس أعضاءها الحميمة، نكتشف وبشكل جلي أن هناك كبتاً وهوساً جنسيين جماعيين يعانيهما جيل أو أكثر، ويتم التنفيس عن هذه الحالة المرضية العسيرة من خلال الدين تارة أو السكر ثانياً.
حين تتفشى البطالة ويغرق المجتمع في معادلة “الحلال والحرام” و”يجوز ولا يجوز”، وينغلق المجتمع على نفسه، وتغيب فضاءات الثقافة والفنون كالمسرح والسينما والموسيقى والكتاب والفن التشكيلي أو تصبح مؤسسات للبروباغندا السياسية، وتنتفي أيضاً وسائل الترفيه العامة يصبح المجتمع متطرفاً، وأولى ضحايا هذا العنف هي المرأة وما يرمز إليها.
*كاتب وروائي جزائري