تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » عبقرية أم كلثوم “كوكب الشرق”

عبقرية أم كلثوم “كوكب الشرق”

عبقرية أم كلثوم "كوكب الشرق"

 

فادي وقية
لا شك في أن صوت أم كلثوم هو صوت مميز، ليس فقط في مجتمعنا الشرقي بكل ما يتحلى به من جمال، وفن، وعراقة في الغناء، وخاصة الموسيقى، فإننا لدينا في موسيقانا الشرقية أوزاناً وأنغاماً واسماً خاصاً يُدعى الموسيقا الشرقية، وهي عظيمة بالفعل، وأم كلثوم هي بجدارة أكثر من ابدع في تأدية كلمات الشعراء على الأنغام الشرقية، وشعرُنا الذي تحلّيه لغتنا العربية بكثير من الجمال، فإن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي نجد فيها علوماً للشعر والقوافي والأنغام، فكانت أم كلثوم أكثر من برع في دمج جمال اللغة بالموسيقى في صوت رائع غير مسبوق على آذان السامعين في هذا العهد.

وإنني أزعم أننا غير محتاجين لكي نسمع شهادة أحد في وصف هذا الصوت، فبمجرد سماعه فقط تتأكد لك فكرة أن هذا الصوت عظيم.

ومن حبي لهذا الصوت الرائع ظللت أتأمل ما الذي يجعل أغنية من أغاني أم كلثوم ينتظرها المستمعون، وتطرب آذان المستمعين في المستقبل، وهذا بعد أن سمعتُ لكثيرين من جيل أم كلثوم، فوجدت أن الأصوات الجميلة كثيرة، ولكن ما الذي يجعل هذه المرأة الأجمل وسط كل هذا؟ حتى وجدت الإجابة أو جزءاً منها على الأقل، فإن السبب في أن أم كلثوم هي ظاهرة فنية عملاقة، هي إبداع الصوت وتميزه والذي لا يختلف عليه الناس في عصرها أو حتى الآن، وثاني الأسباب أسباب شخصية، فأم كلثوم القوية والذكية التي جاءت من صعيد مصر لتتفوق على كل مغني جيلها.

ولكي تفهم أكثر دعني أبدا من البداية في صعيد مصر، كان الفن قبل أم كلثوم في حالة يرثى لها حيث الاحتلال في كل بقاع العالم العربي، وكان الفن الأجنبي الهزيل في مصر متحدياً للتراث الفني والغنائي، فكان الفن في الغرب يميل إلى إثارة الغرائز الجنسية، وأما التراث العربي القديم الذي كان في حالة جمود فكان عبارة عن الأناشيد الدينية القديمة والملاحم الشعبية والموسيقا الدينية الصوفية علاوة على القرآن، وفي هذا الجو الفني المضمر في السنبلاوين ولدت أم كلثوم التي تشاء الأقدار أن يخرج من صعيد مصر الفنانة التي ستغير كل هذا في المستقبل البعيد فكانت في فرقة أبيها التي تلف القرى تنشد الأناشيد الدينية.

ومن صغرها حفظت القرآن الذي ساعدها على إتقان اللغة العربية، والذي كان واضحاً كل الوضوح في غنائها، فكانت كل كلمة تخرج من فمها صحيحة واضحة مفهومة، لم تقل كلمة في أغانيها والجمهور لم يفهمها بسبب عثرة في النطق، وهذا ما قاله الملحن الكبير محمد عبد الوهاب: “تسمع منها كل لفظ بإتقان يخرج من فمها”.

وكما أجمع الملحنون الذين لحنوا لها أنها تستطيع التنقل بين مقامات بكل سهولة، ويسر حتى اشتد عليها المرض في آخر أيامها، فاضطر محمد عبد الوهاب إلى مراعاة هذا، فكان يكتب لها جملاً موسيقية في حدود صوتها التي تستطيع الغناء به، وقال عنها أحد العازفين خلفها، كانت الست تبلغ ستين عاماً واقفة أمام الناس تغني وتنسى الكلام، فيصفقوا لها كثيراً، فتتذكر، ثم يصفقوا فتسكت، يصفقون فتتكلم، ثم يصفقون، وهذا مستوى من الحب لم يصل إليه أي مغنٍ أو فنان سوى أم كلثوم.

وكل ما أستطيع أن اقول لك عن روعة صوت أم كلثوم أنني وأنا أسمع صوتها أشعر بأنها (ماكينة) صممت وصنعت خصيصاً للغناء حيث أنّ كل احرف الأغنية تخرج مضبوطة، وكل الجمل اللحنية تخرج منضبطة من فمها، وسأترك لكم الحكم بنفسكم بعد سماع الأطلال، وهي كما عرفت، هذه الأغنية تاج الغناء العربي، وهجرتك، وألف ليلة وليلة، ودارت الأيام، وغيرها من الأغاني التي تجلى فيها الإبداع الموسيقي والشعري والغنائي علي آخره.

وثاني ما يجعل أم كلثوم موهبة غنائية غير مسبوق لها هو كمّ الموهوبين والعباقرة في مجالاتهم الذين تعاملوا وعملوا مع أم كلثوم، فكان أكبر الكتّاب طموحه أن تصل أشعاره إلى الست وألحانها، فإذا أخذنا بعض النماذج من أغانيها تجد اجتماع العباقرة في أغانيها مثل: الأطلال للمؤلف إبراهيم ناجي، والملحن العبقري رياض السنباطي، وأحمد رامي الذي ألّف لها العديد من أغاني الغرام، وكانت لها بينهم قصصاً تُحكى في كتب وتُدرّس، ومحمد عبد الوهاب لحّن لها العديد، وكان من أصدقائها المقربين والذي يعد واحداً من عباقرة الموسيقى الحديثة في الوطن العربي، وقد غنّت لأمير الشعراء أحمد شوقي، وآخر الملحنين بليغ حمدي مبدع الموسيقى الذي اختارته الست ليكون الملحن لها، لكي تغنّي على الطريقة الحديثة لتواكب عصر الشباب الحديث، ولا أحد يختلف في إبداعه لها في أغنية ألف ليلة، كل هذه الأسماء وغيرها لم تجتمع إلا تحت راية غنائية تُدعى أم كلثوم، وإذا لم تفهم فيكفي أن أقول لك أنه لا يكفي كل واحد من الذين ذكرتهم لكي تعرف مدى قيمتهم الحقيقية مني مقالاً أو لنقل كتاباً أو أكثر لشرح مدى إبداعهم.

ومن العوامل أيضاً التي ساعدت على وجود عبقرية أم كلثوم هي صلتها بالدولة والحكام، وأذكر أنني سمعت عن أغنية طلب الرئيس جمال عبد الناصر رئيس مصر بعد ثورة 1952 أن تكتب وتلحن، وكانت تغني للرؤساء وزعماء العرب في هذه الحقبة العصيبة في تاريخ العرب، وكانت توصل الرسائل للشعوب من أغانيها وتحضّهم ضد الاحتلال، مما جعل لها أهمية سياسية كبيرة، والتي كان لها الكثير من المواقف السياسية حيث كانت تعطي مال حفلاتها للجيش المصري بعد هزيمة 1967م لإعادة تسليح وبناء الجيش المصري، ولها العديد من اللقاءات والمحادثات والصور مع زعماء العرب مع الشيخ زايد، والرئيس جمال، والملك فيصل، وياسر عرفات، والسادات، وتظهر أهميتها للشعوب العربية عندما زارت الأردن، فوقف الشعب الأردني أمام المطار في جو ممطر وبرد منتظرين وصول أم كلثوم، وهذا ما تكلمت عنه أم كلثوم نفسها، ووصفته بالشعور الجميل من الشعب الأردني تجاه فنان مصري، ويمكنني أن أشهد لكم هنا بجملة لست أعرف مدى صحتها قالها اليهود: إن المصريين يفطرون على الفول، ويتعشون بأغنية أم كلثوم.

وفضلاً عن ذلك كانت شخصية شعبية، وكما قلت كانت صوت الشعب المصري، وكان لها صلة كبيرة بأدباء وكتاب هذا العصر، ولها موقف مضحك مع توفيق الحكيم يحكيه هو في دقائق، ولها صلة كبيرة بالفنانين، وشاركت في التمثيل في فيلمين.

يقول عنها الأستاذ عميد المسرح العربي يوسف وهبي: إن أم كلثوم موهبة تأتي على الكوكب كل ألف سنة، وإنها صعبة التكرار كما كانت نقيبة الموسيقيين في مصر، ويشهد على شعبيتها العدد الكبير الذي كان يحضر حفلاتها بانتظام.

كثير من الأشياء جعلت أم كلثوم مغنية غير عادية، ولكن أهم الأسباب هي أنها كانت فنانة وإنسانة.