قليلة هي الفرق الموسيقية السورية التي استمرت في مسيرتها الفنية بعد اندلاع الحرب، فمنذ مارس (آذار) 2011 شهدت البلاد ما يشبه نزوحاً كبيراً بين صفوف التجمعات الموسيقية نحو الخارج، وكانت على رأسها فرقة “مقام” لمؤسستها ماريا أرناؤوط، وفرقة “حرارة عالية” لمؤسسها معن خليفة، وفرقة “كلنا سوا” لمؤسسها إياد الريماوي، لكن بعض الفرق الموسيقية عملت على ترميم كوادرها، وكانت فرقة “التخت الشرقي النسائي السوري” في مقدم تلك التجمعات التي حرصت على استمرارية أنشطتها داخل البلاد وخارجها، وأكملت مسارها الفني الذي امتد منذ تأسيسها عام 2003 وهي مستمرة في أنشطتها حتى اليوم.
وتشكلت الفرقة النسائية من خريجات وطالبات من المعهد العالي للموسيقى في دمشق، وعني هذا التجمع الفني النسائي بتقديم الموسيقى الآلية والغنائية معاً، والتعريف بالتراث السوري وشتى قوالب الغناء والموسيقى الشرقية العربية، إذ تألفت في البدايات من ثماني عازفات، وهن ديمة موازيني (قانون) ورزان قصار (كمان) وميرفت رافع (مزهر) ووفاء سفر (ناي) ورحاب عازر (عود) وهديل ميرخان (تشيللو) ورغد حداد (فيولا) وسناء وهبة (كونترباص) وخصاب خالد (رق)، إضافة إلى مشاركة العديد من المغنيات السوريات من مثل وعد بوحسون ورشا رزق وليندا بيطار وريم رافع وهمسة منيف وأخريات.
الفولكلور والطرب
اشتغلت “التخت الشرقي النسائي” أيضاً على الفلكلور والطرب الشعبيين، إضافة إلى موشحات سيد درويش وصباح فخري وآخرين، وذلك لتأصيل الغناء والعزف النسائيين، معتمدات في ذلك على حساسية المرأة الأم إزاء ما حدث من قتل عبثي وتهجير لآلاف العائلات السورية، إذ يعتبرن أعضاء هذه الفرقة بمثابة رحم لحماية ما تبقى من تراث العائلة السورية الهائمة على وجهها في مشارق الأرض ومغاربها.
وأحيت فرقة “التخت الشرقي النسائي السوري” حفلات عدة على أهم المسارح السورية والعربية، وكانت لها مجموعة من المشاركات الموسيقية في مناسبات متنوعة، ومثلت الفن السوري في التظاهرات والأسابيع الثقافية والمؤتمرات في كل من هولندا واليونان والصين وألمانيا وإيطاليا والبحرين وغيرها، وقدمت الفرقة النسائية عدداً من الأمسيات التي كانت بمثابة تكريم لمغنيات ومطربات عربيات كان أبرزها أمسيات لتكريم كل من سعاد محمد ووردة الجزائرية وميادة الحناوي، وجاءت هذه الحفلات تلبية لمبادرة من مجموعة أكاديميات سوريات آثرن الاحتفاء بأصوات نسائية عربية لطالما شكلن أيقونة معاصرة في الغناء النسائي المشرقي.
فكرة تأسيس أول فرقة موسيقية للفتيات في الشرق الأوسط تحيلنا إلى حقبة قديمة في الزمن، ففي الألف الثاني ما قبل الميلاد وتحديداً في مملكة ماري، درة نهر الفرات، نبتت البذرة الأولى للتجمعات النسائية الفنية في الشرق، وكان ذلك في الأجنحة التي كانت مخصصة لنساء الملك زمري ليم (1760 ق. م) واللاتي كن يتدربن على تعلم العزف على الآلات الموسيقية بإشراف الملكة شيبتو الزوجة الثالثة للملك، والتي كانت تدير شؤون القصر وتختار من جواري الملك زمري ليم من هن مناسبات للعزف والغناء على آلة موسيقية، تماماً كما هو الحال مع فرقة “ماري” لمؤسسها المؤلف الموسيقي العراقي المقيم في سورية رعد خلف الذي جعل كل فرقته من العازفات النساء.
تاريخ موسيقي
المؤلف الموسيقي نزيه أسعد يخبرنا أن التاريخ عرف عدداً من التجمعات النسائية الموسيقية بداية من العصر الجاهلي، إذ كان كل من طويس ونشيط الفارسي يشجعون الجواري على العزف والرقص والغناء في شكل ثنائيات وثلاثيات، وفيما بعد وخلال العصرين الراشدي والأموي وبعدهما العباسي، كانت هناك مجالات واسعة لإبداع الموسيقى والغناء، ولكن الغناء كان أكثر حضوراً من الموسيقى، وذلك لكون الموسيقى العربية والشرقية هي موسيقى غنائية ترتبط بالشعر العربي.
وبلغت التجمعات الموسيقية النسائية في العصر العباسي ذروتها عندما بدأ العباسيون يشجعون النساء على تلك التجمعات وتلك الفرق، وكن من أبرز مغنياتها كل من عزة الميلاء ورائقة وشيرين، وكانوا يسمون بـ “الكرينة” وهي الكران أي العود، و”الكرينة” هي عازفة العود والمغنية في آن واحد، فكانت عزة الميلاء وشيرين ورائقة يعملن ضمن هذه الحال المنسجمة ما بين بعضهن”، يوضح المايسترو نزيه أسعد.
ويضيف، “العصر العباسي كان عصراً ذهبياً بامتياز قضى على كثير من الأفكار والمعتقدات التي تمنع المرأة من الخوض في الحياة العامة، ولذلك كسر ذلك الحاجز، وبدأت النساء والفتيات يتعلمن الموسيقى والغناء في ذلك العصر، فانطلقت فكرة العزف الجماعي ضمن التخت الشرقي، وهو عبارة عن مكان مرتفع أمام الجمهور يجلس عليه العازفون أو العازفات (ناي، قانون، عود) من أجل أداء موسيقي جماعي لإيصال لحن واحد منفرد (ميلودي) من دون توزيع أوركسترالي أو موسيقي”.
شغف جماعي
مديرة الفرقة وعازفة القانون فيها الفنانة ديمة موازيني تقول عن تجربتها مع “التخت الشرقي النسائي السوري”، “اخترت آلة القانون على رغم أنها آلة اشتهرت من خلال عازفين رجال، وأحببت هذه الآلة منذ أن تعرفت عليها على يد الفنان الراحل حميد البصري مؤسس “فرقة الطريق العراقية”، وكان لدي شغف كبير بآلتي وحزت جوائز عالمية عدة منها الجائزة العالمية في كازاخستان”.
وتتابع أستاذة القانون في العهد العربي للموسيقى، “دائماً كان لدي شغف لتقديم موسيقى بإحساس أنثوي، موسيقى راقية ومن الزمن الجميل الطربي بطريقة نثبت فيها لأنفسنا ولكل امرأة عربية أننا كنساء نستطيع إعطاء التفاؤل لبنات جنسنا، وتقديم الموسيقى الطربية من أغنيات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وغيرها من ألحان الموجي والسنباطي وبليغ حمدي وكبار المؤلفين العرب، والإضاءة أيضاً على المقطوعات الآلية الشرقية لأننا فرقة آلية غنائية، وكان لابد من أن نقدم المقطوعات الآلية من سماعي ولونغا وبشرف وتحميل، وذلك كي نثبت أننا لسنا فقط فرقة نسائية لمجرد الحضور النسائي فيها، ولكن نحن كعازفات خريجات أو طالبات في المعهد العالي للموسيقى، نمتلك المستوى التقني لأداء أصعب المقطوعات الموسيقية الآلية، مما جعل كثيراً ممن كان يأتي لحضور حفلاتنا يظن من اسم الفرقة أننا فرقة تجارية وذلك لكوننا جميعاً من النساء، إلا أنهم كانوا سرعان ما يفاجئهم مستوى البرنامج الفني الذي نقدمه، والذي يضم أهم القوالب الشرقية الموسيقية، إضافة للأغنيات الطربية الصعبة”.
أبرز المقطوعات الآلية التي حملت أسماء نسائية من مثل مقطوعة “أمل” لعزيز شرارة، ومقطوعة “ليلى” لمحمد عبدالوهاب قدمتها فرقة “التخت الشرقي النسائي السوري”، كما ألفت رئيستها ديمة موازيني مقطوعة بعنوان “الفارابي – روح امرأة” وقدمتها مع أعضاء الفرقة في أكثر من حفلة دولية، لكن التحديات التي واجهت نساء التخت الشرقي السوري كثيرة، توضح ديمة موازيني مجدداً أن “التحدي الأبرز لنا كنساء عازفات ومغنيات كان هو الاستمرار في تقديم مستوى فني عال، وأن نقدم برامج فنية لافتة مع كل حفلة، وأن نختار مقطوعات موسيقية فيها مقدمات مهمة، لكن الحرب والأوضاع الأمنية كانت تجبرنا على التوقف عن التدريبات وتقديم الحفلات، ولكننا دائماً كنا مصرات على إتمام المسيرة بعد كل توقف والعودة بسوية عالية، فكانت حفلاتنا في دار الأوبرا السورية شاهداً على ذلك، وكنا أول فرقة تعزف في دار أوبرا سلطنة عُمان، وعزفنا في معظم البلدان العربية والغربية، ونحن فخورات أننا تمكنا من تقديم فننا السوري على مسارح ألمانيا وإيطاليا والصين، وكان لدينا تحد دائم وخصوصاً في البلدان الغربية التي كان لدى جمهورها تصور مسبق بأن المرأة العربية هي امرأة مضطهدة ومحجور عليها ذكورياً، مما جعل الجمهور الغربي يستغرب وجود نساء عربيات من سورية منفتحات ثقافياً ويقدمن سوية عالية من الفن”.
وتحتفل فرقة التخت النسائي الشرقي سنوياً بيوم المرأة العالمي، فالفرقة كانت من أوائل الفرق التي كان لها حضورها في هذا اليوم في دار الأوبرا السورية وفي المسارح والأماكن الأثرية السورية مثل قصر العظم ومكتب عنبر والمتحف الوطني، إذ اشتهرت الفرقة بزيها الشرقي الذي تلبسه عازفاتها ومغنياتها، ويستمد تصميمه من ألوان ترابية كدلالة على الأصالة والتمسك بالأرض الأم الأولى، بحيث جعل هذا التصميم هوية بصرية للفرقة وحضوراً خاصاً في مهرجانات الموسيقى العالمية، وهذا ما توضحه رزان قصار عازفة الكمان في الفرقة إذ تقول، “انضممت إلى فرقة ’التخت الشرقي النسائي‘ منذ تأسيسها بمبادرة من الدكتور نبيل اللو، وكنت وقتها لا أزال طالبة في المعهد العالي للموسيقى، لكن الموسيقى الشرقية لم تكن هي دراستي الأساس، بل كانت شغفي الخاص فبدأت أستمع إلى موسيقانا المحلية عبر التراتيل السريانية في الكنيسة”.
وبسبب ظروف البلاد اضطرت بعض العازفات إلى الهجرة، ولكن الفرقة كانت دائماً تعمل على تجديد أعضائها، كما توضح رزان قصار وتضيف، “بعد سفر المغنية وعازفة العود وعد بوحسون حلت بدلاً منها العازفة رحاب عازار، ثم سافرت لتنضم إلينا بدلاً منها مغنية الأوبرا وعازفة العود عفاف حذيفة، ويحزنني أن رفيقاتي يتغيرن دائماً لكن ظروفنا الصعبة في سورية تدفعنا إلى مغادرة البلاد، والبحث عن آفاق جديدة للعمل في الخارج، لكنني في الوقت الذي أشعر فيه بالحزن لخسارة بعض عازفات الفرقة بسبب سفرهن، أرى الجانب الإيجابي أننا في أية لحظة كنا نستطيع أن نرمم النقص الحاصل، فيمكن أن نجد عازفة ناي أو قانون أو عود، ومع أن الفترة التي سبقت الحرب كانت فترة رخاء إلا أنه لم يكن هناك تلك الحال الفنية المنتشرة كما هي الحال الآن وذلك كي تؤسس لجيل من الفنانين، والمفارقة أنه في الحرب وبعد كل الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد ستلاحظ وجود العديد من الخامات والمواهب والطاقات الفنية الموجودة، لا سيما بين صفوف النساء السوريات”.
نقلاً عن موقع “اندبندنت عربية”