تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » أسماك ماتيس وزهور فان غوخ: أشياء تكررت في اللوحات

أسماك ماتيس وزهور فان غوخ: أشياء تكررت في اللوحات

أسماك ماتيس وزهور فان غوخ: أشياء تكررت في اللوحات

 

تغريد عبدالعال*
هل لها قصة؟ تلك الأشياء التي تتكرر في اللوحات حتى تبدو وكأن الفنان مغرم فيها، أو أنه يظل يكررها لأنها أصبحت جزءًا من عالمه الفني، ومن عالمه الإبداعي.
هنا، محاولة للبحث عن جذور تلك الأشياء في الفنون، وربما ربطها بكلمات، أو رموز، أو ثيمات نكررها في الأدب، فنسأل: لماذا نكرر أشياء ما؟ هل لكي تصبح جزءًا من بيت الكاتب، أو الفنان، وروحه؟ ربما يستطيع عالم الفن أن يجيبنا عن ذلك. لقد أصبح من المثير أن تصبح تلك الأشياء وكأنها مدخل إلى عالم الفنان، وجزء من فهم عوالمه الفنية، أو ربما مدخلًا لحياته الشخصية.

أضفى حضور الأسماك في لوحات هنري ماتيس نوعًا من الهدوء في ألوانه، وبقيت معظم لوحاته تحتضن تلك الأسماك الحمراء والذهبية، إما يضعها في أكواريوم، كما في أغلب لوحاته، أو تكون سابحة في ألوان اللوحة. هذه الأسماك التي ظهرت في حوالي عشر لوحات من أعماله هي جزء من نظرة ماتيس للفن، فبعد زيارته لطنجة في المغرب، لاحظ ماتيس طريقة حياة المغاربة. كانوا يتأملون أحواض الماء وفي داخلها الأسماك. فأصبحت هذه الأسماك بالنسبة له مجازًا عن حياة المغاربة، فصار رسمها تأملًا بالنسبة له، ربما تعطيه سلامًا داخليًا وإحساسًا بالهدوء، فكتب مرة يقول عن الفن: “فن للتوازن، والنقاء من دون إزعاج أو كآبة، فن ربما يهدئ القلب والروح، شيء ما يشبه يد الكرسي لكي نستريح بعد التعب”. ربما يتقاطع معنى ماتيس للأسماك الذهبية مع معناها أيضًا في التقاليد الأوروبية، فقد كانت تعني الحظ الجيد، وهنالك كثير من القصص الشعبية التي تحكي عن النظر إليها على أنها تحقق الأحلام.

أما بالنسبة لأزهار فان غوخ التي كان مولعًا فيها، فلها حكاية أخرى، فقد كان فنسنت يرسمها دائمًا وكأنها الضوء الذي كان يفتقد إليه في حياته المعذبة كثيرًا. قال لأخيه ثيو، الذي كان يعمل في الفنون، بأنه حين رأى زهرة عباد الشمس على نافذته تأثر كثيرًا، وألهمته ليرسم مجموعة كاملة عام 1887. لكن هنالك حادثة أخرى قد تكون سببًا لحب فان غوخ لهذه الأزهار. في شتاء 1888، كان فان غوخ والفنان بول غوغان يعيشان لأسابيع في بيت أصفر في آرلز في جنوب فرنسا. هذه الأيام التي جمعتهما، حوّلت الإعجاب المتبادل إلى صداقة من نوع آخر. في تلك الأيام، عاد فان غوخ ليرسم أزهار عباد الشمس، ويزين بها غرفة صديقه. بالنسبة لفان غوخ، كانت هذه الزهرة رمزًا لمراحل الحياة، بالرغم من أنها تتفتح عندما تلقي الشمس عليها أشعتها، فهي تذبل بأناقة وجمال أيضًا. كان فان غوخ يختبر الألوان وهو يبتكر ذلك الأصفر الأقرب إلى الضوء، فجعلها وكأنها مصدره الوحيد للأمان، وقال مرة عنها إنها تعني له الامتنان.

قال غوغان مرة عن زهور عباد الشمس إنها توقيع فنسنت فان غوخ. وفي رسالة أخرى إلى أخيه ثيو، يقول فان غوخ: كانت زهرة عباد الشمس بالنسبة لي هي الامتنان، وفي جنازة فان غوخ حمل إخوته في أيديهم باقات من هذه الزهرة. تبدو زهرة فان غوخ في كل لوحة مختلفة، فهي إما في مزهرية، أو على الأرض، أو مبعثرة، أو ذابلة، فتبدو وكأنها ملامح لذلك الأمل الذي كان يبحث عنه هذا الفنان خلال حياته. فهل كانت تلك الزهور التي تتكرر موسيقى لها إيقاع خاص لا يمكن تجنب تكرارها؟

قد يجيبنا الفنان بول كلي عن ذلك، وهو المولع بالأشكال الهندسية والأقمار والشموس. كان كلي، مثل كاندينسكي، وميرو، يحب تلك العوالم الطفولية التي توصف بالبراءة أحيانًا، لكن في كل تلك الأشكال كان كلي يضيف الأقمار. ففي معظم لوحاته يتوسط ذلك القمر اللوحة. قد يكون هذا القمر جزءًا من عالم كلي الطفولي، وحبه للهندسة والفلك. كتب كلي عام 1920: “أنا أرسم الواقع اللامرئي، والعالم المرئي هو في عالم معزول. وهنالك أكثر من واقع على الأرض”. كانت تلك الأقمار، إذًا، مجازًا لفلسفة كلي تجاه ذلك العالم الذي لا نراه، لكننا نلمسه كواقع مواز. ولذلك كرره كلي في كل لوحاته تقريبًا، ونقرأ ذلك أيضًا في عناوين تلك اللوحات: شمس وقمر، نار أثناء القمر الكامل، لعبة القمر، قطة تتطلع إلى القمر، القلعة والشمس، شروق القمر، قمر كامل.

هنالك قليل من الفنانين الذين لم تتكرر أشياء في عالمهم الفني، فتكرار الأشياء أسلوب يجعل اللوحات تتحدث لغة واحدة. والفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو مثلًا كان مولعًا بالأجسام البدينة، أو المتضخمة، حتى أصبح أسلوبه يدعى بالبوتيرزمو، وبدا ذلك وكأنه جزء من أسلوبه الخاص. كان بوتيرو يقول إنه لا يرسم هذه الأجسام البدينة، بل هو يرسم “الحجم”، وإحساس “الشكل”. فهو ليس مغرمًا بالنساء البدينات، كما قال يومًا في إحدى مقابلاته، لأنه لم يرسم الناس فقط بهذا الحجم، بل الحيوانات، والطبيعة الصامتة، أيضًا. كأنه يدخل العالم إلى مختبره الشخصي ليجعلنا نراه متضخمًا، كما يراه. ولا أنسى أيضًا ولع مارغريت بالمرايا والنوافذ، لأنه كان مأخوذًا بالبصر، وأوهام النظر إلى الأشياء، وكذلك ولع إدوارد هوبر بالضوء والظل والعزلة وتصوير المكان من الداخل.

تأخذني هذه التأملات لأتأمل كثيرًا من اللوحات المعاصرة في الفن العربي والفلسطيني، ربما تشكل نافذة للدخول إلى عالم الفنان وخصوصيته. أحيانًا تكون شجرة الزيتون حاضرة كثيرًا لتعكس عالمًا خاصًا بها، كما في اللوحات الفلسطينية، وأحيانًا تحتل المرأة مكانة مهمة في هذه اللوحات، وأحيانًا يتكرر لون ما، كاللون الأخضر، وكأنه مجاز عن الحقول الواسعة. أسأل هنا سؤالًا آخر ذا خصوصية أخرى: هل يستطيع الفنان أن يخرج أحيانًا عن عوالم لوحاته؟ ربما هنالك من رسموا لوحات مختلفة، وكأنها لفنان آخر، ولكن يبقى هناك توقيع خفي للفنان؛ فان غوخ رسم مجموعة بلا زهور عباد الشمس، كما رسم غوستاف كليمت لوحات من دون ذلك اللون الذهبي الذي يملأ به لوحاته. هنالك في حياة بيكاسو مرحلة اسمها “المرحلة الزرقاء”، رسم فيها بيكاسو لوحات كثيرة فقط باللون الأزرق. وهناك أيضًا كثير من الفنانين الذين بدأوا برسم انطباعي، لينتهوا بالتجريد، وكأنه المحطة الأخيرة في عالمهم الذي مرّ بكثير من المراحل.
تبقى تلك الأسئلة مفتوحة أيضًا على الأدب، والتجريب، والانتقال من مكان إلى آخر، لغويًا وفنيًا.

*كاتبة وشاعرة فلسطينية