تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الخطّ العربي: هويّة الفنّان العربيّ في منفاه

الخطّ العربي: هويّة الفنّان العربيّ في منفاه

الخطّ العربي: هويّة الفنّان العربيّ في منفاه

 

أشرف الحساني*

انضمّ الخطّ العربي مؤخراً إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي، كاعترافٍ ضمني بأهميّة الخطّ العربيّ ودوره التاريخيّ، بوصفه نسقًا فنّيًا وعنصرًا بصريًا استند عليه الكثير من الفنانين في العالم لقرونٍ طويلةٍ، وذلك من أجل اجتراح أفقٍ جديدٍ لمَشاريعهم الفنّية داخل العمارة والتشكيل والفوتوغرافيا والبرفورمانس والنحت والجداريات. ورغم تأخّر “منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة” بإدراج الخطّ ضمن التراث اللامادي، بدت سيرة وجماليّات هذا اللون الفنّي العربي الإسلامي، تتجاوز حدود المُمكن، حيث خطّ لها مسارًا مُغايرًا في خطاب الفنون البصريّة القديمة منها والحديثة، بطريقة تجعل الخطّ العربي غير مُهتمٍ بشهادة المؤسّسة العلمية، في وقتٍ عَبَرَت فيه جماليّاته آفاق العالميّة وأضحى مُكونًا بارزًا ضمن نسيجها الحضاري وداخل سيرتها الفنّية وذائقتها الجماليّة.

لكنْ ما قيمة هذا الاعتراف المُستحقّ الآن؟ والخطّ العربي يقتحم أكبر المباني التاريخيّة العالميّة بألوانه الباهية وخطوطه المُتشابكة وأشكاله المُتباينة وهندسته المتنوّعة ونفسه التجريدي القويّ، ما أتاح له نسج علاقة قويّة البُنيان، شامخة التشييد، مع جميع الحضارات القديمة وأممها الإنسانية، حيث نعثر بين الفينة والأخرى على ملامح وأشكال مُتنوّعة لهذا الفنّ الإسلامي داخل نماذج فنّية تتعلّق بالعمارة والتشكيل على وجه الخصوص.

والحقيقة أنّ السبق التاريخي الذي لعبته العمارة في مسيرة تاريخ الفنّ العربي، جعلت هذا الخطّ ركيزة قويّة في تشييد بعض المباني الأثريّة، ذلك أنّه يتجاوز في ظاهره أنْ يكون عنصرًا جماليًا مُرتبطًا بـ “الأرابيسك” لأنّه ليس موتيفًا فنيًا ولا عنصرًا بصريًا يُعطي للصرح المعماريّ بُعدًا زخرفيًا، فهو تجربة فكريّة مميّزة تستمد ملامحها وزخمها الجمالي من الفنّ الإسلامي المُركّب. ورغم اهتمام المؤرّخين العرب على ندرتهم بتوثيق مشروع الفنّ الإسلامي ومساءلة لا مُفكّرة، إلاّ عنايتهم به، لم تتجاوز البُعد التاريخيّ التقريري المُستند على ذكر أحوال الماضين وفنونهم والوقوف طويلًا عند أطلالهم ونماذج مُبكّرة من هذا الفنّ وطبيعة الخطوط الفنّية التي كانت مُنتشرة تاريخيًا بين بلدٍ وآخر وأسباب انحصارها ضمن حدودٍ جغرافيّة دون أخرى، غير أنّ البُعد الحفري الذي يُقيم مساءلة فكريّة مع هذا الفنّ، ظلّ مُغيّبًا لأسبابٍ معرفية ستفرض نفسها بشكلٍ أكبر داخل ما يُسمّى بالفنّ العربي المعاصر.

وبرأيي يُمكن اعتبار كتابات كل من المغربي موليم العروسي واللبناني شربل داغر من أبرز الكتابات التي قاربت الفنّ الإسلامي من زاويةٍ فكريّة مُختلفةٍ، تتجاوز الأبعاد التجميعية، التي طغت على فيزيونوميّة الفنّ الإسلامي، مع اختلافٍ واضحٍ في الرؤية والمنهج والأسس المعرفية التي صاغت مسار تفكير كل واحد بين الفلسفة والتاريخ. لذلك لا غرابة أنْ يكتشف الزائر لبعض المُدن العربيّة كيف استحوذ الخطّ العربي على هويّتها الجماليّة وعلى مُجمل بناياتها التاريخيّة ـ الحضارية، لا كاختيار جماليّ فقط، وإنّما كسُلطة لا مرئية مارسها هذا الفنّ منذ القدم على مُتخيّل الشعوب العربيّة الإسلامية، فأنتجت صرحًا بصريًا مُتشبّعًا بسوسيولوجية الفنّ الإسلامي وتاريخه ومرجعيته، فهو فنّ ظلّ يحتكم عبر مساره الطويل جدًا إلى البيئة الاجتماعية العربيّة، وكان من الصعب إبان العصر الوسيط استيعاب هذا الفنّ خارج مداره الفكري الإسلامي وحيّزه الجغرافي العربي. لكنْ بعد التحوّل الذي شهده في مرحلةٍ ما، غدا من الصعب أنْ يبقَى حصرًا على العرب وبيئتهم الاجتماعية، فتم اختراق باقي الجغرافيات في نوعٍ من المُثاقفة التلقائية بين العرب وأوروبا، وهي مرحلة فنّية هامّة ستُبلور الفنّ الإسلامي بجميع مفاهيمه ومُرتكزاته وستُظهره لا بوصفه فنًّا “لاهوتيًا” أو “تزويقيًا” كما اعتبره بعض المُستشرقين خلال القرن العشرين، بل باعتباره فنًّا عالميًا تتناقله الأمم وتُشيّد على فلسفته المآثر التاريخيّة والبنايات المعمارية.

هذا وتُعدّ كل من سورية والعراق وأفغانستان والهند أكثر البلدان تأثرًا بالخطّ العربي لظروف تاريخيّة. ولكنّ أهمّها ظلّ رهينًا بعوامل دينية، لأنّ نشأة الدّين الإسلامي وانتشاره في مُختلف البلاد التي عمّر فيها، كانت أحد أهمّ العوامل الكبيرة التي ساهمت في انتشار الخطّ العربي، أوّلًا بسبب مرجعيته الإسلامية المبنية على فلسفة الدّين، وثانيًا بحكم أنّ وظيفته في البدايات الأولى، كانت تتّخذ صبغة اجتماعية تجعله في خضم المَشاغل اليوميّة وما يرتبط بها من كتابة العقود ونظام المراسلات وتشكيل الحروف على شواهد القبور وعلى جسد بعض المباني المعمارية. فكانت بعض الغزوات والفتوحات أهم اللحظات التاريخيّة، التي ضمنت استمرار الخطّ العربي، بعدما جعله الفنّانون العرب القدامى، ممن يُتقنون صناعة الخطّ العربي وتجسيده على العمارة، يحظى بأهميّة كبيرة في وجدان السلاطين وحاشيتهم وداخل الاجتماع العربي القديم ككلّ. ورغم ادّعاء بعض المؤرّخين والباحثين بأن الفنّ الإسلامي لم يتأثر عبر مساره الحضاري بباقي الفنون الأخرى، إلاّ أنّ بعض الدراسات الغربيّة كشفت بقوّة عن التأثير البيّن على مستوى عنصر الزخرفة، ذلك أنّ بعض نماذجها ظلّت تستمدّ مَلامحها التجريدية من الفنّ الإغريقي ونظيره الروماني، ما يجعل عملية التأثير والتأثّر بارزة، خاصّة في المرحلة القديمة، وهذا عاملٌ صحّي بالنسبة للفنون البصريّة عامّة، لكنّ بعض المُؤّرخين يُشدّدون من ناحية التأريخ الفنّي والخصوصية الجماليّة، على ضرورة ضبط واحترام استقلاليّة الفنّ الإسلامي عن باقي فنون الحضارات الأخرى التي عاشت نفس الأوج الحضاري من الناحية التاريخيّة.

الخطّ العربي: هويّة الفنّان العربيّ في منفاه

ولا شكّ في أنّه في مرحلة الغزوات والحروب والفتوحات التي عاشتها الحضارة الإسلاميّة بمراحلها المُختلفة، لم يبقَ فنّ الخطّ العربي جامدًا أو مُستقّلًا عن الحدث التاريخيّ، وإنّما تفاعل بدوره مع الأحداث وغيّر في كثيرٍ من المرّات ملامحه وجدّد نفسه في كل بقعةٍ جغرافيّة ظهر فيها، خاصّة في مرحلة أوج الإسلام، حيث تم تزيين الخطوط وتحسينها وصناعة مؤلّفات مخطوطة بها، لأنّ مرحلة الخطوط ارتبطت بشكلٍ كبير بانتصارات المسلمين وذيوع صوتهم كقوّة سياسية وعسكرية.

هكذا تمّ وضع الحركات الإعرابية في العصر الأمويّ وبدأ يتفرّع أكثر خلال العصر العباسي، ما أفرز كوكتيلًا مُتنوّعًا ومُتناغمًا بين الخطوط كـ: الكوفي والثلث والفارسي والنسخ والرقعة، ذلك أنّ كل خط يتمتّع بملامحه المُختلفة وشكله الهندسيّ القويّ المُتأّرجح، بين حركية الشكل ودقّة التنسيق ورقّة التنظير ورحابة الفراغ داخل بعض الحروف. وإنْ كان هذا التعدّد يعكس شيئًا، فهو يُضمر في طيّاته المكانة التي وصلتها الحضارة الإسلامية في ذلك الإبان، ذلك أنّه يُبرز فطنة بعض الخطّاطين العرب ودورهم في صناعة التاريخ الفنّي، انطلاقًا ممّا استحدثوه من خطوط وأشكالٍ ومقارباتٍ. وإذا كان الخطّاط العربي قد حظي عبر تاريخه بعناية خاصّة من لدن السُلطة السياسيّة، فهذا يعود أساسًا إلى أن فنّاني الخط لطالما اعتُبروا ضمن عليّة القوم، رغم أنّ التأليف التاريخي جعلهم يعيشون على هامش ذاكرته بسبب الخلط المفاهيمي الشائع إلى حدود اليوم بين الصانع والفنّان في المجال الفنّي والحرفي داخل العالم العربي.

أمّا تشكيليًا، فتُعدّ مرحلة جماعة البُعد الواحد في العراق من أبرز المراحل التاريخيّة التي عرفت تعاضد العلاقة جماليًا بين الخط العربي واللوحة المَسندية. ذلك أنّ جماعة البعد الواحد قد بلورت خلال الحقبة الحديثة رؤية بصريّة جديدةٍ تقوم على استكناه جوهر الفنّ الإسلامي من خلال عناصر الخطّ العربي وإعادة تطويعه على تضاريس وطوبوغرافيّة اللوحة المَسندية. إذْ بدت تجارب الفنّ العربي الحديث وكأنّه أصبح كاليغرافية. وهذا الأمر، هو ما جعل المدرسة الفنّية العراقية تصنع تيارًا تشكيليًا لا يمكن فصله عن الخط ومداراته الجماليّة، حتى غدت تُعرف تجاربه التشكيليّة به.

ورغم أنّ السياق التاريخي والأيديولوجي الذي شهدته المرحلة من لدن الاستلاب الغربي وطمسه للهويّة العربيّة، جعل الجماعة تُفكّر في صياغة مشروعٍ تشكيلي يقطع مع الوجود الغربي نسقًا وموضوعًا ومادّة، وذلك من خلال استحضار التراث البصريّ العربي عبر عنصر الخطّ وإعادة توليفه والاشتغال عليه بطُرقٍ مختلفة داخل اللوحة، إلاّ أنّ الاستخدام المُثير والمُتنوّع للخطّ العربي داخل التجربة الفنّية العراقية، وباقي التجارب الأخرى لاحقًا، بدت تجربة الحروفية تبدو في تكرارٍ رتيب.

فقد وجدت التجارب التشكيليّة المُنشغلة بالخط أنّها تُعيد إنتاج نفسها حيث تشابهت اللوحات وفق استخدامات مُعيّنة من نماذج الخطّ وفق وضعيات مُتباينة من اللوحة، بين الأسفل والأعلى والمركز، وصولًا إلى بعض التجارب التي اشتغلت على مفهوم الأثر داخل اللوحة كما هو الأمر مثلًا عند الفنّان المغربي عبد الله الحريري.

*كاتب وناقد مغربي