تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الفنون ولغة الأجساد وديناميكية الإبداع دون كلام

الفنون ولغة الأجساد وديناميكية الإبداع دون كلام

الفنون ولغة الأجساد وديناميكية الإبداع دون كلام

 

رضا ابراهيم
في دراسة نُشرت نتائجها مجلة «ساينس» عام 2012 جاء فيها «أن لغة الجسد من أصدق وأبلغ اللغات»، وقد أكد العالم النفسي الدكتور هيليل إفيزير أحد أعضاء فريق البحث قائلًا: «لا يمكن الجزم بالاعتماد على الوجه فقط ما إذا كان صاحبه يمر بتجربة جيدة أو سيئة، فعندما يكتفي الناس بالنظر إلى الوجه، فإن انطباعهم حول الحالة الشعورية للشخص تكون ملتبسة وضائعة نوعًا ما، لكن الجسد يصدر أصدق وأبلغ من اللغة التي يبوح بها الوجه”.

وفي دراسة أخرى قام بها علماء النفس، تبيّن أن 7% فقط من الاتصال يكون بالكلمات، و38% يكون بنبرة الصوت، بينما 55% يكون بلغة الجسد، كما وجدت علاقة وثيقة جدًا بين لغة الجسد «الاتصال الصامت» وبين الاتصال الناطق، يمكن تحديدها في ما يسمى الإعادة أو التكرار، لأن الحركات أو الإيماءات التي تصدر عن الجسد هي إعادة لحديث الشخص المتكلم بجانب التناقض، حيث يمكن للمتحدث أن يناقض أقواله عبر استخدامه لحركات وإشارات الجسد، إضافة إلى كون لغة الجسد بديلًا، يمكن للشخص استخدامها باعتبارها بديلًا عن الاتصال اللفظي، ولغة الجسد تُعد أيضًا توضيحًا ومكملًا للاتصال اللفظي، لأن حركات الجسد يمكنها أن تُبين وتوضح وتكمل المغزى والمقصود من الكلام، ويمكنها أيضًا توضيح وتعديل الرسالة التي يريد الشخص إيصالها، ولغة الجسد تستطيع تأكيد كلام الشخص كاستخدام تعابير الوجه للتأكيد علي الكلام.

ولا شك أن فن التمثيل نشأ أساسًا بدافع من غريزة المحاكاة، ومثلما شاع فن التمثيل بالعالم، شاعت كذلك لغة الأجساد، كمفهوم شمولي يمكن لكافة البشر فهمها، وخير مثال في العرض المسرحي ظهر أن وسيلة التعبير المرئية الذاتية للفنان ترتكز دومًا إلى جسده، بجانب مكملات أداء جسده من العناصر البصرية الأخرى، لكن جسد الممثل قد شكل نقطة انطلاق (ديناميكية) لتفعيل باقي عناصر العرض، ودومًا ما يدرك المتلقي معاني حركات الجسد دون كلمات، كونها حركات خاطبت الحواس مباشرةً دون قيود، ما يجعل المتلقي يُسهم بكل مشاعره بما يراه، واستطاع الفنان من خلال حركات جسده أن يُحقق خطابه البصري.

وحركات الأجساد ميزت ممثل عن غيره، رغم وجود تشابهات جمة سواء بأفعالها أو سلوكياتهما، وثبت أن مفهوم جسد الممثل علي خشبة المسرح لم يكن ثابتًا بكل العروض أو الأنواع، لكنه في حالة من التطور الدائم، وفي تحول وتغير، وذلك وفق ما يلحق به من تلك التطورات والأحداث التي يتم من خلالها العمل المسرحي، وذلك عبر عنه المسرحي الإيطالي «إيوجينو باربا» بأوضح الكلمات مؤكدًا فيها بقوله: «الجسد في حالة حياة يُمدد حضور الممثل وإدراك المشاهد، إنه لا يعني وجود شخص حاضر أمامنا، ولكنه تغيير مستمر وتفتُّح يتم تحت أبصارنا، إنه جسد في حالة حياة، لقد تم تحوير الطاقة المتدفقة أثناء سلوكنا الاعتيادي، لتصبح مرئية بصورة غير متوقعة».

وعبر تاريخ المسرح الممتد آلاف السنين كان الممثل هو مبدع العرض الأول، ومن الصعب معرفة كيف كان الممثل بتلك الفترة يُجسد الشخصية ويؤدي دوره، ولكن هناك حكايات وأساطير ومنها الإغريقية، والتي أكدت أنها قصصًا كان يؤديها بحركات الجسد ممثل واحد، ودومًا ما كان للممثل جوانب لا تنفصل عنه أبدًا عند تأديته لأي أدوار يقوم بها، وهما (الجسد والصوت) بجانب التصرفات، وتلك أمور ترافقه في مجمل مشواره الإبداعي من البداية وحتى النهاية، وأي اتجاه يتخذه الممثل يعتمد على جسده وعلى صوته، ولكن هناك حقائق تؤكد أن للجسد خصوصية ميزته بتكرار من شكليات (منمطة) وسلوكيات اكتسبها من مجتمعه الكائن به، ومن بيئته التي تعايش معها.

وظهر جليًا أن المجتمع له بالغ الأثر في التعامل مع جسد الممثل، فجسد الفنان علي وجه العموم تتراكم فيه (تقنيات) ذاتية، كما أنه يصعُب التعرف إلى جسد الممثل بمعزل عن مفهوم ذلك الجسد وفلسفته، ضمن تلك الحضارة التي ينتمي إليها ذلك الممثل، فنجد أن الجسد قد لعب بالثقافة الأوروبية منذ اليونان القديمة دورًا أساسيًا في مولد المسرح واستمراره عبر العصور التي أعقبتها، لأن جسد الممثل عند تحركه على خشبة المسرح لا يتخذ من شكله الخارجي أو تحولاته هدفًا أساسيًا للتعبير، وإنما وجب عليه أن يقوم بعملية (مزج) كامل لما بين شكل جسده الخارجي أو ما يعرف بـ(فيزياء) الجسد عبر حركاته وما بين مشاعره الداخلية، ودون ذلك المزج سيصبح الأداء الخارجي لجسده خاليًا من الانفعال النفسي، وبعيدًا تمامًا عن أعماق الشخصية التي يؤديها.

وفي بداية القرن العشرين شكل الجسد محورًا أساسيًا بالفنون كافة، بدءًا من الفن المسرحي، مرورًا بالفن السينمائي، انتهاءً بالفن التشكيلي وفن الموسيقي، واستحوذ الجسد على اهتمامات جميع خبراء الفن، كونه حقق استقلالية وحظي بخصوصية تامة. وبالنسبة للفن التشكيلي فالجسد هو مصدر إلهام وإغراء، وقد ظهرت تقاليد إبداعية جديدة مع الفن المعاصر، تتجاوز معاني المحاكاة والتقليد للتعبير عن طاقات التعبير التي يمتلكها الجسد من كافة الانفعالات والأحاسيس، كما تميزت معظم الأعمال التشكيلية باتخاذها عدة أساليب متنوعة، أهمها البحث في نقاط عدة، تتمثل في أمر توظيف جسد الفنان في الممارسات التشكيلية.

ويُعد توظيف الجسد في الفنون الجميلة مؤشرًا واضحًا ومباشرًا وصريحًا، والذي يمكن من خلاله معرفة أحجام ذلك العنف المسلط علي مجتمع الفنان نفسه في تلك الفترة الزمنية، كما تُعد (موسيقى الجسد) فنًا قديمًا، وهي موسيقى سرية يصدرها جسد الفنان بشكل أشبه بـ(الابتهال)، وبالآونة الأخيرة بالذات تم التركيز على موسيقى الجسد الاستنطاقية، وجرى تضخيمها بالمسرح لتصبح وسيلة موجودة ومعترف بها ضمن وسائل التعبير الفني، لاعتمادها الجسد بصفته (آلتها) الموسيقية.

فنرى الممثل الكوميدي الشهير شالي شابلن (1889-1977م) ومن ساروا على دربه من فناني السينما الصامتة استخدموا لغة الجسد بأفلامهم الصامتة. وقد أدرك شابلن بعبقريته الفذة ومنذ وقت مبكر عند دخوله مجال التمثيل أن إيماءات جسده ستصبح مفهومة من النواحي الدلالية، من قبل جميع المشاهدين بكل أنحاء العالم، بالرغم من اختلاف لغاتهم التي ينطقون بها، وفي أثناء تصوير شابلن أحد أفلامه طلب منه المخرج ماك سينيت القيام بوضع مكياج كوميدي قبَيل دخوله الاستوديو لتصوير المشهد، لكن شابلن الملهم لم يكن لديه أي تصوّر عما يجب عليه فعله، ففكر قليلًا حتى هداه فكره أن يضع ذلك الشارب الصغير، وارتدى على جسده النحيل تلك الملابس المتناقضة التي اشتهر بها دومًا. وكانت عبارة عن سروال واسع وسترة ضيقة وقبعة صغيرة وحذاء ضخم، وكلها ملابس لا تتناسب رؤيتها مع بعضها أبدًا، وعند خروجه أمام الكاميرا أدى حركاته المعروفة وجعل (جسده) يتحدث بتلك الحركات التي عهدت عنه، ليضجّ الاستوديو بضحكات هيسترية أخرجها الجميع ومن أولهم المخرج نفسه، ومن وقتها ولدت شخصية (الصعلوك) التي حطمت كل القواعد السينمائية التي كانت معروفة وقتها.

وبعد ظهور السينما الناطقة، ومع بدأ تراجع السينما الصامتة، رفض شابلن أن تكون شخصيته في الأفلام متحدثة، ورغم ذلك ظلت أفلامه محتفظة بنفس القيمة التي شغُف الجمهور بها، حتى لُقّب شابلن بسيد الشاشة الصامت.
*كاتب مصري