يحقق مسلسل «الدامة» (نسبة للعبة «الضامة») الذي يبثه التلفزيون الجزائري منذ بداية شهر رمضان، نسب متابعة قياسية، فكل حلقة من حلقاته تتعدى 3 ملايين مشاهدة، وهو في الوقت نفسه ، للمفارقة، يتعرض لسيل عارم من الانتقادات ومطالب بمنع بثه، لأنه في رأي الرافضين له يشوه صورة حي باب الوادي، أكبر الأحياء الشعبية في العاصمة الجزائرية.
ولعلها المرة الأولى في تاريخ الدراما الجزائرية التي يتعدى فيها الجمهور المتابع أبناء البلد إلى مشاهدين في دول عربية أعجبوا بالمسلسل، متجاوزين صعوبة اللهجة الجزائرية التي كانت عائقا أمام انتشار الأعمال الجزائرية في السابق، حتى وإن كانت هذه الحجة واهية في نظر البعض، فالأعمال الجيدة والسيناريوهات المحبوكة بعناية، يمكن بسهولة أن تفرض نفسها على المشاهد وتدفعه لأن يبذل جهدا في الفهم والتكيف مع لغة الخطاب. وسيناريو العمل الذي أخرجه يحيى مزاحم باختصار، هو في الواقع مجموعة قصص مفككة داخل المسلسل سيكتشف المتابع الروابط بينها في حلقاته الأخيرة. أما القصة الأبرز فيه، فهي لعائلة فقيرة تسكن في حي باب الوادي الشعبي (الحومة) الأب يعمل في الميناء والأم خياطة، لديهما ولدان مراهقان يدرسان في الثانوية يتاجران في الحبوب المهلوسة (الكاشيات) يتوفى الأب في حادث عمل، ما يضطر الأم للعمل، عاملة نظافة في الثانوية التي يدرس فيها ولداها. وهنا تكتشف الأم تعرض أبنائها للتنمر بين أقرانهم بسبب عملها، ويتطور الأمر لارتكاب ابنها جريمة ودخوله السجن بعد أن ضرب زميله وأرداه قتيلا، لتجد الأم نفسها وحيدة مع ابنها الأصغر، دون منزل بعد أن طلب الورثة بيعه.. وهكذا تتواصل الحلقات التي تتميز بتنويع درامي وتشويق كبيرين، ببروز أحداث جديدة ومطبات تواجهها الأم، شدت إليها المشاهد وجعلته ينتظر في كل يوم تطور القصة وتوقعات نهايتها.
غير أن نجاح المسلسل واستحواذه على اهتمام الجزائريين، وضعه في الوقت ذاته على مشرحة النقد وأحيانا الهجوم الحاد، الذي وصل إلى مساءلة وزير الاتصال نفسه أمام قبة البرلمان، فقال أحد النواب إن «هناك مبالغة كبيرة في ترويج أبطاله للمخدرات، وجعل المنحرفين نجوما على الشاشة، إضافة إلى كثافة استخدام الأطفال». وانتقد آخر الصورة المسيئة حسبه، التي أعطيت للحجاب، بسبب أن إحدى بطلات المسلسل محجبة بينما تقوم بترويج المخدرات وبيعها للشباب. وبدا أن الوزير محمد بوسليماني في رده لم يكن قاطعا ضد ما تبثه الدراما الرمضانية، واختار مسايرة النواب المحافظين بالحديث عن توجيهات عامة كانت قد قُدمت عبر «سلطة ضبط السمعي البصري» التي أصدرت بيانا قبل دخول شهر رمضان، يدعو القنوات لتجنب الانزلاق وراء الربح المادي ونسبة المشاهدة وتجنب الإثارة ومظاهر العنف في كل أشكاله وأنواعه، وأيضاً احترام المرجعية الدينية الوطنية، وحماية الأطفال وتقديم خدمة إعلامية ترقى إلى تطلعات العائلة الجزائرية.
وأخذ الهجوم على المسلسل منعرجا سياسيا خارج نقاش مضمونه المجتمعي، بعد أن ظهرت كتابة حائطية على خلفية أحد المشاهد بالرمز «MAK» الذي تحمله حركة استقلال القبائل المصنفة في الجزائر على أنها تنظيم إرهابي. وتسبب ذلك في مطالبة سلطة الضبط في التلفزيون الجزائري بتوضيحات، وتعرضه من جديد للاتهام ببث رسائل مشبوهة. وقاد التفتيش الدقيق في كل الصور التي يعرضها المسلسل، إلى استنكار ظهور كتاب «يهود الجزائر» في خلفية مشهد آخر، وهو ما اعتبره البعض توجيها مقصودا، بينما رآه آخرون نوعا من الهوس بمضمون المسلسل الذي يبتعد تماما عن معايير النقد الفني.
أما التلفزيون الجزائري، فوجد نفسه مضطرا أمام خطورة ظهور اسم التنظيم الانفصالي على شاشته، لإصدار توضيحات تنفي وجود أي تعمد في ذلك، مرجعا سبب ظهور تلك الكتابات خلال بث المسلسل الى «عدم التركيز، سواء أثناء التصوير، أو التركيب، أو عند إعادة مشاهدة الحلقات». وذكرت إدارة التلفزيون «أنها اتخذت إجراءات صارمة ضد المتسببين في ذلك››، كما برر التلفزيون العمومي في رده أن «هناك التباس في القراءة الصحيحة لهذه الأحرف، التي لا تعبر حسب سكان الحي عن رموز الحركة الانفصالية».
نقاش الدراما والواقع
آراء رافضي العمل رأت في عمومها وجود رغبة في استهداف طبيعة المجتمع الجزائري المحافظ عبر التغيير الناعم الذي تمارسه الدراما في العقول، وجعل المتلقي يستسلم لفكرة أن الظواهر السلبية أصبحت تسيطر تماما على المجتمع، ما يجعلها قدرا يجب التعايش معه وأحيانا الإعجاب به من خلال تصوير شخصيات تتقاطع فيها عوالم الجريمة مثل تجارة المخدرات ومظاهر مساعدة الآخرين.
ويرى الكاتب الصحافي أسامة وحيد، أن القضية أعمق والمعركة أبعد من التمثيل بمفهومه السينمائي إلى «التمثيل» في أحياء وشوارع عريقة، ارتبط وجودها بالتاريخ والبطولات، فأريد لها أن تتحول إلى جثث مُمَثّلٍ بها في لعبة التشويه والمسخ ولعبة «الدامة والدوامة». وتابع الكاتب في تدوينة له: «هدفهم، استهداف العراقة أينما كانت ومسخها والتمثيل بها ليسهل بعدها التمثيل بكل القيم».
وما استغربه الحقوقي والمحامي عبد الرحمن صالح في هذا السياق، أن المسلسل ركّز على حي باب الوادي وكأنه لا يعيش فيه سوى المسحوقين، تجار الممنوعات، وغاب عن الحلقات ولو بأدوار ثانوية نماذج لأشخاص ناجحين، لأثرياء، للإمام وأستاذ المدرسة». وأبرز أن «حي باب الواد الذي قدم إطارات ووزراء وولاة وضباط وقضاة ومحامين وأئمة أكبر من أن يتم اختزاله في علام أو رضا أو صليحة (شخوص المسلسل)». وخلافا لذلك، قال الناقد الفني محمد علال إن «العمل لا ينقل الواقع وإنما يقتبس حكايته من الواقع المعيش في حي باب الوادي، فالدراما محاكاة أكثر منها سردا توثيقيا، لهذا فالجدل القائم لا يمكن الاعتماد عليه، فهو مجرد آراء في معظمها فيسبوكية، وهذا أمر عادي عندما يتعلق الأمر بأعمال واسعة الانتشار تعرض خاصة في شهر رمضان».
وأوضح علال في تصريح لـ«القدس العربي» أن هذا النوع من الدراما برز في السنوات الأخيرة بشكل خاص مع مسلسل «أولاد لحلال» الذي حاز مشاهدة عالية عام 2018، ومنذ ذلك الوقت أصبحت مواضيع الدراما التي يطلق عليها «الأندرغراوند» تشد إليها المنتجين، وهي أعمال تحاكي الواقع، وتتطرق إلى قصص من الأحياء الشعبية، وهموم الشباب وتلامس جراح المجتمع المسكوت عنها. وأردف المتحدث: «مثل هذه القصص التي لم يعتد الجمهور الجزائري على مشاهدتها، خاصة في القنوات العمومية، تطرح السؤال حول علاقة الصورة التي يجب أن نسوقها عبر شاشة التلفزيون، ودور الدراما الذي يبدو أن الجمهور العريض لا يفهمه بسهولة، ما يجعله في العادة يصدر أحكاما ومقارنات غير فنية، متناسيا أن العمل الفني مهما اقترب من الواقع فهو يبقى مجرد فن يتميز بالخيال والحكي». ويشير علال إلى أن الدراما بالنسبة للملتقى العربي وليس فقط الجزائري دائما في قفص الاتهام، عندما تتناول السلبيات، وهي في عين السخرية عندما تقوم بتجميله. وما حدث من جدل حول مسلسل «الدامة» لا يخرج، حسبه، عن تلك المعادلة، حيث تحرك بعض سكان الحي للدفاع عن حيهم باب الواد، باعتبار أن ما قدمته دراما الدامة يعتبر تشويها للواقع.
سر نجاح العمل
لا شك في أن الجدل الحاصل وكسر بعض التابوهات المجتمعية، ساهما تجاريا في انتشار المسلسل، لكن هناك من يرى أن النقاش حوله لم يكن مصطنعا بغرض إنجاحه، بل استطاع المخرج والممثلون أن يجلبوا الاهتمام لعملهم عبر مضمون ما طرحوه للمشاهد. وفي رأي الروائي محمد كمون فإن هناك عدة أسباب تتقاطع لجعل هذا العمل الدرامي يحظى بكل هذا الاهتمام من طرف شريحة كبيرة من الجمهور. وقال في تدوينة له إن طاقم العمل كان فيه توازن جميل جعل البنية الدرامية تبدو واقعية لحد كبير، لكن الرقم الصعب في معادلة «الدامة» كان حسبه، دون مبالغة يتجسد في أداء الفنانة ريم تاكوشت التي أدت دور حورية وجعلت المشاهدين يذرفون الدموع، وهو أمر ليس بالبسيط، فالمشاهد الجزائري المعروف بصلابته، وجد أخيرا من يخرجه من عالمه الجليدي. وأضاف كمون: «منذ مسلسل الحريق وفيلم الأفيون والعصا، لم يتأثر الجزائريون بعمل درامي في هذا الشكل، وعندما سألت ريم: كيف فعلت ذلك؟ أجابت بهذه الطريقة: ما مرّ علينا ليس بالقليل، سنوات من الإرهاب والدمار، عقود من العنف، تعايشنا مع الأوضاع الاقتصادية المدمرة، وكنا نخبئ ذلك الحزن والكبت في داخلنا، اعتقد أني عرفت كيف أصل الى أعماقي، قبل الولوج لأعماق المشاهد، ما انعكس مباشرة على أدائي وتقمصي للشخصية».
نقلا عن “القدس العربي”