مهدي غلاب*
كَم من حبر أسالته؟ وكم من لون سكبته؟ هي الساحرة والمؤثرة في التاريخ الإنساني القديم والحديث برمته. قائدة البطالمة في عصرها لما يقرب من عقدين
(51-30 ق.م)، الملكة الفرعونية كليوباترا السابعة، يونانية الروح، مصرية القلب ورومانية الهوى إلى آخر رمق قبل أن تقضي ملدوغة بكوبرا (مصرية) مع عشيقها القائد مارك أنطونيو. لتغادر معترك السلطة من شُباك قصير وتدخل المجد والتاريخ من بابه العريض، بعد أن ساقت وسادت مصير وجدان أعظم قادة العالم الروماني العتيق (يوليوس قيصر ومارك أنطونيو).
بفضل شخصيتها الحكيمة الحديدية والجذابة غيرت مصير السياسات في مصر الفرعونية وفي روما الرومانية. لهذا اهتمت بها الحركات والتيارات التشكيلية المتعددة بُعيد الفترة الدينية القروسطية بالخصوص، واِنطلاقا من المدرسة النهجية (le maniériste) إلى الباروكية والروكوكية والرومانسية فالكلاسيكية بفروعها. رسمتها مختلف المدارس شامخة بلا هزيمة وبملامح جسدية وجمالية بطولية أخاذة بأصابع العديد من البارزين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، منهم الهولندي جان فان سكورال (Jav Van Scorel) والألماني جوهان ليس (Johann Liss)، والإيطالي ماسيمو ستانزيوني (Massimo Stanzione) وبعض أنامل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثل رائد الكلاسيكية الجديدة الفرنسي جان باتيست ريڤنولت (Jean-Baptiste Regnault)، وجان أندري ريكسنس (Jean-André Rixens) رائد الواقعية الفنية الذي عرف بتألقه في إنجاز البورتريهات التاريخية حتى أنهى مسيرته الفنية بـ170 بورتريه أغلبها لشخصيات تاريخية معتبرة.
لكن العمل المؤثر بلا منازع يبقى اللوحة ذات الأبعاد الإيمانية الموحدة التي أنجزها عام 1630 البولوني (شمال إيطاليا) المنشأ، الفلورنسي التوجه ورائد النزعة اللونية المجددة ڤيدو ريني تحت عنوان «كليوباترا والثعبان». وهي عبارة عن صياغة لنسيج تشكيلي مختلف عما قدمه سابقا، فتح فيه رفوف النشاط البحثي، في فترة تتموقع زمنيا في بدايات المدرسة الباروكية، ومحوريا ضمن مخلفات التأثير التكلفي (النهجية le maniérisme)، لتولد بذلك بداية وردية جديدة من بقايا رماد النهاية السوداء المخجلة تختزل البطولة والشموخ والحقبات الذهبية للتاريخ العربي القديم، بنظرة واحدة صامتة معبرة من ملكة متوجة، جعلتنا نعرج على المسحة التوحيدية في عالم وثني عتيق مشرك ومتعدد الآلهة.
سر النظرة الأخيرة وتظافر الإشارات المقدسة:
لا شك في أن باطن النظرة الأزلية نحو السماء التي جسدها ريني وسط خلفية مظلمة يعود إلى تسليط الضوء على الشخصية المحورية التي أثرت في توجهاته وما سر تأمل الخلق للبطلة كليوباترا، إلا تعبيرٌ على توجهه المشحون بالأبعاد الإيمانية الكنسية فقد جسدها بريشته ثلاث مرات كشخصية رسولية تربط بين الواقع والخيال أو الجسد والروح، برغبة ملحة في تملك الشخصية وإرادة في التنصير داخل أفق مظلم مجهول، لدرجة أن بعض النقاد اِعتبروا أن العمل غير مكتمل (بحث وتجديد في الألوان، بإضافة ألوان جديدة منها فخذ العذراوات مع أفق مظلم لشخصية مضيئة)، ولعل الغاية في ذلك إثارة الاِهتمام بتفاصيل جمالية وليدة، في عصر لم يتمكن بعد من الانفلات من براثن السلطة الدينية فجاءت اللوحة بخلفية ظلامية بقدر ما ترفع فيها الشخصية رأسها للتحرر من مصيرها المحتوم، بقدر ما تتطرق إلى ولوج عوالم الخلق واللاهوت.
وإذا انطلقنا من أسفل العمل نلحظ بلا شك الوضعية العمودية التي تتجه فيها زاوية النظر مباشرة إلى السماء، لتشكل بذلك عوالم توجه في حركة صعود من الأرض إلى السماء، فيه مثالية وسمو نحو عالم جديد بعد فشل تجربة الحال، وذلك باعتماد عنصرين اثنين في هذا المضمار: أولا رأس الملكة الفرعونية المرفوع إلى أعالي السماء ليشكل قبلة جديدة بعدما جرت العادة أن العيون والقلوب تتجه صوب المذبح (autel) قلب المعبد في الفترة الفرعونية إلى حدود بواكير المسيحية. ثانيا التشكل الهرمي الذي ينتهي بزاوية حادة يعبر عن رغبة الفنان في إنتاج ثقافة تشكيلية جديدة تتحرر من التقنيات الإيزوسيفالية العتيقة ( isocephaliques)، التي ظهرت أساسا منذ القرن السادس قبل الميلاد في الحاضرة السومرية (الهلال الخصيب) وعرف استعمالها في بيزنطة (الأناضول) ورافان (Ravenne إحدى عواصم العالم الروماني العتيق) في العصر الوسيط. وهو اِتجاه ذهب فيه قيدو على منوال نظيره كارافاج والمعلم الأول رائد التيار النهجي المهندس الإيربيني ( Urbino) رافائيل دي سنزيو.
كاتب تونسي