تحتل الدبكة مكانة مهمة بين أنواع الرقص الشعبي السوري، ويعتبر هذا النوع من الرقص متنوعاً بنتيجة التنوع الطبيعي الذي تزخر به البيئة السورية، بين مناطق الساحل والداخل وفي السهل والجبل، مروراً بالأرياف والمدن والبادية الشامية، لا سيما أن الدبكة اقترنت بالموضوع الشعبي، كاحتفالات الأعراس والجنازات والحصاد والمناسبات الاجتماعية، ليتفرد هذا النوع من الرقص بجماعيته وحيويته وأصالته الفنية.
والدبكة اسم يطلق على مجموعة من الخطوات والحركات المتسلسلة مع ضربات أقدام منظمة يشارك الجسم فيها للتعبير عن حيوية الشباب، ونعومة الفتيات وأنوثتهن في عفوية حلوة وبراءة فطرية. وترافق ضربات الأقدام نقرات الطبل بمصاحبة آلتي البزق والمنجيرة، فيبدأ طقس الدبكة من دار العريس الفسيحة، أو ساحة داره، حيث يعقد الدبيكة ما يسمى حلقة الدبكة، وهي حلقة غير مكتملة ومنقسمة إلى قسمين: بداية من أطول الراقصين قامة فالأقصر حتى الأخير، إذ يطلق على رأس حلقة الدبكة تسمية السندة أو “دبيك أول”، وذلك لأنه يسند الدبيكة، ويقودهم ضابطاً حركتهم وسيرهم كما تقتضي أصول الرقصة. إلى أن يأتي شاب من المشهود له بقيادة الدبكة وإتقانه جميع أنواعها، فيحمل سيفاً أو عصاً في يده، أو منديلاً مطرز الأطراف بحرير ملون، فيثير حلقة الدبكة ويحمسها بحسب الأصول، وهذا ما يسمى “القيدة”.
وتشكل الخطوة ميزاناً إيقاعياً في رقص الدبكة حيث تنوط حركاتها بضغط الخطوة التي تختلف من مكان لآخر في سوريا، فالدبكة الآشورية الطرطوسية ترقص على الخطوة الرابعة، بينما في دبكة “هالأسمر اللون” السريعة في حلب يكون الدبك على إيقاع الخطوة السابعة والنقر في الخطوة الثامنة، أما بقية الخطوات فتكون عبارة عن مشي موضعي وموقع. وتختلف مراوحة راقصي الدبكة أو ما يسمى الدبيكة بين منطقة وأخرى، إذ يؤدي أهل جبل العرب جنوب سوريا دبكة الهولية على الخطوة الرابعة والسادسة، متممين باقي الرقصة مشياً، فيما يدبك أهل حماة دبكة البرزية على جمل خماسية، ويؤدي أهل اللاذقية دبكة اللوحة على جمل سباعية وهكذا.
الشاب والمزمار
يقوم في وسط حلقة الدبكة شاب يحسن النفخ في آلة المزمار أو آلة الشبابة أو شاب يتقن قرع الطبل فيطلب قائد الدبكة “القيدة” من ضارب الطبل أن يدبكه للدبكة العربية، فيفتتحها بالإيقاع المطلوب ليلحق به السندة “الدبيك الأول”، بنقل الرجلين وحركة الجسم بضبط وإتقان، فيكون قدوة للشباب الذين بعده في خطواته الموزونة وتنقلاته المتقنة.
وترافق الدبكة أنواع عدة من الغناء يختلف في إيقاعه وسرعته بحسب نوع الدبكة، ففيما تؤدى بعض الدبكات من دون غناء لخفتها ورشاقتها ورزانتها ووقارها كدبكات “الشمس” و”الطيارة” و”المرصود”. في منطقة دير عطية في ريف دمشق تؤدى أنواع من الدبكات مثل “الدلعونا” و”اللا اللا” و”المعنى” و”يالأسمر اللون” و”الهولية” بغناء ذي سرعات مختلفة.
وتعتبر الدبكة السورية عبارة عن رقص مشترك بين جمهور يقوم بتمثيله مجاميع الشبان والشابات أيام الأعراس ومواسم الحصاد، فيشترك فيه من يشاء ممن يحسن القيام بحركاته وسكناته، وله إلمام بجميع أنواعه وإيقاعاته وأشعاره المقفاة من “عتابا” و”ميجانا” وفروق “الزلوف” و”المعنا”. فهناك عديد من أنواع الدبكة في درعا وسهل حوران جنوب سوريا، وأهمها الرقصة العادية التي تؤديها البنات، وتقوم على ميلان الجسم من الخصر فما فوق على الأنغام والدقات وإيقاع الدف والغناء والتصفيق.
وفي درعا أيضاً رقصات متنوعة من الدبكة كـ”الكرجة” التي يرافقها عزف على آلتي الشبابة والمجوز إضافة إلى التصفيق بالأيدي، إضافة إلى دبكة “البداوية”، التي يؤديها زوج من الفتيات والشبان، يرقصان فيها بالخناجر وسط حلقة متراصة، وتتصاحب مع إلقاء للشعر الزجلي والشعر البدوي، إذ تعتمد دبكة “الكرجة” على خفة الحركة والرشاقة.
رقصات حورانية
وتزخر منطقة حوران السورية بأنواع عدة من رقصات الدبكة كالجوفية والحورانية والفلسطينية والشمالية إضافة إلى الدرازية والميجة والسحجة. وهذه الأخيرة عبارة عن رقص إفرادي مختلط، أو زوجي في حلقة دائرية تصفق وتصيح نداء: “دح يوبا” وأحياناً “يا بو الحيش يا بو الحوش”، وتسمى عندها بالحاشي، وترتدي المرأة في هذه الدبكة عباءة، وتحمل سيفاً تضرب به الراقص الذي يتعرض لها أو يعاكسها، فإذا أصابت منه مضرباً خرج ليدخل غيره وهكذا.
وتختص كل منطقة في سوريا برقصاتها ودبكاتها، وفي هذا المجال هناك أنواع متنوعة من الدبكات الموجودة في منطقتي إدلب وحلب منها وأشهرها: الولدة والقبا والشيخاني والقوسر والطق أزلي والدملي، إضافة إلى الحلبي والعربية والغزاوية والصاجية. والدبكات الحلبية عبارة عن رقصات متوازنة يختلف بعضها عن بعض بخطواتها وسرعاتها، إذ يسيطر الإيقاع البطيء في دبكات الولدة والقبا والشيخاني، فيما يغلب الصخب والسرعة والديناميكية في دبكات الغزاوية والصاجية، خصوصاً أن الدبكة الحلبية تتضمن موازين للخطوة والنقلات اشتقها أهل حلب من رقص السماح الصوفي. إلا أن قوامها الدبك على الخطوة السادسة، متشابهة في ذلك مع الدبكة الحورانية.
ويتخذ الشباب السوري هذا النوع من الرقص الشعبي الفطري مدعاة للفخار بنسبهم وفتوتهم وتفننهم الحركي، وذلك عبر براعتهم في الرقص الخالي من الخلاعة والتهتك، ويعتمدون على الدبكة كنوع من الرياضة البدنية تارة، لمباراة الأدباء والقوالين الشعبيين، وتارة للتلذذ بأقوالهم ومأثوراتهم، في حين تتخذ النساء من الدبكة مناخاً للرقص والغناء والطرب، حيث تقسم دبكات الشباب إلى أنواع عدة أهمها العشارية والعرجاء والشرقية. إلا أن هناك فرقاً بين الرقصات التعبيرية والدبكة وألوانها، والتي تستعرض فيها سائر الألوان والمواضيع الشعبية، كالحصاد وقطف الزهور والنجارة وقطاف القطن والزيتون وغيرها من المواضيع العملية، إضافة إلى تجسيد العادات وطرق الأدعية والتصوف التي تستعرضها هذه الدبكات.
جلب العروس
وتدبك النساء دبكات هادئة عند جلب العروس من بيت أهلها، ثم يغيرنها إلى دبكة مستعجلة تشتمل على الوثب والنط والقفز والحركات السريعة، إلى أن يسلمنها للشباب أمام بيت العريس، فتبدأ دبكة تدعى السحجة، كما في منطقة جبل العرب ومحافظة الرقة، ويبدأ التصفيق بإيقاع رتيب يفتتح بوقوف الرجال متكاتفين بشكل قوس مرددين كلمة “أحيو” مع كل نوبة تصفيق، لينفرد بعدها واحد من الرجال عن الصف، فيستعرض الراقصين مردداً عبارة “والليلة ما في رواح”.
ومن الدبكات الأكثر شهرة في الريف السوري دبكة المثلثة الطرطوسية وكرجة الشيخ بدر وكرجة زيدل والدلعونا وسواها الكثير. وتخبرنا كتب التراث الحي في سوريا أن الدبكة كانت نوعاً من دبك القمح في أثناء الحصاد، وتقوم الدبكة على قرع الأرض بالأرجل قرعاً إيقاعياً، وهذا الدبك غالباً ما كان يرافقه الغناء وترديد المواويل كنوع من التكاتف والتعاضد بين الحصادين في أثناء فترات الحصاد الطويلة تحت الشمس اللاهبة.
وتعاني الدبكات السورية اليوم خطر انقراضها، وعدم الاهتمام بها لدى الدارسين ومصممي الكريوغراف إلا ما ندر، في حين يهتم قسم الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية بأنواع الرقص الحديث والمعاصر والباليه، ويهمل تراث الأجداد، الذي لقي اهتماماً به في سبعينيات القرن الماضي من قبل مديرية المسارح والموسيقى عبر فرقة أمية للفنون الشعبية التي كان لها صولات وجولات في تقديم الدبكات السورية، لكن هذه الفرقة لم يتم تجديد أعضائها منذ سنوات، ولم يعلن عن مسابقات جديدة لانتقاء راقصين شباب يرممون النقص الفادح في صفوفها، في حين توقفت أنشطة فرقة الرقة للفنون الشعبية لمؤسسها الفنان عبدالسلام العجيلي، بعد تحقيق هذا التجمع الراقص حضوراً في المهرجانات العربية والدولية، وتقديمه الدبكات السورية لا سيما في المنطقة الشرقية من البلاد.
فرق شعبية
وعلى رغم هذا التقهقر الواضح في دعم هذه الفرق الشعبية، فإن الحياة الفنية السورية تزخر بفرق عدة للرقص الشعبي ما زالت تواظب على إحياء هذا النوع من الرقص، وعلى رأسها فرقة جلنار للمسرح الراقص التي أسست عام 1997 على يد الفنان علي حمدان، وتضم ستين راقصاً وراقصة من مختلف الشرائح العمرية، وتعنى بتقديم الدبكات الشعبية في بلاد الشام، بينما تعتبر فرقة بارمايا للفلكلور السرياني من الفرق التي ما زالت تعتني بتراث الدبكة السورية القديمة، إذ أسست عام 2004 بإدارة مدربتها رمثة إسكندر شمعون، وتقدم بارمايا في برامج حفلاتها لوحات من الرقص الشعبي الحلقي على نحو “خا بنيسان” و”الخكا الثقيلة” وهي دبكات تعبر عن أعياد الميلاد ومراسيم الزواج السريانية القديمة، وسواها. وتكون بمصاحبة آلاتها الضاربة في القدم من زرنة وطبل وعود. وتعتمد هذه الرقصات على المراسم المؤداة فيها، أو على الأغنيات التي تقوم الرقصة عليها، والتي تأتي هنا كوريثة لفنون حضارات متعاقبة من سومرية وفينيقية وأكادية، إضافة إلى كلدانية وبابلية وآشورية وآرامية.
وتستمد هذه الدبكات شرعيتها من تراث أوغاريت على الساحل السوري التي قدمت أول نوتة موسيقية في حياة البشرية (1400 ق م)، مروراً بمملكة ماري على شط الفرات شرقاً، ومستندة إلى أقدم مدونة مؤرخة للموسيقى تعود إلى عصر البرونز (2900 ق م) وصولاً إلى مكتشفات موقع مدينة كركميش (مدينة جرابلس حالياً)، والتي عثر فيها أخيراً على منحوتة تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وتجسد مجسماً لعازف عود وعازف مجوز وراقصة بينهما.
ومن الفرق التي لا تزال تسهم اليوم في إحياء الدبكة كتراث شعبي فرقة غورتسي الفنية للجمعية الخيرية الشركسية، والتي أسست عام 1948. ونقلت غورتسي عبر أكثر من نصف قرن عراقة الدبكات الشركسية بحركاتها الحيوية وإيماءاتها وموسيقاها المبهجة وثيابها المزركشة، وأبرزت لمحات من الفروسية ومشاعر الفخر والكبرياء في دبكة القافا، في حين تعبر دبكة ثبارفه عن أسطورة النساء المحاربات في التراث الشركسي، وإتقان فنون القتال وركوب الخيل، في حين تصور دبكة “أبزاخ ودج” لقاء الشباب والفتيات للتعارف والزواج، أما رقصة “يسلاميه” فتجسد بحركاتها السريعة ورشاقة راقصاتها محاكاة الطيور وخفق أجنحتها، وذلك على النقيض من رقصة “شحه مافه” التي تتناول معاني الرجولة والقوة والشموخ في التراث الشعبي الشركسي.
وتحضر الدبكات الأرمنية كجزء من الرقص الشعبي السوري، وتعتبر فرقة ميغري بإدارة مؤسستها أذاد سفريان من أهم الفرق التي تعتني بهذا النوع من الدبكات. أسست ميغري عام 2001، وتقدم في برنامج حفلاتها لوحات متنوعة استقتها من أصل طوطمي كرقصة شجرة البخور، ورقصة شجرة المشمش إضافة إلى رقصة ماخوخابري الحزينة، والتي تجسد ذكرى الإبادة الجماعية، إضافة إلى رقصة “السيوف” لمؤلفها الموسيقار الأرمني آرام خاتشادوريان (1903-1978)، وفي هذه الدبكة استعراض لمشهد كثيف من التراث الراقص لبلاد آرارات.
وتعتبر فرقة آشتي للفلكلور الكردي من الفرق التي ما زالت تعنى بتقديم الدبكات الشعبية في شمال سوريا وشرقها، ويبرع راقصوها بأداء دبكات من القامشلي والحسكة وعفرين وعين العرب (كوباني) راسمين ما يشبه عناقاً ثقافياً بين عيد النوروز الكردي وطقوس الحداد الشركسي، وعيد الشهيد الأرمني، ورأس السنة الآشورية أوكيتو. وهو عناق ثقافي يبدو اليوم أكثر حضوراً في تعدديته وغناه الصوتي والحركي، وجعل من الدبكة كرقص شعبي سوري ما يشبه جسداً جماعياً لتعددية ثقافية لطالما اشتهرت بها البلاد منذ آلاف السنين، من دون أن تلقى الاهتمام الفعلي من الجهات الثقافية الرسمية.
نقلا عن “اندبندنت عربية”