تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الأغنية اليمنية في زمن الحرب.. قمع وهجرة وانتشار غير مدروس

الأغنية اليمنية في زمن الحرب.. قمع وهجرة وانتشار غير مدروس

الأغنية اليمنية في زمن الحرب.. قمع وهجرة وانتشار غير مدروس

 

محمد الصلوي
لم تمنعْ سنواتُ الحربِ الخمسُ اليمنيين من الاستمتاع بالموسيقى، التي ظلت شغفاً للكثيرين ممّن رأوا فيها ملجأً يخفّف عن كاهلهم آثارَ النزاعِ المدمر، وإن على نحوٍ معنوي. لم يزِدِ الإقبالُ على الاستماع للموسيقى فحسب، بل إن حراكاً موسيقياً قد تشكّل في هذه السنوات؛ الأمر الذي يشكّل ظاهرةً تستحق التناول. فإلى جانب بعض المغنين الشباب، الذين برزت نجوميتُهم في الآونة الأخيرة وتصدّروا مشهدَ الغناء اليمني، وتمكّنوا من خلقِ قاعدةٍ جماهيريةٍ واسعةٍ، وأصبحت بعضُ أغانيهم رائجةً بشكلٍ كبيرٍ في الداخل والخارج؛ بدأت حركةٌ موسيقيةٌ يمنيةٌ في اتخاذ مساقاتٍ متعددة. بعض هذه المساقات يحاول لملمةَ التراث الغنائي اليمني وتجديدَه، والبعضُ الآخر يسعى لإدخال تجاربَ جديدةٍ للحالة الغنائية اليمنية.

ولكن على الرغم من الشهرة الواسعة لبعض الفنانين اليمنيين الشبّان، وحالة الصخب التي تلفُّ إنتاجهم، إلا أن الكثيرَ من النقّاد الموسيقيين والمهتمين بالفن يُنْكرون عليهم أصالتَهم، ويصِفُونهم بالمؤدّين الذين حالفهم الحظُّ في زمنِ مِنصات التواصل الاجتماعي.

الهجرة إلى الخليج

نتيجةً للاهتمام المتزايد الذي باتت تبديه دولُ الخليج تجاه الفن والموسيقى، هاجر عددٌ من الفنانين اليمنيين للعيش والعمل هناك؛ في حين هاجر آخرون إلى دولٍ عربيةٍ أخرى. حيث استطاع عددٌ منهم جذبَ جمهورٍ كبيرٍ داخل الوسط الخليجي والعربي، وتمكنوا من إنتاج أغانٍ تضمنت ألحاناً جديدةً، مضيفين إلى هذه الأغاني عناصرَ غير التي عهدوها مسبقاً، والتي كانت تقتصر على الكلمة واللحن والأداء. يتجلى هذا التطوير في إدخال الآلات المتنوعة والتوزيع الموسيقي والأستوديو والمسرح، وغيره من التقنيات المتطورة. بالمقابل، ظل الفنان داخل اليمن محصوراً في العُود والإيقاع دون التجديد، مع استمرار انعدام التأهيل وغياب الدولة التي من المفترض أن تولي اهتمامًاً بهذا الجانب؛ إذ إن ما يقدمه الفنان هو مجرد نتاج مجهوده الشخصي.

ورغم الانتشار الملحوظ الذي شهدته الأغنية اليمنية على النطاق الإقليمي، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإخراجها من قالبها النمطي، من ناحية الألحان والأداء.

مؤخرًا، أحيا نخبةٌ من نجوم الفن اليمني سهرةً غنائيةً ضمن فعاليات موسم الرياض، الذي تنظمه الهيئة العامة للترفيه السعودية بمسرح أبو بكر سالم في الرياض. وتأتي هذه السهرة تحت عنوان “ليلة اليمن السعيد”، احتفالاً بالفن والثقافة اليمنية، من خلال وصلات غنائية وعروض قدمتها فرقٌ فلكورية. بدأت الفعالية بمشاركة عدد من الفرق اليمنية برقصات شعبية مختلفة، ولاقت تشجيعًاً كبيرًاً من الجمهور اليمني. أحيا تلك الفعالية الغنائية كلٌّ من أحمد فتحي، وحسين محب، وفؤاد عبدالواحد، وعوض بن سالم، ووليد الجيلاني.

استُهل الحفل ببعض من أغاني الفنان حسين محب المعروفة، كأغنية “أنت آية في الجمال”، ثم جاء دور بقية الفنانين بتقديم وصلات غنائية تفاعل معها الجمهور بشكل كبير.

رحيل نجم اليمن بعد مسيرة فنية ثرية

في ديسمبر 2017، رحل عن الساحة الفنية الفنان أبو بكر سالم بلفقيه، أحد أبرز نجوم الفن اليمني والعربي، بعد مسيرة فنية امتدت لخمسة عقود، تاركاً وراءه إرثاً ثرياً سيظلّ راسخاً في ذاكرة الفن اليمني والعربي بشكل عام. تميز الفنان أبو بكر بصوته العذب والفريد كأحد عمالقة الفن اليمني الذين أثروا المكتبة العربية بالكثير من الأعمال الفنية المتميزة. كان صوته أصيلاً وكاملاً، وعلامةً فارقةً في تاريخ الأغنية اليمنية والعربية. وقد لاقى رحيله صدىً واسعاً ونعاه يمنيون وخليجيون وعرب بحزن بالغ؛ حيث نعاه الفنان محمد عبده بالقول: “يظل أبو بكر سالم أستاذنا الكبير الذي نتعلم منه الشيء الكثير والكثير، فهو صاحب رسالةٍ فنيةٍ وثقافيةٍ، وله هويةٌ فنيةٌ منفردةٌ بذاتها. ونحن نستفيد من أدبه وثقافته”. كذلك نعاه وزير الثقافة اليمني الأسبق خالد الرويشان، بالقول: “مات أبو بكر سالم، كان يعاني سكرات الموت مع شعبه، كان صوتَ الفن اليمني الأول خلال ستين عاماً. طوال حياته، أصرّ أن يغني ألحانَ وكلماتِ بلاده اليمن انتماءً واعتزازاً”. وأصدرت مؤخراً شركة روتانا “ميدلي” منوعاً يتضمن أبرزَ أغاني أبو بكر، لاقى احتفاءً واسعاً.

والحقيقة أن لمثل هكذا حراكٍ خارجيٍّ، من قبل الفنانين اليمنيين، أن يشكل فرصةً ثمينةً للتذكير بالتراث اليمني وإعادةِ الهوية للكثير من الأغاني التي تم تداولها في الوسط الفني والإعلامي الخليجي، دون الإحالة إلى أصلها اليمني.

لا توجد جهة حكوميةٍ تُتابع أوضاعَ فناني الجيل الأول في ظروف الحرب، خصوصاً مع توقّف صرف المرتبات الحكومية في كثيرٍ من القطاعات الحيوية، وقد فاقمَ الانقسامُ السياسي في اليمن حالة الإهمال هذه.
فنانو الجيل القديم

وبمقابل التجارب الجديدة لبعض الفنانين الشباب، ومصادر الدخل المتنوعة لديهم، خاصةً مع الفرص التي سنحت لهم لإقامة حفلاتٍ غنائيةٍ خارج اليمن، نجد الإهمال (خصوصا في فترة الحرب) قد طال معظمَ فناني الجيل القديم ممن لا يزالون على قيد الحياة، أو ممن توفُّوا في ظلّ إهمالٍ رسميٍّ وشعبيٍّ، كالفنان عبد الكريم توفيق، الذي غادرنا مؤخراً.

ليس هناك أيُّ جهةٍ حكوميةٍ تُتابع أوضاعَ فناني الجيل الأول في ظروف الحرب هذه، خصوصاً مع توقّف صرف المرتبات الحكومية في كثيرٍ من الجهات الحيوية. وقد فاقمَ الانقسامُ السياسي في البلاد من حالة الإهمال هذه.

تابع اليمنيون في الآونة الأخيرة تكريمَ الفنان أيوب طارش عبسي، خارج اليمن، من قبل شخصيات يمنية عامة. ومؤخراً، تم تكريم الفنان عبد الباسط عبسي في صنعاء. ولاقت مبادراتُ التكريم هذه احتفاءً جمعيّاً. وهكذا انتشرت دعواتٌ من قِبَل مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي لتكريم بقية الفنانين اليمنيين الذين أثّروا في المشهد الغنائي اليمني. وهي دعواتٌ تستحق الاستجابة لها؛ حيث لم يبخل هؤلاء الفنانون يوماً بإثراء الغناء اليمني. وتشمل قائمة التكريم المقترحة فنانين، مثل: أحمد السنيدار ومحمد عطروش وعبد الرحمن الحداد ويحيى العرومة وعلي العطاس، وآخرون.

حالة استقطاب

لم ينجُ الفن والفنانون من حالة الاستقطاب الكبيرة في الساحة اليمنية، من قِبَل أطراف النزاع. وتم توظيفُ الفن لخدمة أعمال التحشيد والأعمال العدائية. وقدّم عددٌ من الفنانين في صنعاء أغانيَ ذاتَ محتوىً سياسيٍّ، تذمّ أشخاصاً وجهاتٍ معينة. وغفل الفنانون عن الآثار المترتبة لمثل هذه المواقف التي يمكن أن تحدَّ من انتشارهم الفني. ويأتي منع الفنان صلاح الأخفش من دخول المملكة العربية السعودية، على خلفية غنائه لمقاطع تذمّ المَلك السعودي، كمثالٍ على ذلك.

تضييق على الفن

لم يَسْلَم الفنُّ من عملية التضييق التي يشنها أطرافُ النزاع؛ ففي حين شرعتْ بعضُ الأطراف في منع إقامة أيِّ سهراتٍ غنائيةٍ في الأعراس، شن آخرون تحريضاً ضد الفن والفنانين بذرائع دينية تحرّم الاستماع للموسيقى.

وسبق أن منعت جماعة أنصار الله (الحوثيون) فنانين في مناطق سيطرتها من إحياء حفلات الزفاف، بحسب منشورات تداولها نشطاء يمنيون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما حدث للفنان علي خربي في منطقة عبس-حجة، بسبب غنائه في أحد الأعراس هناك. وأكد مقربون من الفنان خربي لـ”خيوط”، احتجازه من قبل سلطات أنصار الله (الحوثيين) في حجة، ثم الإفراج عنه بعد تعهده بعدم الغناء مرةً أخرى في الأعراس.

رغم المعوقات التي تواجهها على كافة المستويات، ظلت الأغنية اليمنية حاضرةً في زمن الحرب، وزاد الاهتمام بها، خصوصاً من قبل جيل الشباب. ومع ذلك لا تزال بحاجةٍ للتطوير العلمي والتقني عبر المعاهد والمؤسسات الفنية المتخصصة
وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها

مع التزايد الكبير في استخدام منصات التواصل الاجتماعي، انتشرت الأغنية اليمنية (الصنعانية تحديداً) في النطاق العربي، بفضل تسجيلاتٍ عفوية. فعلى سبيل المثال، لاقى تسجيلٌ لطفلٍ يبيع الماء، وهو يغني مقطعاً من أغنية “حبيبي أنت وينك من زمان”، رواجاً واسعاً من قبل مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، وبعض القنوات التلفزيونية التي استضافت الطفل الموهوب عمرو أحمد؛ وسرعان ما انتشرت الأغنية، وأعادت أداءها فرق غنائية عربية.

إصدارات غنائية

تضمنت أغاني الفنان والموسيقار اليمني أحمد فتحي في الآونة الأخيرة تطويراً لعناصر الغناء اليمني والعربي بشكل عام. حيث أنتج عدداً من الأغاني بألحان مختلفة، ولاقت تفاعلاً واسعاً داخل اليمن وفي الخليج. أبرز هذه الأغاني أغنية “عام السلام” التي لحنها على مقام العجم، وكذلك أغنية “أبشرك يا سالم” لحنها على مقام الكورد.

أما الفنان حسين محب، وبعد أن كان مقتصراً داخل اليمن على إحياء الأعراس والمناسبات، إضافة إلى تجديده لعدد من الأغاني اليمنية -أبرزها تلك التي غناها الفنان الراحل محمد حمود الحارثي- فقد هاجر إلى خارج اليمن، وظل يتنقل بين دول الخليج ومصر، لإحياء الحفلات الغنائية. وقد صدَرَ لحسين محب في الفترة الماضية أغانٍ بألحانٍ جديدةٍ ساد في أغلبها الطابع الخليجي، مثل أغنية “اختار لحظة دخولك” التي لُحنت على مقام الكرد. أما أغنية “الهوى أرزاق”، فقد حملت الطابع اليمني، حيث لحنها الفنان أحمد فتحي على مقام البيات. والأغنية من كلمات الشاعر أحمد الشرعبي.

وتمثل أغنية “يا ليالي يا ليالي”، التي غناها الفنان صلاح الأخفش، مثالاً على حضور الأغنية اليمنية في الفضاء الرقمي؛ حيث جاوزت حاجز السبعين مليون مشاهدة على اليوتيوب. كما غناها عددٌ من الفنانين، أمثال ماجد المهندس، وفؤاد عبد الواحد، وآخرون؛ مع العلم أن الأغنية سبق أن غناها قبل سنوات الفنان إبراهيم الطائفي.

الموسيقى اليمنية تدخل عالم الأوركسترا

شهد العام المنصرم تقديم الأوركسترا الحضرمية لأول مرة بدار الأوبرا الماليزية في “أستانا بودايا” بالعاصمة كوالالمبور؛ حيث أضيفت عناصر جديدة إلى التركيبة الموسيقية الحضرمية، مشكلةً بذلك مزيجاً فريداً من اللحن الغربي والحضرمي. حملت المقطوعات الموسيقية الست، التي تم تقديمها بقيادة المايسترو محمد القحوم، ألواناً مختلفة، مثل الدان والزربادي، وغيرهما من الألوان الحضرمية واليمنية. إضافة لذلك، شهدت دار الأوبرا الماليزية تقديم رقصات تراثية عريقة. وقد شارك في تقديم هذه اللوحة الفنية 90 عازفاً وراقصاً، غالبيتهم من اليمن، كما من دول أخرى، مثل ماليزيا واليابان، مشكّلين بذلك واحدةً من روائع الفن الموسيقي اليمني في ثوب عالمي.

ورغم المعوقات التي تواجهها على كافة المستويات، ظلت الأغنية اليمنية حاضرةً في زمن الحرب، وزاد الاهتمام بها من قبل الكثير، خصوصاً جيل الشباب. ومع هذا الاهتمام المتزايد يوماً بعد آخر، تظل الأغنية اليمنية بحاجةٍ إلى التطوير العلمي والتقني الذي تقوم على أساسه الأغنية. كما أن هذا التطور مرتبطٌ بتطوير المؤسسات ومعاهد التأهيل، التي من خلالها تتطور الأغنية اليمنية وتخرج من طابعها التقليدي.

نقلاً عن منصة “خيوط”