زيد الفقيه*
ارتبطت الموسيقى ارتباطًا وثيقًا بالحضارة اليمنية منذ ألفي سنة قبل الميلاد، وقد حُفرت صور بعض الآلات الموسيقية البدائية على الصخور؛ إذ ذكر الدكتور محمد عبدالله باسلامة أن الحضارة اليمنية السبئية شهدت استخدامًا واسعًا للآلات الموسيقية، ظهرت من خلال شواهد القبور السبئية المنحوتة على ألواح من الحجر الرخامي، واتضح من ذلك أن النساء هن اللاتي كن يعزفن على تلك الآلات، التي هي: العود، الهارْب، الصنج، الطبلة، الصلاصل.
ويذكر الهمداني في كتاب الإكليل أنه وُجد في مغارة متقادمة تمثالان عظيمان، هما في صورتي قينتين (جاريتين)، إحداهما تمسك بآلة الطنبور، والأخرى بآلة المزمار، ويعيد بعض مؤرخي الطرب والغناء والإيقاع ظهوره إلى وجود الإنسان على هذه البسيطة، ويرى بعضهم أنه وجد في عهد “عاد”[1]، وقد اشتهرت اليمن بالغناء عبر تاريخها الطويل. ويذكر المسعودي أن اليمن عرف نوعين من الغناء: الحِمْيَري، والحنفي، لكنهم -أي اليمنيين- كانوا يفضلون الحنفي، وكانوا يسمون الصوت الحسن “الجدن”، وأُخذ هذا الاسم من “علي بن زيد ذي جدن”، أحد ملوك حمير الذي يرجع إليه غناء أهل اليمن، وقد لُقب بـ”ذي جدن” لجمال صوته، وقد اشتهر المغنون اليمنيون في عصور مختلفة؛ ففي نهاية العصر الأموي وبداية العباسي اشتهر منهم “ابن طنبور”، الذي عُرف بالغناء الخفيف المسمى “الهزج”، ووصفه المؤرخون أنه كان أهزج الناس وأخفهم غناءً[2].
وذكر الأصبهاني في كتابه “الأغاني” من الأصوات ثلاثة: العربية، واليمانية، والرومية، ويذكر مثلًا: أن إبراهيم الموصلي قد غنى على الصوت لحنًا يمانيًّا[3]. وظل السجل الطربي في اليمن فارغًا حتى نهاية دولة بني نجاح في زبيد، إذ تشير المصادر إلى بعض الأسماء اليمنية في عالم الغناء، ثم تختفي وتظهر من جديد على أيام الإمام شرف الدين وابنه المظفر، فنسمع عن مغنٍ قدير يعزف ويغني في قصر الحاكم التركي بصنعاء، ويرجع الفضل في إشهار ذلك المطرب والحديث عنه إلى “عيسى بن لطف الله” حفيد الإمام شرف الدين، وليس أدل وأنجع على منع وتحريم الغناء في ذلك الوقت من عدم ذكر اسم ذلك المغني في الكتب التي تحدثت عن فنه. أما في العصر الجاهلي فقد كان الحُداء الذي يردده الجمّالة لإثارة النشاط في جِمَالهم ضربًا من ضروب الموسيقى، وقد كان للغِناء والموسيقى شأوًا كبيرًا في الحضارة العربية الإسلامية، وعلى وجه التحديد في العصر العباسي، وكان للعود وعازفيه الحظ الأوفر من اهتمام الخلفاء، وقد بلغ إسحاق الموصلي، أستاذ زرياب، مبلغًا مهمًّا ومرموقًا عند الخلفاء، حتى وصفوه بأوصاف بديعة، فقد قال عنه هارون الرشيد: “والله ما الغناء الذي يلين العريكة، ويفسح في الرأي والصدر، ويُحْدِثُ في النفس طربًا، إلا غناء هذا الرجل”، وقال عنه المأمون: “لولا ما سبق على ألسنة الناس ما اشتهر من أمر إسحاق، لوليته القضاء بحضرتي، فإنه أولى له وأعف وأصدق دينًا من هؤلاء القضاة”، وقال عنه الواثق بالله: “ما غناني إسحاق قطُّ إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي، إن إسحاق لنعمة من نعم الملك التي لم يُحظَ بمثلها، لو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريته له بشطر ملكي”، وحين نعي إلى المتوكل وفاة إسحاق قال: “ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته”، وقد تصدرت اليمن سائر البلدان العربية الحضارية في مثل هذا المضمار وحظي العصر الحديث بكوكبة من المغنيين.
طوَّر المطرب “هادي سبيت النوبي”، عزفه على العود باستفادته من فنان شمالي لم يذكر اسمه، ويعيد ظهور أول لحن لحجي إلى الشاعر والملحن والمغني “فضل ماطر”، الذي ابتكر أول لحن على الإيقاع اللحجي
الأغنية اليمنية الحديثة
يؤرخ كُتَّاب الفن لظهور الأغنية الحديثة في المحافظات الشمالية من اليمن بظهور الشيخ “سعد عبدالله” الذي كان يحفظ ثلاثة آلاف مقطوعة شعرية غنائية، أطرب بغنائه الناس والعصافير، وقتل في منطقة “متنة” (غرب صنعاء) سنة 1919، عندما حاصر الإمام يحيى صنعاء لطرد الأتراك. أما في المحافظات الجنوبية من اليمن، فقد ظهرت كوكبة من الفنانين إبان الاحتلال البريطاني لعدن، وكان الطرب والغناء مشاعًا بين فناني اليمن عمومًا، وقد ذكر الأستاذ محمد مرشد ناجي أن الغناء اللحجي قبل “أحمد فضل القمندان” كان متأثرًا بالغناء الصنعاني، وكان مغنو لحج يغنون الأغاني الصنعانية، إذ طوَّر المطرب “هادي سبيت النوبي”، عزفه على العود باستفادته من فنان شمالي لم يذكر اسمه، ويعيد ظهور أول لحن لحجي إلى الشاعر والملحن والمغني “فضل ماطر”، الذي ابتكر أول لحن على الإيقاع اللحجي، وقد دل على أن هادي سبيت كان يغني اللون الصنعاني قصيدة القمندان التي في بعض أبياتها:
غنّ يا هادي نشيد أهل الوطن غنّ صوت الدان
ما علينا من غناء صنعاء اليمن غصن من عقيان
حين كان هادي يغني أغنية صنعانية هي “غصن من عقيان أثمر”[4]، ومن المهم أن نشير إلى أن ثمَّة تيارات تجديدية في الغناء اليمني الحديث ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، هذه التيارات تتمحور في ثلاثة تيارات هي:
1ـ تيار استلهم تجديداته من الموروث التقليدي.
2ـ تيار استلهم تجديداته من الموروث الشعبي.
3ـ تيار استلهم تجديداته من الغناء المصري.
التيار الأول: ويمثله الشيخ جابر رزق، والفنان محمد مرشد ناجي، والفنان علي بن علي الآنسي، ومن أهم سمات هذا التيار المحافظة على التقاليد الغنائية اليمنية على الأصعدة النغمية والإيقاعية والأدائية[5].
التيار الثاني: يمثله أحمد فضل القمندان، ومحمد جمعة خان، وأيوب طارش عبسي، ومن أهم سمات هذا التيار الاهتمام بالمادة الغنائية الشعبية، وجعلها ركنًا أساسيًّا من أركان العمليات الإبداعية.
التيار الثالث: يمثله خليل محمد خليل، وأحمد بن أحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي، ومن أهم سماته أنه يَبُزُّ الأغاني العربية المصرية؛ لأن أصحاب هذا التيار يرون بالأغنية المصرية الأنموذج الأسمى للطرب العربي.
نكتشف التحول الغرضي للبالتين القروية والثورية، ونجد أن بالة الإرياني فذة التصور والتذكر، ثورية التحول والمنحى، مختلفة الأغراض، لكنها مستلّة من ذلك الكيان الشعبي اليمني الأصيل
أما الأغنية الشعبية فقد ذكر البردّوني أنها تطورت وتحولت على يد الأستاذ مطهر بن علي الإرياني، وكان هذا التحول قد استلّ روح قصيدته الشعبية من الموروث الشعبي اليمني الأصيل، وقد مثلت قصيدة “البالة” امتدادًا متجددًا من الفن الشعبي العريق، ومثلت قصيدة “فوق الجبل” امتدادًا متجددًا من “الرَّزْفَة” الحاشدية، ومثلت قصيدة “يا دايم الخير” امتدادًا متطورًا من أشعار “مهاجل علان” في أغلب مناطق اليمن، ومثلت قصيدة “الحب والبن” امتدادًا لأغاني الرُّعاة، ومن ثمَّ فقد تجلَّت فرادة الإرياني في هذا الإحياء للفن الشعبي، وإخراجه من إبط القبيلة وتحوصله في عرصات القرى، إلى الغايات الثورية الوطنية التي مثلت اليمن من حدود عمان إلى حدود الحجاز، وهناك شعراء آخرون شاركوا الإرياني في تحول الفن التقليدي إلى فن ثوري، كسعيد الشيباني، وصالح السعيدي، وعبدالله هاشم الكبسي، والفضول، ومحمد سعيد جرادة، غير أن فرادة الإرياني تمثلت في استنطاقه للموروث الشعبي، وعجنه بروح العصر لينتج قصيدة مغناة مختلفة عما ألفته الذائقة الشعبية، ومن الأمثلة التطويرية للبالة عند الإرياني والبالة القروية ما يلي:
يا باله الليل يا باله ويا الليل بال
يا احمد علي سعد أنا داعيك غزالك مدي
تقول شاني مطنش أو هدي ما هدي
هذه البالة فيها تعريض بالعروسة التي تزوجها زوجها تلك الليلة، لكن بعد أن دخل أخو العروسة إليها واستوضح الأمر، اكتشف أن الخلل يكمن بالعريس، فخرج للناس في حلقة البالة ورد على نسبه (صهره) قائلًا:
حلفت ما عد ترى مثلي مصاهر قدي
وضَّعتها لــــك ودخلتك إلى المرقدي
تقول: مَنْ العيب منكم؟ نسأل (المينـــــدي)
هكذا كانت مساجلات البالة، لكن الإرياني حول أغراضها، فقال:
والليلة البال ما للنسمة السارية هبت من الشرق فيها نفحة الكاذية
فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية
والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد
قلبي بوادي بنا وأبين ووادي زبيد هايم، وجسمي أسير الغربة القاسية
ذكرت أخي كان تاجر أينما جاء فرش جو عسكر الجن شلوا ما معه من بقش[6]
من هنا نكتشف التحول الغرضي للبالتين القروية والثورية، ونجد أن بالة الإرياني فذة التصور والتذكر، ثورية التحول والمنحى، مختلفة الأغراض، لكنها مستلّة من ذلك الكيان الشعبي اليمني الأصيل، لا نستطيع أن نغادرها إلا وقد عدنا إلى موروثنا الشعبي الأصيل. وقد تفنن الملحنون والمغنون في أداء هذا اللون الغنائي البديع، الذي لم يكتفِ بالبالة بل شكلت مع أخواتها “الإريانيات” مثل: “فوق الجبل”، “جينا نحييكم”، “يا دايم الخير”، “هيا نغني للمواسم”، “خطر غصن القنا”، “الحب والبن”، مدرسةً غنائيةً جديدة تنبع من أصالة الموروث الشعبي اليمني.
*باحث وقاص يمني
الهوامش:
[1] محمد مرشد ناجي، الغناء اليمني القديم ومشاهيره، د.ت، ط1، 1983.
[2] الغناء اليمني ومشاهيره، ص89.
[3] د.نزار غانم، خالد محمد القاسمي، جذور الأغنية اليمنية في أعماق الخليج، دار الثقافة العربية، ودار الحداثة 1993، ص166.
[4] انظر: المرشدي، ص107.
[5] انظر: جابر علي أحمد، تيارات تجديد الغناء في اليمن، مركز عبادي للطباعة والنشر، صنعاء، 2009، ص38، 39.
[6] انظر عبدالله البردّوني، فنون الأدب الشعبي في اليمن.
نقلاً عن منصة “خيوط”