تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » «أليونوشكا».. نظرة فتاة من حكاية شعبية تغزو القلب

«أليونوشكا».. نظرة فتاة من حكاية شعبية تغزو القلب

 

عوالم ساحرة استطاع أن يصنعها الرسام فيكتور فاسنستوف، «1848 ـ 1926»، الذي يعد من أشهر وأفضل فناني روسيا، يستلهم مواضيعه الإبداعية من التاريخ والفولكلور والحكايات الشعبية والأساطير. في بداياته الفنية رسم لوحات لها علاقة بالحياة اليومية، ثم انتقل بعد ذلك إلى فن الصور الشخصية، ثم الفن الشعبي، بعد أن قرأ عن الملاحم والقصص الخيالية التي أثارت إعجابه لدرجة أن قرر إعادة إنتاجها كلها في لوحاته، وعلى الرغم من أنه لم يكمل تعليمه الديني، إلا أنه تلقى تعليماً ممتازاً في الفلسفة، كما كان مهتماً بالعلوم الطبيعية والفلك.

ولد فاسنستوف في قرية لوبيال بمقاطعة فياتكا في روسيا من أسرة دينية، وتلقى تعليماً دينياً، غير أنه لم يكمل دراسته، وسافر بمباركة والده إلى بطرسبورغ من أجل الالتحاق بمدرسة الرسم التابعة لجمعية تشجيع الفنون ومن ثم بأكاديمية الفنون الإمبراطورية، وبعد التخرج، سافر إلى الخارج للاطلاع على المدارس الفنية في أوروبا، وشارك في معارض أكاديمية، وانضم إلى حلقة مامونتوف الأدبية والفنية، وصمم الجناح الروسي في المعرض العالمي في باريس عام «1898». كما صمم الطوابع المخصص ريعها لدعم صندوق إغاثة ضحايا الحرب في عام 1914. وقد وصف فاسنستوف بأنه أحد مؤسسي الحداثة الرومانسية والفولكلورية في الرسم وأحد أعلام حركة إحياء التراث في الفن الروسي، وكان له الكثير من التلاميذ الذين ساروا على نهجه.

لوحة «أليونوشكا»، التي رسمها فاسنستوف عام 1881، تعتبر من أشهر أعمال الفنان، بل ضمن اللوحات الأكثر شهرة في روسيا، وهي من الأعمال التي مارس خلالها هوايته المفضلة وشغفه الكبير في تناول الحكاية الشعبية الروسية والفولكلور والأسطورة ورسم أهم تفاصيلها، وهذه اللوحة استمرار لأعمال شهيرة أخرى مثل «بساط الريح»، و«الأبطال الثلاثة»، وغيرها من الرسومات التي تعلي من الحس القومي الروسي، وتعمل على الحفاظ على الهوية، وربما كان للتوجه الثقافي والسياسي دور كبير في أن يتجه الفنان نحو منطقة الأسطورة تحديداً، فقد كان من المقربين لاتحاد الشعب الروسي في أعقاب ثورة 1905، كما كان من الشخصيات التي تؤمن بالفكر الفوضوي، حيث قام بتمويل وتصميم صحف ونشرات الحركة الفوضوية، ومنها نشرة «كتب الحزن الروسي»، وفي عام 1915 شارك في تأسيس جمعية «انبعاث الروس»، الفنية مع فنانين آخرين في زمانه، وكل تلك الاهتمامات الثقافية والفنية والسياسية بلورت الموقف الإبداعي لدى الفنان، بحيث أصبح ينتمي إلى أدب وفن الحكاية الشعبية. في معظم لوحاته ليستعيد فاسنستوف طفولته التي عاشها في تلك القرية النائية حيث القصص الخيالية والغرائبية التي ساعدته على اكتساب مخيلة خصبة ساعدته على إنتاج تلك الأعمال، خاصة أن الفنان يميل إلى الفقراء وحياتهم، ويعمل على دعمهم بموهبته الإبداعية التي أنتجت مثل هذه اللوحة الخالدة.

«أليونوشكا».. نظرة فتاة من حكاية شعبية تغزو القلب

*حكاية
تعتبر «أليونوشكا»، تلك الفتاة التي رسمها الفنان في اللوحة، من الشخصيات الخيالية الشهيرة في الأدب الروسي، بل وتعتبر قصتها وشقيقها إيفانوشكا، أشهر حكاية شعبية روسية، وتتحدث عن فتاة يموت والداها فجأة، لتصبح هي وشقيقها بلا عائل، ليعيشا حياة اليتم والبؤس والتشرد، فتقرر الفتاة أن تهتم بشقيقها وترعاه، وبينما هما هائمان في الطرقات والغابات، يشعر الفتى بعطش شديد، غير أن شقيقته تحذره من الشرب من ماء البركة وإلا فإنه سيتحول إلى جحش، يصمد الفتى لكنه يشعر بالعطش مجدداً، فتطلب منه شقيقته الصبر وإلا سيصبح عجلاً، وعندما نشفت عروق الفتى من شدة العطش، طلب أن يشرب من البركة، غير أن شقيقته أخبرته أن البئر ليست ببعيدة، وإذا شرب من ماء البركة سيصبح ماعزاً صغيراً، غير أن الفتى وقع في المحذور، وشرب من ماء البركة ليصبح بالفعل ماعزاً، لتصاب أليونوشكا بالحيرة الشديدة، فتقرر أن تحمل الماعز وتمضي به، وأثناء تجوالها تتعرض للكثير من التجارب والمحن، غير أن النهاية، كما في الحكايات الشعبية، تكون دائماً سعيدة، ليعود شقيقها إلى حالته الأولى ويعيشا في سرور بعد أحزان وبؤس.

*وصف
في مشهد اللوحة تظهر الفتاة على ضفة نهر في الغابة، وهي مكسوة بالشقاء والأوجاع، بعد فراق والديها، لكونها قد أصبحت يتيمة وعليها مواجهة الحياة، وكل ذلك ينعكس على وجهها ومظهرها العام، فهي في تلك اللحظة التي التقطها الفنان تعيش في حزن لا يوصف، وتنظر في ذات الوقت إلى البركة بصورة عميقة وكأنها ترسل العديد من الأسئلة إلى أعماق المياه، ولعل كل أفكارها في تلك اللحظة، كانت تدور حول شقيقها، الذي شرب من بركة المياه، ولم يستمع إليها.

ترتدي الفتاة ملابس رثة رديئة ممزقة. وقدماها حافيتان، وشعرها مهمل، وهي تجلس على حجر رمادي بارد، وتضع رأسها على ظهر يديها بطريقة جلوس تدل على الحيرة وانقطاع الأمل والرجاء، بينما حولها غابات ملتفة من الأشجار، وكأن الفتاة نقطة صغيرة ضائعة وسط هذا العالم الموحش، حيث لا أنيس غير زقزقة عصافير السنونو، ووفقاً للباحث الشهير في الحكايات الشعبية أ. أفاناسييف، الذي كان زميلاً لفاسنستوف، فإن السنونو يجلب الأخبار السارة، والمواساة في المحنة، كما أن الغابة المظلمة والشعر المهمل للفتاة يعنيان في المعتقدات القديمة سوء الحظ والخطر والأفكار الثقيلة، وكأن المشهد يشير إلى أن الفتاة تعيش وسط جو شديد البؤس، وأن طاقة الأمل الوحيدة وسط هذا الخراب هي أصوات طائر السنونو، بالتالي فإن اللوحة تتمثل الحكايات الشعبية حتى على مستوى رمزياتها ودلالاتها.
تكمن براعة الفنان في توظيف نظام ألوان يعكس الحزن، وكأن كل الطبيعة تتعاطف مع حكايتها، كما استخدم فاسنستوف أيضاً تقنية التباين، فبينما كانت الطبيعة قاتمة ومظلمة بدرجات مختلفة من اللون الأخضر، تم التعامل مع وجه الفتاة بلون فاتح.

*إحياء الشخوص
لم يرد فاسنستوف من خلال هذا العمل، وغيره من الرسومات ذات العلاقة بالميثولوجيا والحكاية الشعبية أن يعيد إنشاء وترميم حبكة معروفة، وهي تفاصيل القصة، بل سعى نحو إحياء هذه الشخصيات الخيالية وجعلها تخلد في أذهان الناس لما تعنيه من قيم للخير والمحبة والجمال، ولكونها في المقام الأول ترمز للعادات والقيم الروسية الأصيلة «روح روسيا»، لذلك عمل في هذه اللوحة جاهداً على أن تكون الصورة قريبة ومفهومة، وخلْق مشهد دقيق حول بطلة الحكاية.