قدّم الرسام الفرنسي جاك لوي دافيد، «1748 1825»، إبداعات راقية وخالدة، وهو من أبرز فناني المدرسة الكلاسيكية الجديدة، ولد لعائلة من الطبقة الوسطى، ودرس الفن في الأكاديمية الملكية، وفي عام 1774، ربح جائزة روما، وبعد ذلك سافر إلى إيطاليا حيث تأثر بالفن الكلاسيكي، وبأعمال فنان القرن السابع عشر نيكولا بوسان. ومكث هناك ستة أعوام، ابتكر دافيد أسلوباً كلاسيكياً جديداً خاصاً به، واعتُبر المصور البارز لهذه المرحلة.
وكان دافيد مؤيداً نشطاً للثورة الفرنسية وصديقاً لماكسميليان روبسبيار «1758–1794»، وكان عملياً الحاكم المطلق للفنون تحت حكم الجمهورية الفرنسية، وبعد سقوط روبسبيار، تعرّض دافيد لتجربة الاعتقال، وعند إطلاق سراحه انضم إلى نظام سياسي آخر تابع لنابليون، وفي تلك المرحلة، نجح الفنان في تنمية طرازه الإمبراطوري الذي يتميز باستخدام ألوان البندقية «فينيسيا» الدافئة، وبعد انحسار سلطة نابليون الإمبراطورية وانتعاش آل بوربون، نفى دافيد نفسه إلى بروكسل، ثم إلى المملكة المتحدة الهولندية، حيث بقي حتى وفاته، وصار لدافيد العديد من التلاميذ، ما ضمن له التأثير الأقوى في الفن الفرنسي في بدايات القرن التاسع عشر، خاصة التصوير الأكاديمي الصالوني، ومن أشهر أعماله: «قسم القتال»، و«موت مارا»، و«نساء سابين»، و«نابليون عابراً جبال الألب». توفي دافيد في بروكسل، ومن أشهر تلاميذه الفنان البلجيكي فرانسوا جوزيف نيفيز.
وتعد لوحة «لافوزييه وزوجته»، من أبرز الأعمال الفنية وأشهرها لدافيد، بل اعتبرت من القطع الفنية النادرة التي توثّق مرحلة تاريخية في حياة الفرنسيين، فضلاً عن أنها توثق شخصيتين شهيرتين في مجتمع باريس في ذلك الوقت، وهما العالم أنطوان لافوزييه، وزوجته ومعاونته ماري آن بييريت، حيث تم تكليف دافيد برسم هذه اللوحة في عام 1788، وتتجلى في هذا العمل عبقرية الفنان وبراعته وأسلوبه الذي كونه من خلال توظيفه لأساليب فنية متعددة. تنتمي اللوحة إلى الطراز الإمبراطوري الذي عمل عليه دافيد، وأضاف إليه الكثير، خاصة في ما يتعلق باللمسات والمعالجات اللونية، وتوظيف الألوان الدافئة التي تتناسب مع تصوير مشاهد للطبقة الوسطى والأرستقراطية.
*وصف
رُسمت اللوحة بالألوان الزيتية على قماش، ويظهر فيها الزوجان لافوزييه، داخل مكتب الزوج الفخم، وترصد اللوحة تفاصيل الغرفة بشكل دقيق، فهناك الألواح الخشبية للأرضيات، وجدران الرخام مع ثلاثة من الأعمدة الكلاسيكية، والعديد من التفاصيل لمكتب شخصية مهمة في ذلك الوقت، وفي منتصف اللوحة يبرز الزوجان في وضعية تدل على التفاهم والصفاء والحب المتبادل بينهما، فالزوجة تقف بطريقة مائلة نحو زوجها، وهي تنظر إلى الأمام، بحيث يخيل إلى مشاهد اللوحة أنها تنظر إليه، وترتدي ثوباً ينتمي إلى تلك الحقبة من نهاية القرن الثامن عشر، وتضع شعراً يبدو مستعاراً بلون أبيض، وهو نفس لون الفستان مع طوق من «الدانتيل» وحزام أزرق يلفّ خصرها، وتستند إلى كتف زوجها بيدها اليسرى، ويدها اليمنى متكئة على الطاولة.
أما الزوج أنطوان لافوزييه، فهو يظهر في وضعية الجلوس، مرتدياً سترة سوداء وسروالاً مع جوارب، وحذاء يبدو ملتوياً من الطرف، ويرتدي قميصاً أبيض، ومن فوقه رداء أسود من الدانتيل ويضع شعراً مستعاراً، ووجهه باتجاه زوجته ينظر إليها بحب وحنو، فيما تظهر ذراعه اليسرى موضوعة على الطاولة، ويكتب بيده اليمنى شيئاً باستخدام ريشة، بينما تبرز الطاولة وهي مغطاة بمخمل قرمزي اللون، وهناك العديد من الصحف، وعلبة من المجوهرات، ومحبرة مع عدد من الريش والأقلام، ومقياس للغاز والضغط الجوي، ودورق كروي كبير على الأرض في يمين اللوحة، وعدد من الأدوات التي تستخدم في الأغراض العملية والبحثية، وفي أقصى يسار اللوحة هناك كرسي عليه مستندات ورداء أسود اللون، ويلاحظ النقاد أن وضعية الزوجين كانت غير اعتيادية في أواخر القرن الثامن عشر، وهو أمر مختلف عن المعايير التقليدية آنذاك.
ويلاحظ في اللوحة تلك البراعة المتناهية في توظيف وتوزيع الألوان واستخدام الإضاءة بدرجات مختلفة، بحيث يظهر للناظر أن المشهد طبيعي تماماً، كما تنسجم الألوان المستخدمة مع العلاقة بين الزوجين المحبين، فقد اهتم الفنان بإبراز تعبيرات الوجوه التي تدل على أن الزوجين يعيشان في أجواء من السعادة وتغمرهما المحبة، قبيل الثورة الفرنسية مباشرة.
*شخصيات
تعود أهمية اللوحة إلى الشخصيات التي تبرز في مشهدها، حيث إن الزوجين من الشخصيات المهمة والمؤثرة في مجتمع ذلك الوقت، ويتمتع كلاهما بالذكاء والثقافة، فالزوج أنطوان لافوزييه كان عالماً كبيراً في ذلك العصر، فهو مخترع وعالم وأحد النبلاء الفرنسيين وصاحب صيت في تاريخ الكيمياء والأحياء والاقتصاد، وهو أول من صاغ قانون حفظ المادة، وتعرّف إلى الأكسجين وقام بتسميته، وفنّد نظرية «الفلوجستون»، ويرجع إليه الفضل في فهم دور الأكسجين في عملية الاحتراق، وشرح تركيب الهواء من غازين، الأول يساعد على الاحتراق والتنفس وأسماه «هواء الحياة»، والآخر أسماه «آزوت» الذي أصبح في ما بعد «النيتروجين»، وفي 1777 نشر لافوزييه أبحاثه وأعاد تسمية العنصر المساعد على الاحتراق باسمه المعروف حالياً «الأكسجين»، وعادةً يشار إلى لافوزييه بأنه أحد آباء الكيمياء الحديثة.
أما الزوجة، فقد كانت هي الأخرى كيميائية وسيدة نبيلة في المجتمع الفرنسي، وكانت على قدر كبير من الثقافة والذكاء والاطلاع، وظلت تساعد زوجها على دراساته ومكتشفاته الكيميائية، كما لعبت دوراً محورياً في ترجمة العديد من الأبحاث العلمية، وكان لها دور أساسي في توحيد المنهج العلمي، وبعد قيام الثورة الفرنسية، حُكم على الزوج أنطوان لافوزييه بالإعدام شنقاً، لكن زوجته هي التي أنقذته، وعند المحاكمة تقدّمت بطلب العفو عنه، ورفض القاضي طلبها قائلاً: «إن الثورة لا تحتاج إلى عباقرة»، ولكن زميلاً له وهو جوزيف لاجرانج تدخل في قرار القاضي وأثناه عن ذلك الحكم عندما قال له: «إن قطع رقبة لافوزييه لا يستغرق دقيقة واحدة، ولكن 100 سنة لا تكفي لتعوضنا عن واحد مثله»، وتُعرض اللوحة حالياً في متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك.