تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » معزوفات بصرية للألم… سير الموسيقيين على الشاشة

معزوفات بصرية للألم… سير الموسيقيين على الشاشة

معزوفات بصرية للألم... سير الموسيقيين على الشاشة

 

في البدء ينبغي الإشارة إلى أنه حين نتحدث عن أهل الموسيقى والغناء والفن عموماً داخل المنجز السينمائي فإننا نكون في حضرة البيوغرافيا أو السير الذاتية على الشاشة الكبيرة، بخاصة أن السينما تعتبر أكثر الفنون البصرية التي وثقت تجارب عديد من رواد السياسة والفكر والعلم والموسيقى وحتى السينما نفسها.

فهناك اشتغالات بصرية مكثفة عملت على نقل تجارب من الواقع اليومي وجعلتها تعتلي عرش الصورة السينمائية بحكم الإمكانات التخييلية التي تحبل بها السينما مقارنة بالفنون الأخرى، ثم لقدرتها على ممارسة نوع من التوثيق التخييلي الذي بقدر ما يؤرشف التجربة فإنه يعمل في الوقت نفسه على تغذية العناصر التخييلية وإضفاء الشرعية عليها.

مقدمات أولية

تحظى أفلام السير الذاتية بمشاهدات عالية بحكم أن طرق معالجة بعضها تتميز ببعض الجدية، خصوصاً حين تكون ذات طابع تاريخي مؤثر في بنية اللاوعي الجمعي. وتكون هذ الأفلام ذات طبيعة ازدواجية، أي إنها تعتمد على نوع من الخطاب البصري المركب الذي يحول الصورة إلى ذريعة لتمرير بعض الأفكار السياسية. وحتى إن تحاشت الأيديولوجيا فإنها تبقى موجودة في الأقل من خلال عنصر اختيار السيرة / الموضوع بهدف تكريس فكرة أو منزع أخلاقي أو موقف سياسي أو تجربة فكرية أو فنية أو أدبية وغيرها.

إن السير الذاتية التي تنقل إلى السينما دائماً ما يغلب عليها التشويق ومحاولة الجري وراء التأريخ، فالكتب وحدها لا تكفل ديمومة هذه السير في نفوس الناس لا سيما مع مرور الوقت وزحمة الأحداث المتسارعة، بل إن هذه السير حين تكون في حضرة الصورة فإنها تضمن لنفسها بعضاً من الخلود، بخاصة إذا نجح المخرج في معالجتها كما الحال مثلاً مع سيرة عالم الرياضيات جون فوربس ناش (1928ـ2015) في فيلم “عقل جميل” (2001) لمخرجه رون هوارد وأداء كل من راسل كرو وإد هاريس وجينيفر كونيلي، الذي حصل على أربع جوائز “أوسكار”.

فالفيلم خال من التشويق لأن حدة التصعيد الدرامي وقدرة المخرج على تتبع مسار هذه الشخصية العبقرية في لحظات أليمة من حياتها جعله يحظى بمتابعة كبيرة على رغم أنه لا يستمد جمالياته فقط من خلال بناء الصور وتدرجها في اللقطات والمشاهد، بل من عمق النص الذي استطاع أن ينفذ إلى ثنايا هذه الشخصية ويلتقط إشارات دقيقة من حياتها ويعيد بناءها على شكل سيناريو سينمائي مكثف وغني بالصور والدروس والدلالات ذات العلاقة بشغف الرياضيات، وكذا الحرب ورسائلها.

حضور غربي مميز

يحظى هذا اللون السينمائي بأهمية كبيرة في السينما الغربية، ذلك أن النقاد يدرجونه ضمن الأفلام الأصيلة التي تحقق متعة بصرية هادفة بالنسبة إلى المشاهد. وعلى مدار سنوات حرصت العائلة السينمائية الهوليوودية على كتابة وإخراج أفلام سير ذاتية تتناول حياة عديد من الشخصيات العامة في مجالات متعددة تتعلق بالثقافة والفن والسياسة. وتختلف هذه الأفلام بحسب مرجعيات المخرج، إذ تبدأ حدة الاختلافات بتفضيل سيرة عن أخرى.

كما أن طريقة المعالجة الدرامية تجعل هذه السير واحدة في مساراتها الحياتية، لكنها تختلف وتتباين على مستوى تقنيات التصوير وطرق المعالجة. غير أن الأفلام ذات العلاقة بالسير الموسيقية يركز مخرجوها في العادة على مسارات الأبطال الحياتية والأسباب التي أودت بمغن أو موسيقي إلى النجاح واكتساح عالم الفن.

إن المشكل الذي يطرح نفسه إزاء هذه الأفلام في نظر عديد من النقاد يتمثل في مدى صدق المخرج في استعراض الحقيقة بكل فرحها وآلامها ومواجعها، معتقدين أن وظيفة المخرج هي نقل الحدث التاريخي مع أن السينما لا علاقة لها بالتأريخ، فهي فن بصري يقوم على صناعة تخييلية تهدف إلى التمويه وخلق عالم مواز للعالم الواقعي.

يتساءل الناقد اللبناني نديم جرجورة “أيحق لصناع عمل فني التطرق إلى الحميمي في السيرة الذاتية للشخصية العامة؟ أليس الحميمي جزءاً أساسياً من هذه السيرة ومن البناء الإنساني والفكري والذاتي للشخصية؟ ماذا يعني تحقيق عمل فني منصب على السير الخاصة؟ ألا يحق لمريدي هذه الشخصيات ومحبيها الاطلاع على كل العالم المتعلق بها؟ وفي المقابل ألا يحق للشخصية نفسها أن يكون لديها عالمها الخاص جداً، وأن تمنع أحداً من الدخول إليه والكشف عنه؟”.

ويضيف جرجورة “لن ينتهي النقاش النقدي المرتبط بالصنيع الفني الخاص بالسير الذاتية، فإذا كان السؤال الأساس كامناً في مدى قدرة النتاجات السينمائية والتلفزيونية على تقديم صورة حقيقية عن أصحاب تلك السير، فإن السؤال الأهم هو مدى امتلاك صانعي هذه النتاجات حرية إبداعية في مقاربة السير، ومدى الجرأة على تخطي المعلوم من أجل تبيان المبطن والمخفي”.

من التوثيق إلى التخييل

من هذا المنطلق فإن مخرجي السيرة الذاتية يتعاملون معها باعتبارها أرضية أو نص أدبي قابل للتخييل وفق مرتكزات قابلة للصدق أو الكذب، إن قراءة عنصر السيرة يبقى خاضعاً في أساسه لمفهوم التأويل، بالتالي فإن عملية التحويل نفسها لا تكاد تسلم من بعض المعوقات، لأن هدف المخرج يكون عادة الإبقاء على حرارة السيرة مع ضرورة التلاعب بالقصص الجانبية وفتح منافذ لها للتخييل. إن ما يبقي أفلام السير الذاتية ناجحة هو عامل الدراما، وهذه الأخيرة عبارة عن عنصر جمالي في السينما والتلفزيون، والصورة عموماً تعطي لهذه السير إمكانات درامية تجعلها تستقر في أذهان المتلقين لسنوات طويلة.

يقول الكاتب أحمد إبراهيم “تحمل الأفلام الروائية التي تجسد سيراً ذاتية لفنانين أو فرق موسيقية كثيراً من الخصوصية، فمن الشاق تقديم رؤية تطغى على الصورة في مخيلة الجمهور عن أحد الفنانين، لذلك بقي كثير من هذه الأفلام بعيداً من منصات التتويج أو الانتشار الشعبي، لكن بين الحين والآخر تبرز رؤى سينمائية تشكل خروجاً على المألوف بسبب نحتها ببراعة وتقديمها خصائص فنية فريدة أسهمت في صياغة هذا النمط السينمائي”.

من فيلم “Once” و”A Star is Born” إلى “Bohemian Rhapsody” و”Whiplash” وصولاً إلى “Begin Again” كلها أفلام غربية لم تتعامل مع سيرة الفنانين بطريقة ميكانيكية بقدر ما وضعتها داخل أفق تخييلي وصناعة بصرية مكثفة من أجل إضفاء نوع من الفتنة الجمالية على السيرة.

وهذه السير على اختلافها صورت جميعها موسيقيين من خلال لحظات الألم التي عاشوها بعيداً من مظاهر الفرح والنجومية التي تطبع حياتهم العامة، إذ تبدو الصورة أكثر درامية من الحياة الحقيقية، مع أن الأفلام المذكورة نجح مخرجوها في اختيار نجوم كبار قدموا أداء مذهلاً للتفاعل مع السير المقترحة، بل بدا الممثلون أحياناً وكأنهم أصحاب هذه السير الحياتية بعد أن عملوا على التماهي مع أصحابها لتقديم أفضل أداء ممكن.

ويأتي الألم هنا باعتباره طاقة تحرر الموسيقي من قيود التآكل التي يفرضها الواقع أحياناً، وتتعدد آلام هؤلاء الموسيقيين ابتداء من مشكلات مؤسسات الإنتاج أو القهر الاجتماعي أو علاقات حب فاشلة تدفعهم إلى الموسيقى للتعبير عن ذواتهم المكلومة أو التفكير في تحقيق الذات من خلال الغناء والعزف وغير ذلك. وهي قضايا سينمائية تتكرر من فيلم إلى آخر، لكنها تأتي مختلفة بحسب السياقات البصرية وأهدافها التخييلية.

 

المصدر/اندبندنت عربية