تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » سيرافين لويس الخادمة المعذبة انتشرت لوحاتها في متاحف العالم

سيرافين لويس الخادمة المعذبة انتشرت لوحاتها في متاحف العالم

سيرافين لويس الخادمة المعذبة انتشرت لوحاتها في متاحف العالم

 

في ميدان الفن الحديث والطلائعي، يشكّل الفرنسي باتريس تريغانو مرجعاً كبيراً، سواء عبر المعارض التي ينظّمها بانتظام، منذ 1983، في الغاليري التي تحمل اسمه في باريس، أو من خلال الكتب المهمة التي وضعها، على شكل حوارات أو روايات أو مسرحيات، حول وجوه شعرية وفنية كبرى، مثل أنتونان أرتو، رونيه كروفيل، ألان جوفروا وفرناندو أرابال، كي لا نذكر غيرهم.

ولا عجب إذاً في موضوع نصّه المسرحي الجديد، “سيرافينتي”، الذي صدر حديثاً عن دار “موريس نادو”، ويتناول فيه تلك العلاقة الفاتنة والمؤثّرة التي جمعت مكتشِف بيكاسو، براك وهنري روسو، مجمّع الفن الألماني ويلهلم أودي (1874 ــ 1947)، وخادمة ساذجة لم تمنعها ظروف حياتها المؤلمة من الرسم بريشة سحرية، أي الفرنسية سيرافين لويس (1864 ــ 1942).

بفضل أودي، تمكنت هذه المرأة المعجزة من التخلص من لعنة بؤسها ومن تكريس وقتها كلياً للرسم في غرفتها الوضيعة في بلدة سانليس الفرنسية، حتى عام 1932، حين رميت في مصح للأمراض العقلية في مدينة كليرمون إثر نوبة هذيان شديدة، فتوقفت عن الرسم وبقيت سجينة هذا المكان حتى وفاتها عام 1942. بفضل أودي أيضاً، ما لبثت لوحاتها أن حطّت في أكبر متاحف العالم، إلى جانب أعمال أعظم أسماء الفن الحديث. لكن هذا لم يكن كافياً كي تنال الرواج الذي تستحقه، لأن الذهنية البورجوازية الضيّقة التي تطغى على ميدان الفن بقيت لفترة طويلة عاجزة عن تقبّل إمكان أن تكون خادمة أمّية رسامة كبيرة. وبالتالي، كان يجب انتظار الفيلم الذي أنجزه المخرج مارتين بروفوست حول حياتها عام 2008، كي تخرج أخيراً من دائرة الظل.

رسامة الليل

في نصّه المسرحي، الذي أخرجته جوزيان بينسون في مهرجان “أفينيون”، لا يسعى تريغانو إلى سرد سيرة سيرافين التي كانت ترسم خلال الليل، على ضوء الشمعة، بطلاء الجدران، بل إلى سبر لغز عبقريتها، وفي الوقت نفسه، إلى تسليط الضوء على مأساتها. وفي هذا السياق، يذهب بنا مباشرةً إلى كواليس حياتها، واضعاً تحت أعيننا ويلات مرض فصام الشخصية الذي كانت تعاني منه، ونوبات الهذيان الصوفي التي كانت تجتاحها بانتظام، وناقلاً بؤس الغرفة التي كانت تسكنها وترسم فيها، واللامبالاة التي اختبرتها حتى رميها في المصحّ والتي جعلتها تبقى في عقلية فتاة في سن الثامنة، ثم الغرفة التي اضطرت إلى ملازمتها داخل المصح، برائحة برازها النتنة، لعدم السماح لها بالخروج منها لقضاء حاجاتها الجسدية، والطعام الفاسد الذي كان يقدّم إليها فيها، وملأ جسدها بالدود، ثم مرض السرطان الذي أصابها في نهاية المطاف وخلّصها من ظروف اعتقالها المرعبة، ولكن ليس قبل أن تختبر عوارض ألمه التي لا تطاق.

باختصار، يشيّد تريغانو سينوغرافيا صاعقة ومصفّاة إلى حد كبير، لا مساحة فيها سوى لعزلة شخصين جمعهما الفن: سيرافين التي بالكاد اعتُبرت كائناً حياً في مدينة سانليس، وحاميها أودي، الـ “مذنب” لأنه كان ألمانياً في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، كما كان مثلياً في مجتمع لم يكن متسامحاً مع ذلك، ثم لأنه كان مدافعاً عمّا اعتبره النازيون “فناً منحطاً”، فاضطهدوه. سينوغرافيا تقوم على حوارات خيالية تغوص بنا في قلب العلاقة التي جمعت هاتين الشخصيتين اللتين لم يكن من المفترض أن يجمعهما أي شيء.

سيرافين لويس الخادمة المعذبة انتشرت لوحاتها في متاحف العالم

وتجدر الإشارة هنا إلى أن تريغانو لا يسمّي بطلة نصه “سيرافين دو سانليس” (بدلاً من سيرافين لويس) اعتباطياً، بل لتوكيد نبل بل وموهبة هذه المرأة المتواضعة ومقابلتهما بالغرور والبلادة في ذهن المجتمع البورجوازي الذي ولدت وعاشت فيه. مجتمع يجعل أبناؤه خدمهم يعملون من الفجر إلى الغروب من دون أن يوجّهوا إليهم كلمة لطيفة، بل فقط الأوامر. ومع ذلك، لم تكن سيرافين تبالي بهذه المعاملة، بل كانت تصعد إلى غرفتها، بعد فراغها من تلميع الأثاث والأرض في المنزل التي كانت تعمل فيه، وتمضي الليل في رسم لوحات باهرة كانت تقدّمها مجاناً للآخرين.

“أعطيها للناس الذين يحبونها”، قالت يوماً بتواضع لأودي الذي انطلقت علاقتها به إثر تلقيه يوماً دعوة من أرباب عملها لتناول العشاء في منزلهما، ومشاهدته فيه لوحة لها صعقته بقيمتها التشكيلية. فقرر بأي ثمن انتزاع اعتراف بموهبتها المدهشة من عالم الفن الذي كان يعرفه أفضل من أي شخص آخر: “منذ مشاهدتي عمل فان غوخ، لم أر شيئاً بهذه الفتنة”، أقرّ لاحقاً. وعن سبب افتتانه هذا، يقول: “ثمة شيء ساذج في هذه اللوحات. وهذه السذاجة بالضبط هي التي تهزّني. لوحات صافية، مجرّدة من أي تأثير. لوحات لا تدين بشيء للماضي، متحرّرة من القواعد والإكراهات والتعليم. لوحات انبثقت من النعمة، من الفطرة، من شيء إلهي”.

رؤية صوفية

ولا مبالغة في استخدام أودي صفة “إلهي”، لأن سيرافين أسّرت له، في لقائهما الأول، بأن مريم العذراء هي التي كانت تلهمها وتحثّها على الرسم: “كانت تكلّمها كل مساء وتقترح عليها إرشاد يدها. وقد تزامنت هذه الدعوة إلى الفن مع ظهور الأعراض الأولى لمرض انفصام الشخصية لديها، في سن الثانية والأربعين”. ويوضح تريغانو، مذكّراً بأن هذا المرض مألوف لدى المبدعين: “فرض الجنون نفسه تدريجاً عليها، كما على فان غوخ، أو غويا في نهاية حياته، أو أونيكا زورن التي انبثق تأويلها المزدوج للواقع خلال نوبات الفصام”. جنون جعل سيرافين تخترع في هذيانها حياة خيالية لها وخطيباً يتحضّر للزواج منها، كما دفعها ليلةً إلى البقاء داخل كنيسة سانليس لتلوين تمثال العذراء بلون زهري، وهو ما أغضب مختار البلدة، فأمر بإدخالها إلى مصحّ كليرمون المشؤوم.

بين عامي 1912 و1932، رسمت سيرافين 114 لوحة تستحضر في موضوعاتها الزهرية، وأيضاً في الهلوسات الباهرة التي نستشعرها في عملية تشكيلها، بعض لوحات فان غوخ التي كانت الفنانة تجهله كلياً. لوحات منفّذة بدقّة مدهشة وأسلوب فريد، تحضر فيها زهور فردوسية تتعاشق سيقانها بسحر نادر، وتتخذ التويجات أحياناً شكل الجنس التناسلي للمرأة، بينما تتحول أطراف أوراقها إلى إِبَر. أعمال انتهت بمعظمها داخل مجموعات أكبر متاحف العالم بفضل أودي الذي لا يهمل نص تريغانو المسرحي قدره الاستثنائي والمأساوي، تماماً مثل قدر سيرافين.

هكذا نعرف أن موقفه المعادي للنظام الإمبراطوري، عام 1914، جعل منه رجلاً مطارَداً: “مع رفيقي هيلموت، الذي كان يجهد لمساعدتي، كنت أهرب بحقيبتي من مدينة إلى أخرى: فيسبادن، ميونيخ، فرانكفورت، فايمار، برلين، هايدلبرغ…”. وفور اندلاع الحرب، نُهِبت الكنوز المعلقة على جدران شقته الباريسية، لكونه مواطناً ألمانياً، وبالتالي “عدواً لفرنسا”: “12 لوحة لبيكاسو، 22 لبراك، عشرات لهنري روسو وماري لورانسان، إضافة إلى لوحات سيرافين، بيعت في المزاد العلني في “أوتيل دروو” لأشخاص انتهازيين”. سرقة رهيبة وجائرة ما لبثت أن تكررت بعد 25 عاماً، على يد النازيين هذه المرة، إثر اجتياحهم باريس. مجرمون لم يكتفوا بنهب شقته، بل جرّدوه أيضاً من هويته الألمانية بسبب مواقفه السلمية، وطاردوه بسبب ميوله الجنسية.

يرى تريغانو في أودي “أيوب العصر الحديث”، ملاحظاً أن القسوة التي هدمت حياته تزامنت مع تلك التي هدمت حياة صديقته، فيكتب: “لا يلبث انزلاق سيرافين نحو الفصام أن يشكّل صدى لمأساة أودي الشخصية”. وتصويره الحاذق والمؤثّر لهذا التلازم في المحنة هو ما يمنح نصّه كل قيمته، وما يميّزه عن الكتب القليلة المتوافرة حول سيرافين.